الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 1 قصص من حرب اسرائيل سنة 1973

القصص المنشورة
ــــــــــــــــ
ـ الرسالة
ـ الحارس
ــــــــ
الرســـالة
قصة محمود البدوى

فى ليلة من ليالى أكتوبر استدعى الملازم " كمال " الضابط فى الجيش من بيته فى ضاحية مصر الجديدة .

وبعد أيام قليلة اشتعلت نيران الحرب بيننـا وبين اسرائيـل ، فعرفت زوجته لماذا استدعى زوجها فى الليل .

وفى غمرة الحرب والعبور والانتصار ، نسيت سهير نفسها ، ونسيت زوجها .. وأصبح الفرد لا وجود له فى نظرها بعد أن تحرك المجموع .

نسيت فى هزة الانتصار زوجها كضابط .. ورأته فى رمال سيناء ، قدمين صغيرتين تتحركان وسط الوف الأقدام القوية نحو هدف عظيم .

وسط دخان المعركة ودوى القنابل والصواريخ وأزيز الرصاص .. أصبح زوجها بكل صفاته الخلقية وشجاعته .. ترسا صغيرا فى آلة كبيرة تتحرك فى عنف وضراوة .. فلم يعد له صوت مع صوت الآلة وضجيجها .. وإن كان له وجود حتمى .

وكانت تسكن فى شقة صغيرة من عمارة كبيرة بتلك الضاحية ، وفى نهاية خطوط " المترو " .. حيث السكون المطلق ورمال الصحراء .. التى تذكرها دوما برمال سيناء ، التى يحارب فيها زوجها .. وتقيم معها " شغالة " فوق العشرين تؤنسها فى وحدتها ، وتعاونها فى عمل البيت .. وان كانت سهير فى الواقع تقوم بعمـل البيت كله حسب مـا تعودت فى بيت أبيها قبـل أن تتزوج .

ولهذا اعتادت أن تخرج فى الصباح ومعها الشغالة .. وتركب " المترو " محطة ومحطتين .. لتذهب إلى السوق بنفسها ، وتشترى ما يلزم للطعام اليومى .. ولم تنقص الكمية إلا قليلا .. لأنها كانت تتوقع عودة زوجها فى كل ساعة .

ولم تكن وهى خارج البيت فى النهار ترى الاحساس بالحرب فى وجوه الناس ، وكان ذلك يغيظها أولا ولكن بعد التفكير أدركت السبب .. فالحرب بعيدة عنهم .. ومن أبرز صفات الناس فى القاهرة الهدوء ومزاولة عملهم اليومى بصورة عادية ، فهم يملكون زمام أعصابهم .. وتظهر شجاعتهم بأروع صورها فى ساعة الاختبار .

أما فى الليل فكانت سهير تحس بالحرب كأنها قريبة جدا .. من الاظلام التام لمصابيح الشوارع .. وقيود الاضاءة فى البيوت .

وكان الظلام يطبق برواقه على هذه المنطقة الصحراوية القليلة السكان بعد الغروب مباشرة .. ويخيم السكون التام والوحشة الرهيبة .

ولذلك ندر أن تخرج " سهير " فى الليل أو تنزل إلى الشارع .. وقد أوجد الظلام الفة قوية بين سكان العمارة .. لم تظهر بمثل هذه الصورة من قبل قط .

وتطوعت السيدات فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسـائية .. ليعملن فى المستشفيات ، ويقمن بإرسال الهدايا والرسائل إلى الجنود فى الجبهة . وكانت سهير وهى فى بيتها تشاركهن هذا العمل بفرح ونشاط .

وأحست بان كل من حولها قد تحول بمشاعره إلى مكان هناك فى سيناء .. وفى هذا المكان تتجمـع كل الرغبـات والجهود وتتبلور .

وفى مساء يوم توقف القتال .. وأخذ بعض المقاتلين يعودون من الجبهة فى أجازة قصيرة .

وكانت " سهير " تتوقع عودة زوجها كما عاد هؤلاء .. فلما لم يحدث هذا .. بدأت تقلق وتنتابها الهواجس .

وكانت تقرأ السؤال عنه فى عيون جيرانها وصديقاتها .. دون أن يسألوها بألسنتهم .. شفقة بها وعطفا عليها .

وعندما تقرأ خواطرهم وما فى أذهانهم من أفكار .. يشحب لونها .. وتتندى عيناها بالدموع .

ثم بلغ القلق مداه عندما أخذ أهلها يسألون عنه صراحة فى التليفون وفى زيارتهم لها .. وفى كل يوم يكون السؤال الذى يمزق أعصابها .. فاضطرت بعد التفكير أن تكذب وتقول لهم بأنها تلقت منه رسالة حدثها فيها عن عمله البطولى فى الحرب .. وكيف كانت فرقته أول فرقة فى الجيش عبرت القناة ورفعت العلم .. وسرى الخبر فى الحى الصغير الذى تعيش فيه . . وأحست بأن الناس ينظرون اليها فى إكبار .. وكل واحد منهم يتمنى أن تكلفه بخدمة .. كانت السعادة تغمرهم إذا ساعدوها فى أبسط الأشياء .

وكانت فيما مضى من الأيام تسخر من الناس البسطاء الذين تسمعهم فى الإذاعة يبعثون بسلامهم إلى أقربائهم البعيدين عنهم .

فأصبحت الآن تتوق لأن تفعل مثلهم .. تتلهف الآن لأن تبعث السلام والتحية إلى زوجها .. البعيد عنها .. وتعطى روحها لمن يسمعها صوته فى الراديو .. صوته من بعيد وهو فى قلب سيناء .

أما من يحمل اليها رسالة منه فإنها تعطيه كل ما عندها .. كانت الرسالة تستغرق كيانها وبؤرة شعورها وأصبحت تحلم بها .

وكانت تجلس فى الصالة مدة طويلة وحدها .. وتدع الشغالة تنام .. لأن الصالة قريبة من الباب الخارجى الذى تجىء منه الرسالة .. وإذا قرع الجرس .. جرت متلهفة إلى الباب .. فإذا وجدته صبى المكوجى أو بائع اللبن .. تخشبت على الباب وأصيبت بخيبة أمل .. وقد تسب الطارق .
ولكنها تنتظر ..

أصبح التفكير فى شىء واحد .. الرسالة .. التى يحملها رسول .. أو تجدها تحت عقب الباب .. هى شاغلها الوحيد فى الحياة .

كانت تفتح الراديو .. وتسمع الأخبار .. والأناشيد الوطنية والموسيقى وكانت تقرأ ما تحب من الكتب .

وكان بعض من جاراتها يزرنها فى النهار والليل كلما وجدن الفراغ .. ولكنها كانت تفضل أن تقضى وقتها بمفردها .. وكانت هذه العزلة هى أحب الأشياء إلى نفسها ، لأنها تجعلها تفكر فيه وحده ، وتحصر نفسها فى عمله هناك .. وتتصوره وهو فى الخندق .. أو فى العراء .. مقاتلا أو مستريحا .. يفكر فيها .. كما تفكر فيه ..

انقضى على زواجهما ثلاث سنوات فقط ولكنها فى عمر ما توثق بينهمـا من روابط اللحم والدم .. أكثر من ثلاثين سنة .

وكانت تتوق لأن تنجب منه .. ما دامت بعد أن تزوجت قد رضيت بأن تترك الجامعة وتتفرغ لعمل البيت ، بيد أن الولد لم يأت بعد .. وقد يأتى غدا .. ولكنها كانت تتوق إلى وجوده فى أحشائها فى هذه اللحظة لتشعر وهو بعيد عنها بأن قطعة منه فى أعماقها .. تتحرك وتنمو .. وتنتظره كما تنتظر هى ..

وكان يثيرها ، ويهز مشاعرها ، ويلهب نار الشوق إلى زوجها .. ما تراه فى الشارع من الجنود العائدين من الميدان فى أجازات قصيرة .

فإذا رجعت إلى البيت ، جلست صامتة غارقة فى أفكارها .. وكلما مرت الأيام ازداد قلقها العصبى واشتد .

وكانت تمر عليها ساعات تقف فيها وراء باب الشقة وهى ترتجف حابسة صوت أنفاسها .. منتظرة الرسالة وهى تسقط من تحت الباب .

وأصبح ما تعانيه من توتر فى أعصـابها .. أشبه بالمرض .

ذات ليلة من الليالى الأخيرة من رمضان .. نامت دون سحور .. لأنها كانت تشعر بتعب شديد .

ورأت زوجها فى الحلم يخوض معركة ضارية .. وكان فى مقدمة الصفوف مع المشاة .. تقدموا واخترقوا طوابير العدو .. مهللين منتصرين .. وانقلب الجو كله إلى نيران تتأجج ودخان وقصف .

وفى غمار المعركة .. أصيب جندى مصرى .. وأحس به زوجها .. فرجع إليه يحمله وحده .. والرصاص حوله يتساقط .. حمله ومشى به حتى وضعه فى عربة الميدان الطبية .. وفى أثنـاء هـذه الحركة أصيب زوجها برصاصة وسقط .

واستيقظت من نومها مذعورة ..

كانت تعرف طباع زوجها ، وهو يفعل مثل هذا وأكثر منه .. ولذلك اشتد بها القلق .. وزاد الحلم بكل ما فيه من بشاعة من أحزانها وتعاستها .. وبكت .. وتعجبت كيف تطاوع نفسها وتبكى من حلم .

ولماذا تمزقت أعصابها هكذا .

ونظرت من النافذة فوجدت الشمس ساطعة .. فأدركت أنها تأخرت فى النوم إلى الضحى .. ونامت كثيرا مع أن مدة الحلم لم تستغرق أكثر من خمس دقائق .. وعكس الحلم سوء المزاج على نفسها .. وشهيتها للطعام حتى فى أيام العيد .

وفى اليوم الثالث للعيد .. جاء والدها من " اتليدم " فى قطار الظهر .. سمعت صوته بعد أن فتحت له " الشغالة " الباب فأصلحت من شأنها وجرت إليه فقبلت يده ، وجلست بجانبه تسأله عن والدتها وأخواتها فى البلد .. ولاحظ ما على وجهها من شحوب ، فعرف سببه ولم يحدثها عن شىء يثير فيها القلق .. لم يسألها عن زوجها .. كما لم يحدثها عن ابنه " مختار " وهو أخوها الذى يقاتل مع زوجها فى الجبهة .. لم يحدثها عنهما وإن كانت على يقين من أنه جاء إلى القـاهرة ليتسمع أخبارهما ..

ولكنه رجل ويملك زمام أعصابه .. ويستقبل الحرب وكل ما يجرى فيها كأمر عادى حتى وإن كان فيها أعز أبنائه .. أنها تعرف صفات والدها وشجاعته كرجل فى كل الأحوال والظروف .

ولو استشهد ابنه " مختار " سيقول كما قالت الخنساء من قبل " الحمد لله الذى شرفنى بقتله " .

كانت تعرف طباع والدها .. وقد جعلها وجوده فى البيت تفكر فى أخيها " مختار " الذى لم تفكر فيه كما فكرت فى زوجها " كمال " ولم تشتق إليه كما اشتاقت إلى زوجها .. وخجلت من نفسها .

كما خجلت من كل الأشيـاء التى جـاء بها والدهـا من البلد .

وقالت برقة :

ـ ما هذا كله .. يا والدى ..؟ كل مرة تتعب نفسك ..؟ انها زوادة سنة ..

ـ يا بنتى سيأتى " كمال " بعد أيام قليلة .. فأكليه من هذه الديوك .. فى الطقات الثلاث .. !

وضحكت من كلام والدها .. واستراحت لاستبشاره ومرحه .. وتغدى معها .. وصلى العصر .. ثم خرج إلى المدينة لبعض شأنه ورجع فى الليل فتعشى ونام .. وفى الصباح سافر فى أول قطار .

وأحست " سهير " بعد أن غادر والدها البيت .. بهزة الفراق .. ولكن وجوده كان قد أعاد السكينة إلى نفسها ، وهدوءه واستبشاره عكسا عليها الهدوء والاستبشار اللذين ترجوهما لروحها القلقة .

وسمعت وهى جالسة فى الشرفة تتطلع إلى رمـال الصـحـراء .. والســكون يخيم على المنطقـة صوت الشيخ " رفعت " من مسجل فى الشقة المجاورة ، كان يتلو سورة " الرحمن " وتنبهت "سهير" وأنصـتت مأخوذة .. لقد سمعت الشيخ " رفعت " كثيرا من قبل .. ولكنها لم تسمعه بمثل هذا الصوت الحنون .. أهى حالة نفسية ..؟ وتندت عيناها بالدموع .. أى صوت ؟ إنه كروان يغنى فى الجنة .

ظلت جالسة فى مكانها ساكنة خاشعة .. حتى انتهت التلاوة وانقطع الصوت . وأحست بالحيوية والانتعاش .. وتبدلت تبدلا تاما .. ودخل قلبها الإيمان بالحياة . . وأعدت مائدة الغداء بعناية فائقة .. أعدت طبق زوجها .. ووضعت أدوات المائدة الخاصة به .

وجلست تأكل وكأنه أمامها .. يحـدثها حديثـه المألوف .. وبعد ساعة دخلت الحمام .. وخرجـت معطرة ، محلولة الشعر ، بادية النضـارة .. وجلست فى غرفتها أمام المرآة تتزين وتمشط شعرها . ثم انتقت أجمل ثيابها .. ثوبا مخمليا يبرز تقاطيع جسدها وكل ما فيه من فتنة .. وجلست على حافة السرير ، ترتدى جوربا من النيلون فى لون بشرتها .. ومدت قدمها الصغيرة وساقها الجميلة .. وبدت الساق عارية وملتفة وفى لون اللبن الممزوج بالعسل المصفى .. وغطت هذه النعومة حتى الفخذ بجورب ثم تناولت الثانى .. وعندما دق جرس الباب توقفت تتسمع وأصابعها ضاغطة على الفخذ الدافىء .. ثم واصلت رفع الجورب بعد أن أدركت أن الصوت لايعنيها وأن الشغالة تحادث الجارة .

ثم لبست حذاءها ووقفت أمام المرآة .. وكانت النافذة مفتوحة على نهار جميل .. فحركت أنفاس الهواء شعرها .. ونضرت وجهها ، وأجرت الدم فى شفتيها .. والبريق فى عينيها .. ورأت الثوب المخمـلى قد حدد خطوط جسمها .. الوركين .. والخصر .. وبروز الصدر .

وتنفست الصعداء .. وجلست فى الشرفة تتطلع إلى الطريق .

وفى الليل كانت جالسة فى الصالة نائمة وعلى خديها الدموع ، بعد أن برحها الانتظار الطويل .. وصحت على حركته وهو يفتح الباب .. وجرت إليه وتعلقت بعنقه وارتمت على صدره وضغطت ، وأعدت مائدة العشاء ..

وجلسا يتعشيان .. وكانت تلاحظه بعينيها وتقيسه طولا وعرضا .. وتفكر .. ولما فرغا من الطعام .. قدمت له فنجان القهوة وهى تحدق فى وجهه .. فسألها :
ـ مالك .. لماذا تنظرين الىّ هكذا .. ؟ !
ـ تبدو لى .. كأنك لم تحارب .. ليس فى جسمك خدش واحد .. !
ـ لقــد كانت فرقتى .. أول فرقـة عبرت القناة ورفعت العلم ..
وقالت سهير لنفسها أن هذا هو ما قلته للناس فعلا ..

وردت عليه :
ـ لايبدو عليك هذا .. !
ـ لماذا .. ؟
ـ ليس فى جسمك جرح واحد .. جرح صغير .. !!

وبدت غير منشرحة .. وعلا وجهها الامتعاض ..
ـ أكنت تودين أن أعود جريحا أو ماشيا على عكاز .. ؟ !

وأغمضت عينيها ، واقتربت منه ، ولامست بخدها خده .. انها حمقاء .. كانت توده جريحا .. أما أن يعود إليها كما هو .. دون حتى الخدش البسيط .

فهو لم يحارب كما كانت ترغب .. ! وتتمنى .. أين بسالته .. وأين شجاعته .. ؟ هل انتقم لأطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبى زعبل وسكان السويس .. والإسماعيلية وبور سعيد .. الآمنين .. ؟ هل انتقم لهؤلاء .. ؟

وبعد نصف الليل كانت بجواره على السرير .. فى قميص النوم .. نصف يقظة .. وكان هو قد استغرق فى النعاس وانكشف عنه الغطاء .. فأخذت تضمه عليـه ، ولامسـت يدها شيئا غريبــا تحت " الفانلة " ورفعت الفانلة وكشفته .. فتبينت جرحا بليغا فى الكتف قد تغطى بالضمادات .. وربط باحكام . وضمته إليها فى عنف .. وجنون .. وهى تضحك حتى استيقظ على قبلاتها وضحكاتها ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الثقافة عدد يناير 1974 وأعيد نشرها فى مجموعة عودة الابن الضال لمحمود البدوى عام 1993
=================================





الحارس

قصة محمود البدوى


غادرنا " منفلوط " فى اليوم التاسع من اكتوبر فى جــو مشحـون بالحــرب فى كل مكان . وكانت الأنوار منطفئة فى المحطة ، وفى المدينة ، ولكن القمر كان طالعا ونوره يفرش على البيوت والمزارع وبساتين النخيل .

وكانت الريح رخاء ، والليل صحوا ، والرؤية واضحة إلى المدى البعيد ، ورغم الاظلام فى المحطة ، وفى البيوت ، ولكنا لم نسمع صوت قذائف على الاطلاق .

وكان الناس يقومون بأعمالهم العادية فى هدوء كأن الحرب لم تشتعل منذ ثلاثة أيام ، ولكن الفرحة كانت بادية على الوجوه ، وفى سلوك الأفراد وتعاملهم ، فقد هزتهم موجة الانتصار وأطلقت العنان لمشاعرهم المحبوسة .

وكضابط أمن فى المنطقة فإنى أقرر أنه لم تقع منذ ثلاثة أيام حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز .. سوى حادثة سقوط " لينا عازر " بين المزارع .. رفيقتى فى هذا السفر الليلى .. فى العربة الخلفية من قطار الركاب رقم 777 ، فقد فاتنا الاكسبريس لخطىء فى التقدير . فكان لابد من السفر فى الليل ، فى مكان منفرد ، وبعيدا عن الركاب .. ووقع الاختيار على ديوان صغير مخصص للسيدات .. ويحتوى على كنبة جلدية واحدة ، ويقع فى نهاية صف الدواوين فى آخر عربة فى القطار .

وكانت العربة بأجمل صفاتها متهالكة ، ومفصلاتها تزعق ، وزجاج نوافذها نصف مكسور .. وعجلاتها تدوى على القضبان كالطاحون القديمة ..

ولكن الديوان الصغير الذى أجلست فيه " لينا " كان بابه صالحـا للعمـل .. والزجاج فى النافذة والباب كانا سليمين .

وكحارس لاتفوته ثغرة أخذت على ضوء القمر ، وضوء البطارية التى معى ، أدور بعينى فى هذا الجزء الخلفى من العربة بعد أن أودعت " لينا " فى داخل الديوان .. وشعرت بالراحة لأنى سأستريح من فضول الناس ، إذ لم يكن فى الدواوين الملاصقة لنا مباشرة ركاب على الاطلاق .. وكان وجودهم سيسبب لى مضايقات كثيرة ، لأن " لينا " لاتزال بملابسها العسكرية التى سقطت بها ..

وكنت قد أنزلت خشب النافذة عندما كان القطار واقفا فى المحطة ، فلما تحرك خالفت التعليمات ورفعته لأن الاظلام كان تاما فى القطار كله .. ورأيت ألا نختنق فى هذا الظلام وأن أدخل قليلا من ضـوء القمر من خلال الزجاج .. لأراقب الأسيرة وأراها وترانى ..

وأخذت أتطلع فى الضوء الطبيعى إلى وجهها ، وكانت قد شربت دموعها واستفاقت من الفزع الذى أعقب السقوط .. واطمأنت على حياتها ، وعلى وجودها معى كحارس لها .. فقد عاملتها بالحسنى من أول لحظة .. ومنعت عنها سباب النساء ، ولعنة جنسها ، وغضب الجموع التى أحاطت بها ..

فإن شخصا يسقط فى المزارع وبين الفلاحين بعد أن كان يحلق ليرميهم بقنابل الدمار له فى نظرهم حكم واحد .. الموت .. وقد نجيتها من الموت .. وبسرعة نقلناها من المركز إلى القطار ، وأصبحـت مسـؤلا عنهـا وحدى حتى أصل بها إلى المكان المعين لنا . وحدث كل شىء بسرعة رهيـبة حتى أننى لم استرد أنفاسى .

وكنت فى أشد حـالات التعب إذ لم أنم منذ يومين ، وخشيت أن يغلبنى النعاس فتهرب ، كنت فى خوف موصول من حدوث ذلك .. ولهذا أخذت أفتح عينى جيدا .. وشعرت بأنى فى حاجة شديدة إلى فنجان من القهوة أو الشاى ، ولكن ساءنى أن القطار ليس به مقصف ثابت ولا متنقل كما نشاهد فى القطارات الأخرى .

وكانت " لينا " بجانبى من الداخل ، وكنت أرى جانب جيدها .. ورأسها المنحنى المستدير قليلا إلى النافذة ، وتبدو صامتة وحزينة ، ولا يبدو عليها التفكير فيما يدور بخلدى .

ولكن من الذى يستطيع أن يتبين من ملامح المرأة ماتبطن من خفايا نفسها ..

كانت ترتدى ثوبا أخضر من الكتان ويبدو ضاغطا فوق وركيها وبروز صدرها ..

ورجعت إليها انوثتها ، فأخذت تسوى شعرها ، وتصـلح من ردائها العسكرى .. فعندما هوت وجرت لما طاردها الفلاحون تعثرت وسقطت على الأرض بين الزراعات المروية فاتسخت حلتها ، وعلق بها التراب والطين .. فخلعت سترتها وأخذت تنظفها .. وبدا لحمهـا من تحـت القميـص الأخضـر متسخا كأن به آثارجرح ..

فسألتها :
ـ هل بجسمك رضوض ..؟
ـ أبدا .. التوى قدمى قليلا وأنا ساقطة ..
ـ سنعالج هذا عندما نصل ..
ـ نصل إلى أين ..؟
ـ نصـل إلى مدينـة جميـلة .. وستجدين رفاقك هناك فى انتظارك ..

وبدا عليها السهوم .. ولعلها تذكرت ما فعلوه هم بالأسرى المصريين فى الحرب الماضية .

وسألتها :
ـ أى مدينة فى مصر كنت تودين تدميرها ..؟
فشحب وجهها :
ـ لم نخرج لندمر .. كانت طائراتنا استطلاعية ..
ـ لماذا سقطت ..؟
ـ أصيبت بقذيفة ..
ـ هل ولدت فى إسرائيل ..؟
ـ ولدت فى رومانيا ..

شاهدت فى مجلة أجنبية منذ اسبوع فقط صورة لأسرة رومانية تجلس فى حديقة بين الورود والرياحين ، أسرة وديعة مسالمة .. فلماذا تختلفون أنتم عن جميع أجناس البشر وتريدون تخريب العالم ..

ـ لقد قلت أن الطائرة استطلاعية وأنا لم أسبب الضرر لأحد ..
ـ بعد طائرة الاستطلاع .. تأتى طائرة القنابل ..
ـ انها الحرب ..
ـ أجل انها الحرب .. ولا سلام فى هذه الأرض مادمتم تشنون الحروب على ظهرها .. هذا هو رأيى ..

كان الحرز الذى وضعنا فيه أشياءها لا يزال بجـانبى فألصقـته بالمسند واتكأت عليه .. وابتـعدت عنها حتى أصبحت قريبا من باب الديوان لأفسح لها مكانا لتنام ..

وقلت لها :
ـ نامى ساعة أو ساعتين .. فالرحلة طويلة ..
ـ إنى جائعة .. ولا أستطيع النوم وأنا جائعة ..

ورأيت أن أشترى لها طعاما فى المحطة التالية ، أو فى "ديروط" ..

وأخذ هواء الليل يترطب ، ومع سرعة القطار .. اشتد مرور الهواء ، فبدأت الأتربة تتطاير فى وجهينا كلما دخلنا فى المحطات الصغيرة .. فأغلقت زجاج النافذة ..

اقتربنا من " القوصية " .. وفكرت أن أجد فيها طعاما .. واشتريت الطعام الذى يكفينا .

ولما تحرك القطار سألتنى وهى تأكل :
ـ من الذى علمك العبرية .. بهذه الطلاقة ..؟
ـ كنت أسكن فى حارة عندنا اسمها حارة اليهود ..!

وافترت شفتاها عن ابتسامة باهتة ..
ولأول مرة أرى ابتسامة على وجهها ..
ـ ولهذا وقع عليك الاختيار لترافقنى ..؟
ـ أجل .. فقد كان هذا من سوء حظى ..
ـ لماذا .. اننى لم أسبب لك أية متاعب ..؟
ـ لقد طلبونى على عجل وأنا مريض .. ولم أذق للنوم طعما منذ يومين .. وقد أكون محموما ..
ـ لماذا لاتستريح الآن وتأخذ كفايتك من النوم ..
ورفعت بصرى إليها ولم أعقب ..

وتكورت هى بجانبى بعد أن تعشت ، واضعة رجليها تحت فخذيها .. وأغمضت عينيها .. وإن كنت على يقين بأنها تنام بإحدى عينيها فقط ، وتظل الثانية مفتوحة .. !

وفى محطة " ديروط " ناولتها زجاجة من العصير ، وكنت أود أن أشرب القهوة .. ولكنى لم أجدها فى داخل المحطة ..

وكان السكون شاملا ، والظلام تاما ، وحالة الحرب بادية هنا بالدرجة القصوى ، وكانت ترعة الابراهيمية على شمالنا .. تبدو مياهها هادئة .. وعلى الأفق الغربى كان القمر يلتهب وكان لون أخضر يضرب إلى السواد يغطى المزارع ، أما المدينة فكانت محتجبة فى الظلمة وساكنة ..

وساعدنا السكون الشامل على أن نسمع صوت الراديو ، وكان يذيع انتصارات الجيش المصرى على طول جبهة سيناء .

وقرأت "لينا" الانتصار على وجهى فامتعضت وبدا عليها الذبول لقد أطلق الراديو مشاعر كانت فى عـداء صريح مع عقلها وتفكيرها .

كانت تتوقع انتصار جيشهم ولم تكن تتوقع هزيمة كهذه أبدا وأصيبت بخيبة أمل مرة .. وغدت سحنتها مخيفة ، ضاعت منها كل علائم الأنثى . وخفضت رأسها وراحت تنظر إلى أرضية العربة .. وجعلنى هذا أراقبها بحذر ولا تغفل عينى عنها لحظة .

وخطر فى ذهنى خاطر .. أن أحـدا من رجـال الأمن لم يفتشها فى المركز .. واستدعى لتفتيشها مدرسة فى المنطقة .. فتشـتها فى غرفة مغلقة .. ولكن هل فتشتها هذه المدرسة كما يجب ..

ونظرت إليها وكانت لاتزال متجهمة وقلت بهدوء :
ـ قفى ..
ـ لماذا ..؟
ـ أريد تفتيشك ..
وارتعش بدنها ..
ـ لقـد فتشـت فى المركـز .. والأشيـاء كلها معك فى الحرز ..
ـ ولكنى سأفتشك مرة أخرى ..
ـ تفضل ..
ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ، وهى تنظر إلىّ بدلال ..

وعجبت وأنا أضع يدى على لحمها من كونى لم أشعر بأية عاطفة نحوها .. وهى رشيقة الجسم وتعد جميلة فى النساء .. كانت تقاطيع جسدها بارزة من خلال القماش الكتانى المشدود ، وكانت يداى تتحركان على تمثال من الشمع الجامد .. وربما كانت تتصور أننى أتلذذ من هذه الحركة لأنى فتشت الجيوب وقلبتها .. ولمست صدرها وفخذيها ، تحـت القميص وفوقه ، ربما كانت تتصور أن فى الأمر متـعة لأنها طالـت .. ولكن إحساسى كرجل كان يغطيه دخان الحرب ويغلفه ، وكنت جامدا وأى ضعف من جانبى معناه ضياعى كرجل ..

وكانت هذه اللحظة هى سلاحها الوحيد الذى تحمله ضدى .. فلما رأت جمودى .. تحولت سحنتها فجأة من دلال الأنثى الناعم إلى سحنة نمرة .

وعادت وقد غلب عليها الارتباك والهزيمة معا فجلست ثم تكورت فى مكانها .. وبعد منتصف الليل وفى الساعات التى اعتاد أن ينام فيها الناس بقيت مستيقظا ، وفى أشد حالات الانتباه واليقظة وأصبحت أغالب النوم بصعوبة بالغة .. فقد كنت فى أشد حالات التعب والارهاق البدنى وأفتح عينى بصعوبة .. وأحدق بجانب دائما .. وأظل جالسا فى خط مستقيم .. لأنى اذا اضطجعت إلى الوراء سيغلبنى النعاس ، كان شعورى بالمسؤلية الضخمة مضاعفا .. ورغم الجهد النفسى الذى بذلته .. ولكن النعاس كان يغلبنى على فترات قصيرة جدا وأنا جالس وكنت أفتح عينى بقسوة بعد كل غفوة .. وأتلفت فأراها مكانها .. فأطمئن ..

ولكنى أعود للنوم .. وأحلم .. بأنها نزلت من القطار .. وتخطت القضبان وهربت وقدمت للمحاكمة ، وحكم على بالسجن ، ويحدث كل هذا سريعا .. ولكن بوضوح .. فى شريط الرؤية الذى يدور .. وصرخت .. وفتحت عينى فوجدتها واقفة .. تتطلع إلى النافذة ..

وقالت بلهجة حزينة .. لما وجدتنى أرفع رأسى :
ـ أريد أن أذهب إلى دورة المياه ..

وفتحت باب الديوان ، ودفعتها أمـامى إلى الخـلف فى الضـوء الشاحب والقطار يجرى .. وكانت دورة المياه ملاصقة لنا تمامـا فلم تتحرك أكثر من خطوتين فى هذا الظلام ..

وفتحت لها الباب ودخلت ، وقلت لها بصوت آمر :
ـ دعى الباب نصف مفتوح ..

فلم ترد .. وتركت الباب نصف مفتوح .. ووقفت نصف دقيقة فى الظلام ، أصارع رغبات لا قبل لمثلى بها .. ثم حركت الأكرة وأغلقت عليها الباب ..

ووقفت أنضح عرقا .. ربما انتحرت أو القت بنفسها من النافذة فماذا يكون مصيرى .. وطال مكوثها بالداخل .. وأنا فى الخارج فى صراع ورعب ، ثم خرجت فوجدتنى على الباب فحدقت فى وجهى فى الظلام ، ثم مضت لا تلوى على شىء .. وجلست فى مكانها وقد مدت ساقيها والصقت ظهرها بالكنبة .. وتفرست فى وجهها الحزين وكل كيانها المرتجف .. كانت خائرة القوى .. أتخاف من المجهول .. بعد أن ضاعت الأحلام .. وأصبحت تواجه الحقيقة المرة .. واسترخيت مثلها .. وأحسست دون أن أنظر من نافذة القطار .. أننا تجاوزنا محطة المنيا .. وسمالوط .. وبنى مزار .. وأننا نقترب من " مغاغة " فأنا أعرف جو هذه المحطات دون أن أقرأ أسماءها .. من كثرة أسفارى ..

وتوقف القطار على محطة صغيرة وطال وقوفه .. وكان الظلام يغطى كل ما حولنا والسكون شاملا ، ونباح الكلاب هـو الشىء الوحيد فى هذه البقعة الذى يدل على وجود الحياة .

***

وأحسست بالقطار وهو يسير .. وملت عليـها فوجـدت جلستها غير مريحة فعدلت وضع رجليها ، وكانت مستغرقة فى النوم ، فألقيت بجسمى إلى الوراء .. وأصبح دوى العجلات الرتيب .. كأنه نغم الأحلام ..

ولا أدرى أنمت أم كنت صاحيا .. فإن الفترة فى تقديرى لم تكن تتجاوز دقيقة واحدة .. فقد فتحت عينى على حركة وقوف القطار فلم أجدها فى مكانها ..

وارتعدت وقد مستنى فجأة حالة رعب قاتل .. ولكنى لم أفقد عقلى .. وتحسست بيدى الحرز فألفيته فى مكانه ، فتناولته بسرعة واندفعت من الباب ، وكانت هى قد تركتـه مفتوحا خشـية أن حركـة إغلاقه ستوقظنى ..

وفى المحطة الصغيرة لمحتها وهى تجرى وتتخطى القضبان مسرعة فى اتجاه المزارع ..

وأخذت أجرى وراءها .. وقد تركز العالم كله فى بصرى على ردائها العسكرى ..

كانت تجـرى بأقصى سرعتـها فى طريق زراعى مترب بجانب زراعات البرسيم والخضر وفهمت قصدها فقد لمحت حقل ذرة .. وكان فى نظرها نعم المكان للاختفاء .

وجـرت واندفعت إلى الحقل وغابت عن بصرى وأخفاها الحقل والظلام معا ..

***

ويصعب على أن أصف إحساساتى فى تلك اللحظة ، فالشعور الذى انتـابنى إذ ذاك لا يمكن وصـفه . لا يمكن تسميـته بالخـوف ولا بالقلق ولا بالعار على ضابط مصرى هربت منه فتاة إسرائيلية ، هربت منه أسيرة وهو مسلح وهى عزلاء .. لابد أنها أسرته بمفاتنها فى الليل والظلام والوحدة فضعف واستسلم لها واستجاب لرغبتها .. وأطلقها تعيث فى الأرض فسادا ، أطلق جاسوسة تتجسس فى البلاد ونحن فى حالة حرب .

والمحاكمة العسكرية .. والسجن والعار .. دارت كل هذه الخواطر فى رأسى .. وأنا أقف على رأس الغيط .. مسمرا ملتاعا .. واجهت ظاهرة غريبة وأصبح الزمان والمكان لاوجود لهما بالنسبة لى ..

كان معى جهاز إرسال لاسلكى ، ولكننى لم استعمله ولم أطلب الاستعانة ولا النجدة .. خشية الفضيحة .

ووقفت وحدى كأنما أنا فى الدنيا بأجمعها الذى يواجه وحده تحدى القدر ..

ودخلت الحقـل أتخطى " الحوض " والمجراة .. إلى أين تمضى هذه الملعونة فى العتمة ..

ولم أوغل كثيرا .. ورفعت المسدس وأطلقت ثلاث طلقات إلى أعلى وطلقة إلى مستوى رأسى وسمعت بعد هذا صرخة .. وصوتها وهى تطلب منى بالعبرية أن أكف عن اطلاق النار ..

ووجدتها مبطوحة على بطنها فى قناة جافة وواضعة ذراعيها ويديها على رأسها ..

وأوثقت يديها من الخلف .. وخرجت بها .
كان القمر قد غاب منذ قليل وراء أشجار النخيل العالية وباتت القرية غارقة فى عتمة رمادية شهباء .. وليس غير رؤوس الأشجار بادية فى الظلمة ..

ونسيت القطار .. وخيل إلىّ أنه قد مر على مجيئى إلى هذا المكان دهر كامل .

وتطلعت إلى النجوم .. وهى تسير أمامى .. وتخطينا مرتفعات السباخ التى تجاور الحقول وأصبحنا نسير فى حذاء الترعة إلى المحطة .

***

كانت نحيلة بادية الطول شاحبة اللون تمشى بخطوات مترنحة من فرط التعب .. ورأسها الصغير يتمايل على عنق طويلة يغطيها من الخلف شعر أشقر مرسل قد تلطخ من عناء الطريق .. وعيناها تحدقان فى وجهى دوما بنظرة فائضة بالحقد .

وفى المحطة الصغيرة فككت وثاقها وانفجرت تعول بالبكاء .. وقد تكورت ووضعت ذراعيها حول فخذيها .. وتطلعت بعينيها إلى القضبان .. فى حزن واستسلام ..

ولقد أدركت بجـلاء ، وأنا أحدق فى هذا الكائن ، أن هناك من يمتص الحياة من هذا الجسد البشرى ..

أخذت أتفرس فى ملامحها دون حركة وأنا واقع تحت وطأة المشاعر التى كانت تفيض بها نفسى .. وأدركت فى تلك اللحظة الكثير مما تفعله إسرائيل برجالها ونسائها ، فهذه التى ولدت لتكون زوجـة أو مدرسـة أو طبيبة أو عاملة نافعة لجنسها .. حولوها إلى شيطانة للدمار".

كانت المشاهد التى حولى كلها ساكنة .. القرية .. والمحطة .. والبساتين المزهرة .

وكنت أرى قلوع المراكب فى النهر تبدو وأشرعتها من بعيد فى الظلمة كالأعلام وتسير فى طريقها فى سلام دون احساس بالحرب .

أما الترعة عن يسارى فكانت ساكنة تماما .. فلا حركة فيها تدل على الحياة ..

وفى الجهة الأمامية من المحطة الصغيرة يجلس الغضب والحب يتصارعان حب الحياة .. وغضب الثأر ..

ورأيت فى وجهها أطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبو زعبل .. وسكان بور سعيد .. والإسماعيلية .. والسويس الآمنين فى بيوتهم ، كل هؤلاء كانوا مدنيين عزل .. لم يطلقوا رصـاصة ولم يصوبوا مدفعا فى صدر أحد .. كانوا يعيشون فى سلام للحياة .. فقصفوا أعمارهم بقنابل الدمار .. إن الحقد يعشعش ويبيض فى قلوبهم ..

كانت أمامى بكل حقدها وما فى نفسها من خساسة .. ولكن ماذا أفعل وأنا الرجل المسلح أمام امرأة قد جردتها من السلاح ..

وسمعت صفير القطار من بعيد .. وأخذت أستعد لجولة أخرى معها فى هذا الليل الساكن ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الهلال المصرية فى يناير 1974 وأعيد نشرها فى كتاب قصص من الصعيد من اعداد
وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
=================================



ليست هناك تعليقات: