اللقاء مع ابنة العم
و
زواج محمود البدوى
تزوج ضابط البوليس عمر حسن عم محمود البدوى من إبنة خاله وأنجب منها ولد وأربع بنات ، وما يهمنا هنا هى إبنته حكمت التى أصبحت فيما بعد زوجة محمود البدوى ..
ولدت حكمت فى مدينة كفر الزيات عام 1930 ، وكان والدها معاون نقطه بوليس المدينة وفرح بها والديها كثيرا ، فقد كانت الإبنه الأولى وسميت على إسم المولدة ، وحينما كبرت وشد عودها التحقت بمدارس مختلفة نظرًا لظروف عمل والدها والذى كان دائم التنقل بين بلاد القطر ( نوتردام بالزيتون ـ ليسيه مصر الجديدة ـ ليسيه بور سعيد ـ راهبات الإسماعيلية ) ..
* * *
إنتقل محمود من مسكنه بالحلمية الجديدة إلى منطقة المنيل بشارع محمد سالم ، وأتى بسيدة من القرية للاعتناء بشئون بيته ، وكانت لا تفعل أكثر من غسل ملابسه وإعداد فنجان القهوة فى الصباح ولم تكن تعرف الطهى ، وإستعان بطباخ يطهو له طعامه ، وتعددت سرقاته ، يسرق نقوده وملابسه ، ويسرق وهو يشترى مستلزمات البيت ، حتى قطعة الصابون لم تسلم من يده فطرده ، وخرجت من بعده الخادمه من البيت ، ولم تعد ، فحرر مذكرة بنقطة بوليس المنيل قيدت تحت رقم 36 فى 14/4/1943 ..
إستعان بعد هذه الواقعة بسيدة أرمل ولديها طفلتان وإسمها أم محجوب ( وهى لا محجوب لها ) تقوم بشئون البيت وتطهو له طعامه ثم تذهب إلى بيتها لمراعاة طفلتيها ..
* * *
فى عام 1945 جاءت شقيقته فاطمة من الريف بصحبة عمه حسين لعرضها على الأطباء فى المدينة لشدة مرضها ، وتركها العم وذهب إلى حال سبيله ، وأقامت شقيقته معه ، وتوقف محمود عن السفر والترحال ، وعن مزاولة التمرينات الرياضية بنادى الجمباز بالمعهد المصرى للرياضة البدنيه ( الإشتراك السنوى ستة جنيهات والإشتراك الشهرى جنيه واحد ) كما توقف عن الجلوس مع أصدقائه بالمقهى ، فكان يخرج من عمله إلى البيت مباشرة لمراعاة المريضة وحتى لا يتركها وحدها ، وكثرت زيارات أعمامه حسين وحفظى ومحمود وترددهم على مسكنه لمعاودة المريضة ..
* * *
فى أحد أيام صيف عام 1945 جاء عمه عمر من بور سعيد ومعه زوجته وإبنتهما حكمت الطالبة بمدرسة الليسيه لزيارة المريضة والإطمئنان عليها ، وكانت حكمت تلبس رداء محتشما بسيطا مصففه شعرها الطويل فى جدائل وملقى وراء ظهرها ، وهى على جانب كبير من الجمال وبشرتها نقيه وعيناها خضراوين ..
إنتهز محمود الفرصة وطلب من عمه إبقاء إبنته خلال فترة الإجازة الصيفيه لتؤنس إبنة عمها المريضة وليستطيع إنجاز بعض أعماله الخاصه ، فوافق العم ..
عاد محمود إلى البيت بعد إنتهاء عمله بالمصلحة ليتناول الغداء كعادته ، فوجد تغييراً حدث فيه وأن يدًا جديدة مرت عليه وبجو أنيق ممتع ، وبعد تناول قهوة العصر خرج من البيت ..
كان يعود بعد منتصف الليل بقليل ، ويفتح الباب ويدخل فإذا أحس بأنهما لم يناما يجلس يتسامر معهما ويحكى عن سفرياته فى الداخل والخارج ، ويتحدث فى هدوء وإتزان ويصف ما شاهده فى أوربا وحكمت تستمع إليه فى شغف ومأخوذه بحلاوة حديثه ، وتنصت ، وتنظر إليه نظرة إكبار وإجلال ، وحينما يشعر أن النوم بدأ يداعب أجفانهما ، يتركهما ويذهب إلى غرفته ليقرأ أو ينام ..
كان البيت وما حوله هادئاً ، فكانت حكمت تسلى وحدتها فى الوقت الذى كانت تنام فيه المريضة ، تتصفح المجلات وتنظر إلى مجموعة الصور التى جاء بها من البلاد التى زارها حتى تشعر بالنوم ..
* * *
عاد محمود إلى البيت ليلا ، فى غير ميعاده ، مبكراً قليلاً ، فوجد ابنة عمه ساهرة وحدها ، جالسة أمام المكتب تتصفح إحدى المجلات المصورة ، وحينما رأته قامت ، فأشار عليها بأن يجلسا قليلا ليتحدثا حتى تشعر بالنوم ، فإستجابت ـ وأخذ يتحدث معها ويسألها عن أخواتها ودراستها وبور سعيد وضواحيها وملاعبها ـ سبق له أن ذهب إلى هذه المدينة كثيرا وطاف فى أحيائها ـ ولكنه كلما سألها عن شئ يظهر الخجل عليها وتحس بأن لسانها يقف فى حلقها وترد عليه ردود مقتضبة ، وحينما ينظر إليها تحول وجهها عنه وتتلعثم ، ولما لم تجد مفرا مما هى فيه ، ولإنقاذ نفسها مما أصابها ، تتصنع التثاؤب وتتركه وتدخل حجرة المريضه مدعية غلبة النوم عليها ..
وعلى الرغم من أن محمود صادق وعرف الكثير من الأجانب والمصريين فى شرق البلاد وغربها أثناء إقامته بالبنسيونات والغرف المفروشة لدى الأجانب بالقاهرة السويس والإسكندرية وأثناء تجواله ورحلاته بالخارج ، إلا أنه لم تستطع واحده منهن أن تجذبه إليها ويتخذها زوجة له على مدى الأيام التى إنصرمت من عمره الفائت ، حيث طالت مدة عزوبيته ، وذلك بسبب حبه للأدب وعشقه له اللذين لم يتركا لنفسه مهلة للتفكير فى الزوجة والأسرة ، ولكن ابنة العم لفتت نظره وشدت إنتباهه لأنها لم تنطلق بالقول وتفيض وتثرثر كغيرها من النساء ، ورآها أنها ستكون أصلح زوجة له ، وعزم على ذلك ، ولكنه لم يتخذ أى خطوة عمليه ، وظل مترددا يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وجاء عمه عمر وزوجته واطمأنا على المريضه ، واصطحبا ابنتهما وإنصرفوا وشفيت المريضة وعادت إلى الريف لترعى شئون بيتها ، وانتقل محمود إلى مسكن آخر بالسيدة زينب والتحقت حكمت بمدرسة راهبات بمدينة الإسماعيلية بعد نقل والدها إليها ..
زواج محمود البدوى
جاء أحد الأقارب الأبعدين لخطبة ابنة عمه حكمت ، وعلم محمود بالخبر ، وأحس بمجرد سماعه بالألم ، فقد كان يحس بأنه يحتجزها لنفسه ، وفاتح عمه حسين فى أول زيارة له ، وبارك الخطوة وشجعه عليها وآل على نفسه أن يساعده حتى بلوغ غايته ويذلل له كل الصعاب التى تعترض طريق هذا الزواج وإتمامه وخاصة مما يصدر عن والدتها ، وطلب منه تجهيز المهر وأن يكون مستعدَا ، فأجاب محمود من فوره بأنه جاهز ومعد نفسه لهذا اليوم ..
* * *
قدم محمود إلى عمه عمر فى الإسماعيلية ، وكعادته كان حسن الملبس والمظهر ، وصاحبه فى تلك الزياره عمه حسين ، ورحب والد حكمت بطلب ابن أخيه ، وسمعت حكمت وغمر كيانها السرور الباطن ، ولكن الاعتراضات كانت من جانب والدتها التى دست أنفها فى الموضوع ـ وهذا حقها ـ لسبب فارق السن بينهما ، ولما انطلق العم حسين فى مناقشات معها ، ارتسم الأسى على وجه محمود وعلق بصره بها وجلس صامتا ، ونظر إليه عمه وتبسم واشار إليه وجلسا على كرسيين فى الصالون الأخر يتحدثان ويرقبان عن بعد ما تسفر عنه المناقشات ، وحكمت ترمق أمها فى جانب من خارج الحجرة وتنصت باهتمام شديد إلى الحوار الدائر بينهما ، فقد كانت أمنيتها وسعادتها أن تتزوجه وتعيش معه تحت سقف واحد ، وتتطلع بشغف إلى إنتهاء المناقشات لتعرف النتيجة النهائيه ، ولكن النقاش والحديث استمر إلى الساعات الأولى من الصباح ، وأخيرا حسم العم الموقف وصمم على أنه لا رجعة عن إتمام الزواج بعد موافقه شقيقه والد حكمت ، وانصاعت الأم ورضخت للأمر ووافقت ، وهزت الفرحة قلب محمود ، وأخرج المهر من جيب سترته وسلمه إلى عمه عمر ..
* * *
رقى والد حكمت إلى رتبه القائمقام ونقل للعمل بالإسكندرية مأموراً لقسم محرم بك ، وفى صباح يوم أثناء وجوده بالقسم دخل عليه أحد العساكر ممسكا بيده طفله صغيره عمرها لا يتجاوز الثمان سنوات وقال له وجدناها ليلا فى الطريق تبكى ولا تعرف شيئا من أمر نفسها وعلم منها أنها من الفلاحين وتعمل لدى أسرة ضربوها فخرجت إلى الطريق ، فسألها المأمور عن هذه الأسرة وعنوانها واسمها ، فقالت .. معرفشى ، فسألها كانوا بينادوكى بإيه ، قالت .. مبروكه ..
وتحرر محضر بالواقعة وتسلمها المأمور وأرسلها إلى البيت إلى حين ظهور من يسأل عنها ( لم يسأل عنها أحد ) وظلت فى البيت مع الشغالين ( طباخ أسمر اسمه محمد من أسوان ومعه شقيقه الأصغر حسن وعمره سبع سنوات وزايده التى تعتنى بشئون البيت ) ..
* * *
كان محمود يعشق الإسكندرية وكثير التردد عليها ويقضى فيها ليلته فى البنسيون الذى إعتاد أن ينزل فيه كلما هبط المدينه ، وفى الليل يسير بجوار البحر ويجلس على الشط حالما مفكرا ويمتع بصره بجمال الطبيعة ، وتطيب له الجولة الليلية لأنها رياضة عضلية للجسم ويستطيع أن يتبين جمال المدينة بعد أن تنقطع الرجل ، فكان يعرفها ويعرف كل شبر فيها جيداً ، أسماء الشوارع والبنسيونات واللوكاندات ، بدرجة مذهله ..
حرص محمود فىالذهاب إلى عروسه ، واصبح يخرج معها ويرافقه فيها والديها للنزهة ، ومن فرط سعادتها وسعادته كانا يحسان بأنهما فى حلم جميل ، وكانت منبهره بأسلوب تعامله معها وطريقته فى الحديث وبالكلمات الحلوة الجميلة التى يلقيها على سمعها ، وبعد السير على شط البحر يجلسون فى أحد الكازينوهات ، وبعد انتهاء السهرة والعشاء فى الكازينو ، يعودون من حيث أتوا ، ويتركهم ويذهب إلى البنسيون للمبيت ..
* * *
أخذ محمود فى البحث عن شقة الزوجية بحى مصر الجديدة ـ كانت جميع العمارات بلا إستثناء تعلق يافطة على باب المنزل وفى واجهة الشرفات تشير إلى وجود شقة خالية ، وكان الملاك يحاولون بكل السبل وشتى الوسائل جذب ساكن لها ـ فعثر على شقه فى بناية حديثه ( تقع على ناصيه ) بالدور الثالث بشارع محمد رمزى ( الإمام على سابقا ) نمرة 32 بإيجار شهرى عشرة جنيهات وخمسمائه مليم ، وسر بها كثيرا لأنها فى منطقة هادئه وبها بلكونه واسعه وفسيحه وتطل على شارعين ، وراقه الهدوء ، ويستطيع أن يجلس يقرأ فيها ويكتب ، وكان السكان حوله خليطا من المصريين والأجانب وسر عمه وزوجته بها كثيرا وبموقعها الجميل ، واستأجرها من أول أبريل 1947 ..
نقل العفش من تاجر الأثاث إلى عش الزوجية ، وجاء الخدم من عند والدها بالإسكندرية ، وأشرف بنفسه على تنظيم الغرف وإعداد الفرش ولم ينس الحجرة الخاصة بالضيوف لمن يهل عليه من الأهل ، وتحدد يوم الزفاف بفيلا عم العروس المستشار محمود بالجيزه يوم 19 مايو 1947 .
حينما علم الخادم الصغير الأسمر ومبروكه اللذين يخدمان عند والد العروس ، بزواجها وإنتقالها إلى القاهرة ، بكيا ، وأصرا أن يسافرا ويكونا معها وفى خدمتها ـ كانا يحبونها حبا خالصا ـ وأبدت العروس رغبتهما لمحمود فلم يمانع وعرض عليها ـ إن شاءت ـ الإبقاء على أم محجوب التى تطهو له طعامه وتعنى بشئون البيت ، فرحبت ..
كان بالشقه صندره فسيحه أعلى الحمام يتم الصعود إليها بسلم خشبى متحرك من المطبخ وبها شباك ، وضع فيها فرش ومراتب وأعدت لتكون مكانا لنوم الشغالين ..
* * *
جاء اليوم المحدد للزفاف وقصرت الحفلة على عدد قليل من الأهل والأقارب الموجودين بالقاهرة ، لأن الأسرة لم تزل فى فترة حداد على والد محمود الذى توفى عام 1941 ، ولم تكن بالحفلة دفوف تدق وموسيقى تصدح ومطرب يغنى أو راقصة تحيى الفرح ولمبات تضاء للزينة ، وفى المساء وصل المأذون من قرية الأكراد ، وتم العقد ( مسجل بوثيقة الزواج أن الصداق قدره 700 جنيه مصرى حالا ومؤجلاً والحال منه مبلغ 350 جنيها ) وبعد تناول العشاء هنأ الحاضرون العروسين وإنصرفوا وإصطحب محمود عروسه فى سيارة خاصة قامت بجوله فى أنحاء القاهرة ..
غادر المأذون الحفل بعد العشاء ، وذهب إلى أقاربه المقيمين بحى روض الفرج ، وأثناء سيره هناك اعترضه بعض اللصوص وجردوه من ملابسه ونقوده ، وكانوا رحماء به بأن تركوا له دفتر إثبات الزواج ..
* * *
بعد حفلة العرس ، قضى محمود الأسبوع الأول من الزواج بالبيت ، وكان أول من يستيقظ من النوم فى الصباح ، ويستهل يومه ببعض التمرينات الرياضية ويحلق ذقنه ويأخذ حماما سريعا بالمياه الطبيعية دون تسخين فى الصيف لينشط ، ويقرأ بعض آيات من كتاب اللّه ، وتقوم زوجته وتقدم له فنجان الشاى وتعد له طعام الأفطار ، وبعده يعد لنفسه فنجانا من القهوة يصنعه بنفسه ويخرج إلى عمله ..
تترقب زوجته عودته من العمل للغداء ، وكانت الفترة التى تعقب الغداء ثقيله على نفسه ، فيستريح ساعة أو ساعتين وفى الأصيل يستمع إلى الموسيقى ويخرج من البيت إلى نادى الجمباز لمزاوله بعض التمرينات الرياضية أو يذهب إلى مقهى بور فؤاد بشارع فؤاد ، فقد كان لا يقابل أحدًا من أصدقائه فى البيت عدا المقربين إليه من أصدقائه الأولين وكان يحرص على ألا يزوره أحد فى مكتبه بالمصلحة ، لأنه ليس مكانا لزيارات الصحاب والأصدقاء وكل مقابلاته تكون فى المقهى ، ويعرف الصحاب المكان الذى اعتاد الجلوس فيه من المقهى ، يشرب القهوة يطالع أو يكتب .. يقول الأديب يحيى حقى رحمه اللّه بصحيفة الأخبار فى 19/2/1986 " كنت أذهب لزيارته وهو موظف بوزارة الماليه ، فأجد على وجهه إمارات الصبر والخشوع ، وكان ذلك فى الخمسينيات تقريبا " ويقول صديق عمره عاشور عليش بمجلة الثقافه ـ عدد نوفمبر 1978 ـ " كنت أزوره فى مقر عمله فلا أجد ورقه واحده على مكتبه ، فقد أنجز الرجل عمله كاملا فى الساعات الأولى من الصباح ، الأمر الذى أدهش رؤساءه الكبار وجعله دائما موضع التكريم والاعتبار ـ وقبل الرؤساء الكبار ، حظى محمود بحب الأرامل واليتامى الذين كان فى خدمتهم دائما والذين يذكرونه بالخير والدعاء حتى اليوم .. إذ وجدوا فيه شيئا فريدًا لن يتكرر ، كان يستشعر مآسيهم باحساس الأديب وقلب فنان " ..
وكان محمود أثناء جلوسه فى المقهى يتطلع إلى الوجوه ويشاهد الحياة تجرى أمامه ، ( وفيها ينسى العمل الروتينى الذى يقوم به فى المصلحة ) ثم يحمل كتبه وأوراقه ويستأنف تجواله فى المدينة يستعرض ما فى واجهات المتاجر من ملابس وعطور وأدوات الزينة ، ويرى وجوه السائرين فى الشارع والمارين أمامه ، ثم يركب المترو إلى البيت ، أو يتخذ طريقه ماشيا على الأقدام ، وتطيب له هذه الجوله الليلية ليفكر ويتأمل فيما حوله ، وقد يجد أثناء سيره فى الطريق بعض المشاهد التى تعذب نفسه فتزيده سخطا ، ولا يجد متنفسا لها غير صبها بالكتابة ( غلمان الشوارع يجمعون أعقاب السجاير ـ السكارى والمعربدون ينسلون من الحانات ـ الإنجليز السكارى يصخبون ويعربدون ويتعرضون للاهالى ويشتبكون معهم ) ..
بعد العشاء ينام إذا أحس بالنوم أو يظل ساهرا ويستغرق فى المطالعة ـ كان مغرما بالإطلاع على ما هو جديد وما يدور فى الإنسانية من أحداث ـ غافلا عمن حوله ، ويستلقى بعدها فى ثبات عميق ..
* * *
إذا أرادت زوجته شراء بعض الأشياء اللازمه للبيت أو النزهه ، تمر أمام القهوة فى وقت معين متفق عليه ، وحينما يبصر بها ينهض من مقعده وينطلق فى إثرها ، ويمضى معها يسيران أمام الفاترينات مستعرضين الحوانيت ، وبعد الحصول على حاجتها ، يذهبان إلى السينما أو الكازينو وهى مسرورة فرحة وبعد أن يتعشيا يركبان المترو أو سيارة أجره إلى البيت ..
وكانت زوجته تحيط بيتها بجو من الهدوء المطلق ، وكان هذا الهدوء يحبب إليه الإقامه فيه جانبا كبيرا من النهار والليل ، فيجلس فى الشرفه يستمتع ويمتع بصره بما يحيط به من المناظر يحمله على التأمل ويكتب ..
* * *
كان بيته محطة للقادمين من الصعيد من الأهل والأقارب ، وإذا أصاب زوجته مرض إنتشر خبر مرضها فى الأسرة ويزدحم المنزل بالرائحين والقادمين ويصبح البيت كخلية النحل ، ويظل فى الليل ساهرا بجانب فراشها وحينما يمن اللّه عليها بالشفاء ، يخرج معها للنزهة لتسترد كامل صحتها ..
* * *
يخرج من غرفته ليلا بعد أن ينام جميع من فى البيت ويتجه إلى المطبخ ليصنع لنفسه فنجانا من القهوة ، فإذا وجد اللمبه ( لمبة جاز ) مشتعله تحت دماسه تدميس الفول يطفئها ويعود إلى مكانه من غرفته وكأنه ما فعل شيئا ، وحينما تصحو زوجته فى الصباح لتجهيز الإفطار تفاجأ بانطفاء اللمبة فتعتقد أن الهواء أطفأها ، ولما تكررت عدة مرات ، سألت محمود ، فطلب منها أن يكون إشعال اللمبة وعمل الفول نهاراً ، أما فى الليل فقد يحدث حريق دون أن يحس به إنسان ..
* * *
الابنـــــة الأولى
يحرص محمود على راحة زوجته وجلب المتعه والهناء لها ، فكان يذهب معها إلى الإسكندرية من حين إلى حين لتزور أهلها ويقضيا هناك أياما ، وحينما كانت زوجته فى الشهور الأخيرة من الحمل ، رافقها إلى والديها لتكون بينهما وبين أخواتها ولتضع هناك أول مولود لها ، وظل يتردد عليها ويخرج معها للنزهة ، ثم يتركها فى وقت متأخر من الليل ويذهب إلى الفندق للمبيت فيه ( رغم أن والدها مقيم بفيلا مكونة من ثلاث طوابق فى منطقة مصطفى باشا ، ولأنه بطبيعة تكوينه لا يحب أن يثقل على أحد حتى ولو كان عمه أب زوجته ) ويأتى إليها فى صباح اليوم التالى مدة وجوده بالإسكندرية ، وحينما يتركها ويعود إلى القاهرة لظروف عمله ، كان يتصل بها بالتليفون فى الساعة السادسة والنصف صباحاً قبل الخروج إلى عمله ..
فى اليوم الذى شعرت فيه زوجته بأنها على وشك وضع حملها كان موجودًا معها وطلبت منه أن لا يتركها وحدها ، وظل بجوارها ، وفى الساعة الحادية عشر مساء أحست بآلام الوضع ، فأيقظ والدتها من النوم وقام بنقلها إلى المستشفى اليونانى ( حجز لها جناح طوال مدة إقامتها بالمستشفى ) وأنجبت أول مولودة لها يوم الأربعاء 21 سبتمبر 1949 وسماها ليلى ، وظل مقيما معها بالمستشفى مدة عشرة ايام وفى أثنائها ذهب إلى شركة نادلر للحلويات وجاء بعلب الملبس ووزعها على المرضى والممرضات والعاملين بالمستشفى الذين قاموا باحياء حفل السبوع للمولوة ، وحينما رجعت زوجته بالرضيع إلى البيت ذبح محمود الذبائح وقام بتوزيعها وظل فترة من الزمن على ذلك حينما يحين موعد عيد ميلاد إبنته ..
كثيرا ما كان يصطحب زوجته وإبنته إلى الإسكندرية وبعد زيارة والدى زوجته يصطحبهم إلى الكابينه الخاصة على البحر بمنطقة جليم ، ويلبس المايوه ويجلس على الشط مدة وينطلق يعدو فى نشوه وتجرى إبنته وراءه كالجرو الصغير ثم يحملها على كتفيه وينزل بها الماء وهى فرحة جذله ويخرج بها على الشط ، وفى الكابينه يسلمها لأمها ويعود ينزل البحر ويغطس فى الماء ، وبعد قضاء النهار يصطحب ابنته وزوجته للمبيت فى الفندق ..
كانت زوجته تعتنى بالخدم ومظهرهم ولكل منهم عمل ، وجئ بمربية يقتصر عملها على العناية بالطفلة ومراعاة شئونها ، والخادم الصغير حسن يلبس جلبابا أبيض ويربط فى وسطه شريط أحمر وعلى رأسه طاقية بيضاء ، وعمله مقصور على شراء الأشياء الصغيرة من السوق ، فكان يخرج فى الصباح لإحضار طعام الإفطار ينطلق يعدو ويعود بنفس السرعة وتبهره مجلة البعكوكة فيشتريها بقرش ويخفيها بين ملابسه ، ويدخل الحمام الإحتياطى ويغلق الباب يتصفح المجلة ( رغم عدم معرفته للقراءة ) وقد حباه الله بذكاء فتعلم القراءة وحده دون معلم ، وتغير وتبدل حاله ، فأصبح يخرج فى الصباح ليأتى بالإفطار ويعود قرب الظهر ، وفى أغلب الحالات يكون ممسكا بالسلة فارغة كما خرج بها ويعول والسبب أن النقود ضاعت منه ..
فى أحد الأيام أثناء سير محمود فى الطريق إلى عمله شاهد الخادم فى الحديقة العامه وحوله بعض الصبية يستظلون تحت ظل شجره والسلة موضوعة فى جانبه ويقرأ لهم من مجله البعكوكة ( كان ينسى نفسه وينسى طلبات البيت ، وحينما يفيق إلى نفسه لا يجد النقود ) ..
كان جسمه ينمو سريعا ويزداد كل يوم طولاً ، وجاء شقيقه من الإسكندرية وأخذه معه إلى أسوان لرؤية أمه بعد فوات سنين وهو بعيد عنها ، وسافر ولم يعد ، ولكنه عاد بعد مدة من الزمن ، كزائر ، وقد فرع طوله وعمل فى إحدى الهيئات الكبرى بالقاهرة ولم ينقطع عن زيارتهم ..
حدث أن تعطل الجرس الكهربائى فى البيت ولما جاء قام بإصلاحه دون الإعتماد على السلم ، ففرح محمود من عبقريته ، وأتت زوجته بنجفة كريستال جديده ، ولما جاء حسن قام بتركيبها ..
وفى أحد ليالى أيام شهر رمضان كان محمود يجلس مع زوجته وابنته فى البلكون ، سمعوا دويا هائلا وإنفجارًا رهيبا أعقبه ظلام تام فى البيت كله ، فقد سقطت النجفة ..
إصابة محمود البدوى فى حادث
فكر محمود فى شراء سيارة صغيرة يستخدمها فى سفرياته الكثيره ، وفى 4/5/1951 إشترى سيارة ملاكى جديدة ماركة فولكس واجن موديل 1951 لونها أخضر من شركة النقل الميكانيكى بالقاهرة بمبلغ خمسمائه وستين جنيها وواظب على شراء مجلة إسمها الموتور وتصدر كل اسبوعين عن دار المطبوعات الحديثه وتتضمن إرشادات لقائدى السيارات لصيانة السيارة وإصلاح الأعطال البسيطة المحتمل حدوثها أثناء السير وموضوعات أخرى وكان سعيدا باقتنائها ، ويجلس فى مقعد القيادة وبجواره زوجته وإبنته وينحشر فى المقعد الخلفى الشغالين ويقوم بجوله ، وسافر بها كثيرا إلى الأسكندرية وأسيوط والبلاد الواقعه بينهما ..
* * *
فى أحد أيام شهر مارس وتحديدا صباح يوم 14/3/1952 إستيقظت زوجته وهى شاعرة بألم فى الأذن اليمنى ، وكان الجو شديد الحرارة كثير الغبار ، على خلاف الحالات فى شهر مارس ومضت أم محجوب مسرعة وحملت قليلا من الماء الساخن ووضعت الكمادات عليها ، ولكنها لم تحس بالراحة وازداد الألم وتحاملت على نفسها وارتدت ملابسها
وهبطا السلم ومحمود يحمل ابنته وركبوا السيارة وخرج من شارع البيت ، وأثناء السير كانت زوجته تتأوه من الألم وهو ينظر يمنه ويسره على اليفط المعلقة على شرفات المنازل والتى تشير إلى طبيب أذن ليعالجها من علتها حتى وصل إلى ميدان الإسماعيلية ، ولمح لافته صغيرة تشير إلى طبيب أنف وأذن ، فركن السيارة جانبا ، وصعدوا إليه ومحمود يحمل طفلته وكان عمرها سنتين ، وأستقبلها الطبيب وعلى وجهه البشر والإيناس ومد يده وهو يبتسم ، فقد كانت العيادة خالية من المرضى ، وتحدث مع الزوجه ، وشرحت له آلامها ونظر وفحص وعرف السبب ، ونظف الأذن وغسلها وبدأ يزول الألم ، ونزلوا من عنده وركبوا العربة إلى البيت ، ونزلت زوجته وإصطحب محمود إبنته فى جولة بالسيارة ، ولكنه تذكر ميعاد له فعاد بها ، وركب السيارة وحده ومشى ..
* * *
على حين غره ، وأثناء سيره بالسيارة فى مصر الجديدة إعترضته عربه كبيره تابعة للجيش المصرى قادمة مندفعة من طريق جانبى وصدمته صدمة عنيفة وهشمت سيارته وسحقتها وفرت بعد الحادث دون أن يلتقط رقمها أحد ، وكانت أم الملكة ناريمان فى شرفتها وأول من رأت الحادث ، فصرخت تنادى الحرس للحاق بسيارة الجيش الهاربة ، وإتصلت بالبوليس والاسعاف ، وجاؤا سريعا ، وكان الدركسيون حط على صدره ووجهه يدمى وقد غطاه الدم وحملوه على المحفة وهو غائب عن وعيه بين حى وميت ، وركب معه بعض الحرس ولم يتركوه وحده ، ومضت العربه فى الطريق إلى مستشفى الدمرداش ، وتم إسعافه بعملية نقل دم فى الحال من أحد الحراس المرافقين له والذى تبرع بدمه لعدم وجود دم كاف بالمستشفى فى الساعة التى نقل فيها ولولا هذا لمات ، ووضعت الضمادات على رأسه وصدره وذراعيه ، ونقل إلى الجناح الخاص بحرس القصر الملكى ..
فى الساعة الرابعة من مساء ذات اليوم ، رن جرس التليفون بالبيت وكان المتحدث يحمل خبر إصابة محمود البدوى فى حادث سيارة ونقل إلى مستشفى الدمرداش ، ونزل الخبر على زوجته كالصاعقة وصرخت وجاء الجيران يتساءلون ويطمئنون على إبنته التى كانت معه ، وأجريت الإتصالات بعمه بالإسكندرية والأعمام بالقاهرة ..
تزاحم الأهل بالمستشفى وأرادوا نقله إلى مستشفى خاص تتولى علاجه ، ولكن الطبيب رفض ذلك بشدة لخطورة حالته على النقل وصرح لهم بالبقاء معه كيفما شاؤا ..
لما رجع محمود إلى صوابه وفتح عينيه وجد نفسه ممددا على السرير لايقو على الحركة وحوله أقاربه الأقربين والأبعدين والدموع فى أعينهم ، وظهرت الفرحه على الوجوه بأن وهبه اللّه الحياة ، ثم أخذه النوم ، فجلسوا جميعا فى هدوء ينظرون إليه ووجهه يعبر عن آلامه ، وكثر المواسون والزائرون له ، وأخذت زوجته تلازمه ليلا ونهارًا حتى ظهرت عليه دلائل العافية واراد الخروج من المستشفى على مسئوليته وليكمل علاجه بالبيت ..
ومنح من العمل أجازه طويله حتى إسترد فيها عافيته وشفى وبدأ يزاول نشاطه فى المشى والكتابه ..
وتحرر عن الحادث الجنحة رقم 757 لسنه 1952 مصر الجديدة ، وباع السيارة بمبلغ 125 جنيها فى 1/6/1952 إلى ورشه جبور السيارات ، ولم يكرر محاولة إقتناء سيارة بعد ذلك أبدًا ..
يقول صديقه عاشور عليش فى صحيفة المساء 30/5/1963 " أذكر أنه فى عام 1950 إقتنى محمود البدوى سيارة صغيرة ، إشتراها لا ليركبها ويقودها داخل القاهرة وإنما إشتراها لهدف آخر بعيد ، هو أن يقوم برحلة بها حول العالم .. ولولا حادث مفاجئ أودى بالسيارة وأنقذ منه البدوى بأعجوبة لكان البدوى قد قام برحلة حول العالم بالسيارة ولكن إرادة اللّه شاءت أن يقوم بها بالطائرات والبواخر "
* * *
عاد محمود إلى الخروج للعمل ، وفى المساء يصنع لنفسه القهوة ( بن تقيل وسكر خفيف ) ويرتدى ملابسه كاملة ويجلس فى البلكونة وأمامه ترابيزة عليها لمبة مكتب ضوئها خافت ودورق مياة وكوب وأقلام رصاص وأستيكة ، ويكتب ، وتدخل عليه إبنته قبل الذهاب إلى النوم ، فيترك ما فى يده ويداعبها ، ويربت على خديها ويضمها إلى صدره ، وحينما تشعر بالنعاس ، تشرب من المياة الموضوعة أمامه وتنصرف إلى حجرتها لتنام ، وذلك إذا كان الوقت صيفا ، وأما فى الشتاء ، فيجلس فى حجرته بجوار الشباك يكتب بالقلم الرصاص وقد يحمل حقيبته وبها أوراقه واقلامه ويخرج إلى كازينو بميدان تريومف يكتب أو يقرأ إذا كان الجو لطيفا ..
ويقول تبارك بمجلة الفن الصادرة فى يوم الإثنين 4 يوليه 1955 تحت عنوان كيف يكتبون فى الصيف .. " وفى أقصى مصر الجديدة يعيش الأديب الأستاذ محمود البدوى ..
ومحمود البدوى لا يكتب فى الصيف إلا إذا توافرت شروط خاصة منها .. أن يكون مرتديا ملابسه كاملة ولابد أن يجلس كذلك فى مكان يستطيع منه مشاهدة السماء .. ثم يبدأ فى الكتابه ..
وفى الصيف لا يجد الأستاذ البدوى مكانا أصح للكتابة فى منزله .. من " البلكون " فيجلس على مقعد مريح وأمامه منضدة عليها أوراقه وبعض الأقلام الرصاص التى تعود دائما أن يكتب بها .. وعلى المنضده " لمبه مكتب " ينبعث منها ضوء هادئ .. ويظل الأستاذ البدوى غارقا فى الكتابة ولا يفيق إلا عندما تأتىابنته " ليلى " لتستعير منه قلم رصاص أو أستيكه .. أو لتشرب من ماء الدورق الذى أمام والدها .. فإن المياة التى أمامه .. تختلف فى نظر ابنته عن بقية أنواع المياة الأخرى ..
وعندما يضيق الأستاذ البدوى ذرعا بابنته .. يحمل أوراقه وأقلامه الرصاص .. ويجلس فى أقرب كازينو من منزله .. وبعد ساعات يعود إلى منزله .. ويجلس فى مكانه المعتاد ليواصل كتابته من جديد بعد أن ينام جميع أفراد أسرته ، وبقدر مدة نومه بعد الظهر .. تطول أو تقصر مدة كتابته .."
* * *
الابنة الثانية
حملت زوجة محمود للمرة الثانية وكان والدها نقل للعمل فى قنا وترك لابنته خادمته زايده لترعى شئونها خلال فترة الحمل ( رغم وجود أم محجوب ومبروكة ونعناعة التى تعتنى بابنتها ليلى ) ..
وفى حوالى الساعة الحادية عشر من مساء يوم 31/12/1953 شعرت بقرب وضع حملها ، فاتصل محمود تليفونيا بعيادة الطبيب وبالمستشفى فلم يجده فإتصل ببيته وأخبرته الخادمة بأنه يقضى ليلته فى سهره بالهرم ، فرجاها أن تتصل به وتخبره بالحالة وجاء الطبيب بسيارته سريعا ونقلها إلى مستشفى الدكتور مظهر عاشور وهيأ لها جناحًا خاصا ، وتمددت على السرير ، وظل محمود بجانبها ، ولما إقترب ميعاد الوضع حملوها على عربة صغيرة إلى جحرة الولادة ، ومرت دقائق الانتظار قاسيه وشديدة الوقع على نفسه ( لم يكن معه أحد فى ذلك الوقت ) ..
جاءت فاطمة الابنة الثانية مع خيوط فجر الأول من يناير 1954 ( وضاعت حفلة رأس السنة على الطبيب ) واتصلت الخادم زايدة بالتليفون من البيت باللواء عمر فى مديرية قنا وقالت له " الست حكمت بتولد وراحت المستشفى دلوقتى هى وسيدى محمود " فاتصل سريعا بأخواته الموجودين فى القاهرة اللواء حفظى والمستشار محمود وحسين وأعلنهم بالخبر وجاء هؤلاء إلى المستشفى ووجدوا زايده أمامهم وعنفوها لعدم الإتصال بهم ، فقالت .." أنا معرفشى النمر بتاعتكم ، أعرف نمرة سيدى عمر بس " وجاء والدها ووالدتها ..
إرتبك الحال فى المستشفى فى اليوم الثالث وامتلأت بالزهور وبالزائرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، اللواء محمد نجيب .. جمال عبد الناصر .. صلاح سالم .. جمال سالم .. وأقاربهم من السيدات وازدحمت طرقة المستشفى بالرجال والسيدات .. جاؤا لزيارة كمال الدين حسين الذى كان فى الحجرة المجاورة وأجريت له عملية الزائدة ..
فتحت أم حكمت الاستراحة الملحقة بالجناح وأدخلتهم ، جلسوا فيها ورحبت وقدمت لهم الشيكولاتة ، وكان محمود سعيدا بأن من اللّه عليه بالإبنة الثانية ..
* * *
كان محمود يصطحب ابنته ليلى فى الصباح للذهاب بها إلى المدرسة قبل الذهاب إلى العمل وفى العوده يمر عليها ويصطحبها إلى البيت ، وحبه الشديد لإبنتيه وتعلقه بهما كان له تأثير شديد على حياته ، ومن شده حرصه عليهما وعلى مستقبلهما ، علمتاه الخوف ، الخوف من السجن والإعتقال والتعذيب ، ولذلك نأى بنفسه عن السياسة ، فهناك فرق كبير ، كما يقول ، بين الوطنيه والسياسة ، فحب الوطن فى لحمه ودمه وعظامه أما السياسة فقد كرهها وكره مشتقات الكلمه ولعنها كما لعنها وكرهها الإمام محمد عبده ..
وكانت إبنته الكبرى تجمع طوابع البريد وتنزعها من على الخطابات التى ترد إليه قبل وصولها إلى يده باستثناء القليل منها التى لم تقع تحت يدها حتى تجمعت وتكونت لديها على مدى السنين مجموعة كبيره جدًا جدًا من مختلف أنحاء العالم ..
كان لا يحب الاختلاط ويتوق إلى الوحدة وقد أثر ذلك على إبنتيه ، وفى ذلك يقول .. "مع أننى تثقفت وخالطت الأجانب وسافرت كثيرا إلى الخارج ودرست الآداب الأجنبيه وترجمت بعضها .. إلا أننى شديد الحفاظ على مصريتى وتقاليدها وصعيديتى أيضا التى لا أتجرد منها أبدًا .. لأننى أجد فى جوهرها الحقيقى الكثير من القيم النبيلة ، التى لا تقل بحال من الأحوال عن المثل الأوربية ..
لقد ولدت ابنتاى فى القاهرة ، ومع ذلك لم أرد لهما الإختلاط الزائد عن حده .. الذى أصبح يتسم به المجتمع .. ولذلك لم تنضما إلى ناد من النوادى الكبيرة .. وإنما كان إختلاطهما فى حدود محيط الأقارب والأصدقاء الخلص فقط .. مما يتمشى مع تربيتى الريفية "
* * *
كان محمود يجلس يكتب أو يقرأ فى كازينو النزهة بميدان تريومف ، ويشاهد العمارة الضخمة التى تقيمها المنتجة آسيا أمام الميدان وأعجب بموقعها الفريد والمتميز وإستأجر فيها شقة بالدور الرابع وتطل واجهتها على الميدان وعلى شارع عثمان بن عفان مقابل أجرة شهرية مقدارها ستة عشر جنيها فى 28 مايو 1956 ..
ويقع الكازينو على الناصية الأخرى المواجهة للبيت ، ومفتوح من جميع الجهات ، وقد يكون فى صحبته صديقيه عاشور عليش وسعد حامد يجلس كل منهم يقرأ أو يكتب ، وإبنته الكبرى لا يغمض لها جفن حتى تأخذها مربيتها إلى الكازينو لتحية والدها قبل النوم ، فيأخذها بين يديه ويداعبها ، وقد ينضم إلى صحبته الأصدقاء أمين يوسف غراب وهلال شتا ومحمد على غريب ، ثم تنفلت ابنته وتقوم بدوره بين الموائد ، وبعد اللف والدوران قليلا ، تلقى تحية المساء على والدها والموجودين معه وتعود مع مربيتها إلى البيت لتنام ..
* * *
تغيير الإسم
محمود البدوى لم يكن هذا اسمه ، واسمه المكتوب بشهادة الميلاد هو محمود أحمد حسن عمر المولود ناحية الإكراد مركز أبنوب مديرية أسيوط ..
قام بتغيير هذا الإسم إلى محمود البدوى ، ونشرت جريدة أبو الهول ( جريدة يومية سياسية جامعة ) يوم الثلاثاء 29 يناير 1957 بالعدد رقم 9223 إعلانا يقول :
" تعلن وزارة الصحة العمومية أن محمود بن أحمد حسن عمر المقيم بميدان النزهة رقم 7 تبع قسم مصر الجديدة يرغب فى تغيير إسمه إلى محمود البدوى المشهور به ..
فالمعترض يتقدم للوزارة خلال خمسة عشر يوما .
مدير قسم الإحصاء
***
واستخرج شهاده ميلاد فى 9/6/1957 بالإسم الذى تم تغييره ومسجل فيها " صدر قرار اللجنة بتاريخ 28/2/1957 بتغيير الإسم إلى محمود البدوى أحمد حسن عمر بدلاً من محمود أحمد حسن عمر بدون التعرض لإسم الوالد بالكتاب رقم 341 فى 4/3/1957" كما قام بتغيير إسمه فى جميع الأوراق والمستندات الرسمية ..
فى نهاية عام 1957 سافر إلى الهند والصين واليابان فى بعثه ثقافية تضم نخبه من أساتذه الجامعات ورجال التعليم فى مصر ، وقبل السفر توجه فى 17/10/1957 إلى شركة يونيون للتأمين ضد خطر الطيران والحوادث التى تنتج عنها الوفاة خلال رحلته من القاهرة إلى الصين واليابان والعودة منهما فى المدة من 20/10/57 وحتى 20/12/57 لصالح زوجته وإبنتيه بمبلغ (5000 جنيه) خمسة آلاف جنيه ..
***
حياة البدوى الوظيفية
استمر البدوى فى العمل بوزارة الماليه منذ التحاقه بها فى 12 / 3 / 1932 ولم يطلب نقله للعمل فى وظيفة اخرى لها صلة بالآداب وفنونه مثلما فعل زملاء آخرين له من الأدباء ، وكان راضيا قانعا بوظيفته إلى أن احيل إلى المعاش لبلوغه سن الستين .
وحياته الوظيفيه كما سطرها بخط يده
تاريخ الالتحاق بالعمل
12 / 3 / 1932
تاريخ التثبيت
1 / 9 / 1934
تاريخ العمل بحسابات الحكومة
9 / 2 / 1938
تاريخ الترقية إلى الدرجة السادسة
1 / 11 / 1949
تاريخ الترقية إلى الدرجة الخامسة
1 / 12 / 1954
تاريخ الترقية إلى الدرجة الرابعة
1 / 3 / 1958
تاريخ الترقية إلى الدرجة الثالثة
30 / 3 / 1961
تاريخ الترقية إلى الدرجة الثانية
29 / 11 / 1962
وشغل وظيفة مراقب عام بوزارة الخزانة
***
الأيام الأخيرة
أصيب البدوى بقصور فى الدورة الدموية للقلب ، ورغم ذلك ظل يكتب ، وكان يشعر بالانقباض والتشاؤم من توقف الساعة المعلقه فى صالة البيت ، ويطمئن بعد تحرك بندولها ، ويفكر فى الموت كأمر حتمى يقع لكل إنسان ..
وقال للأديب محمد جبريل فى الحوار الذى اجراه معه ونشر بمجلة السياسة الكويتية بعددها الصادر 16 / 2 /1986 « يشعر دائما بأنه سيموت فى الشارع مثلما مات إدجار ألان بو .. صحيح أن الموت واحد ، ولكن الفارق الوحيد بين شبح الأديب الأمريكى ، والشبح الذى أراه ، أن بو وجد كرسيا فى الشارع مات فوقه ، أما أنا ، فلم أشعر أنى سأجد حجرا أرقد عليه » ..
وكانت آخر رحلة قام بها فى 6 / 6 / 1984 إلى الأراضى المقدسة وحينما عاد من هذه الرحلة بدأ يكتب القصة الدينية ، فكتب قصة سماها « الطوق » وتحكى قصة سيدنا موسى منذ ولادته أيام فرعون وحتى ذهاب الرئيس السادات إلى القدس « لم تنشر » والقصة الثانيه باسم « المعراج » وكان لا يتخلف عن حضور لجان القصة بالمجلس الاعلى للثقافة وتقول صوفى عبد اللّه « .. أخر مرة كان يجلس أمامى فى الاجتماع منذ 3 أسابيع واثناء جلوسه تدفق الدم من أنفه فوضع منديله عليه ولم يتكلم وعدت به إلى منزله وانا فى غاية الاضطراب »
ويقول رستم كيلانى بذات الجريدة « إتصل بى تليفونيا يشكرنى على سؤالى عنه وهو مريض بالرغم من أن الاطباء كانوا ينصحونه بعدم الكلام » ..
وجاءت ابنة عمه هدى ، جاءت من الخارج لزيارته ، ووجدت الطبيب معه يطمئنه عن حالته فقال له إنى أرى
الموت أمام عينى ، وبعد بضعة أيام قليلة .. ! إنتهى ، إنتهى فى يوم الأربعاء الثانى عشر من شهر فبراير سنة 1986 بمنزله ونقل جثمانه إلى قريته ـ الاكراد بمحافظة أسيوط ـ حيث دفن بمقابر الأسرة بالجبل الغربى ..
و
زواج محمود البدوى
تزوج ضابط البوليس عمر حسن عم محمود البدوى من إبنة خاله وأنجب منها ولد وأربع بنات ، وما يهمنا هنا هى إبنته حكمت التى أصبحت فيما بعد زوجة محمود البدوى ..
ولدت حكمت فى مدينة كفر الزيات عام 1930 ، وكان والدها معاون نقطه بوليس المدينة وفرح بها والديها كثيرا ، فقد كانت الإبنه الأولى وسميت على إسم المولدة ، وحينما كبرت وشد عودها التحقت بمدارس مختلفة نظرًا لظروف عمل والدها والذى كان دائم التنقل بين بلاد القطر ( نوتردام بالزيتون ـ ليسيه مصر الجديدة ـ ليسيه بور سعيد ـ راهبات الإسماعيلية ) ..
* * *
إنتقل محمود من مسكنه بالحلمية الجديدة إلى منطقة المنيل بشارع محمد سالم ، وأتى بسيدة من القرية للاعتناء بشئون بيته ، وكانت لا تفعل أكثر من غسل ملابسه وإعداد فنجان القهوة فى الصباح ولم تكن تعرف الطهى ، وإستعان بطباخ يطهو له طعامه ، وتعددت سرقاته ، يسرق نقوده وملابسه ، ويسرق وهو يشترى مستلزمات البيت ، حتى قطعة الصابون لم تسلم من يده فطرده ، وخرجت من بعده الخادمه من البيت ، ولم تعد ، فحرر مذكرة بنقطة بوليس المنيل قيدت تحت رقم 36 فى 14/4/1943 ..
إستعان بعد هذه الواقعة بسيدة أرمل ولديها طفلتان وإسمها أم محجوب ( وهى لا محجوب لها ) تقوم بشئون البيت وتطهو له طعامه ثم تذهب إلى بيتها لمراعاة طفلتيها ..
* * *
فى عام 1945 جاءت شقيقته فاطمة من الريف بصحبة عمه حسين لعرضها على الأطباء فى المدينة لشدة مرضها ، وتركها العم وذهب إلى حال سبيله ، وأقامت شقيقته معه ، وتوقف محمود عن السفر والترحال ، وعن مزاولة التمرينات الرياضية بنادى الجمباز بالمعهد المصرى للرياضة البدنيه ( الإشتراك السنوى ستة جنيهات والإشتراك الشهرى جنيه واحد ) كما توقف عن الجلوس مع أصدقائه بالمقهى ، فكان يخرج من عمله إلى البيت مباشرة لمراعاة المريضة وحتى لا يتركها وحدها ، وكثرت زيارات أعمامه حسين وحفظى ومحمود وترددهم على مسكنه لمعاودة المريضة ..
* * *
فى أحد أيام صيف عام 1945 جاء عمه عمر من بور سعيد ومعه زوجته وإبنتهما حكمت الطالبة بمدرسة الليسيه لزيارة المريضة والإطمئنان عليها ، وكانت حكمت تلبس رداء محتشما بسيطا مصففه شعرها الطويل فى جدائل وملقى وراء ظهرها ، وهى على جانب كبير من الجمال وبشرتها نقيه وعيناها خضراوين ..
إنتهز محمود الفرصة وطلب من عمه إبقاء إبنته خلال فترة الإجازة الصيفيه لتؤنس إبنة عمها المريضة وليستطيع إنجاز بعض أعماله الخاصه ، فوافق العم ..
عاد محمود إلى البيت بعد إنتهاء عمله بالمصلحة ليتناول الغداء كعادته ، فوجد تغييراً حدث فيه وأن يدًا جديدة مرت عليه وبجو أنيق ممتع ، وبعد تناول قهوة العصر خرج من البيت ..
كان يعود بعد منتصف الليل بقليل ، ويفتح الباب ويدخل فإذا أحس بأنهما لم يناما يجلس يتسامر معهما ويحكى عن سفرياته فى الداخل والخارج ، ويتحدث فى هدوء وإتزان ويصف ما شاهده فى أوربا وحكمت تستمع إليه فى شغف ومأخوذه بحلاوة حديثه ، وتنصت ، وتنظر إليه نظرة إكبار وإجلال ، وحينما يشعر أن النوم بدأ يداعب أجفانهما ، يتركهما ويذهب إلى غرفته ليقرأ أو ينام ..
كان البيت وما حوله هادئاً ، فكانت حكمت تسلى وحدتها فى الوقت الذى كانت تنام فيه المريضة ، تتصفح المجلات وتنظر إلى مجموعة الصور التى جاء بها من البلاد التى زارها حتى تشعر بالنوم ..
* * *
عاد محمود إلى البيت ليلا ، فى غير ميعاده ، مبكراً قليلاً ، فوجد ابنة عمه ساهرة وحدها ، جالسة أمام المكتب تتصفح إحدى المجلات المصورة ، وحينما رأته قامت ، فأشار عليها بأن يجلسا قليلا ليتحدثا حتى تشعر بالنوم ، فإستجابت ـ وأخذ يتحدث معها ويسألها عن أخواتها ودراستها وبور سعيد وضواحيها وملاعبها ـ سبق له أن ذهب إلى هذه المدينة كثيرا وطاف فى أحيائها ـ ولكنه كلما سألها عن شئ يظهر الخجل عليها وتحس بأن لسانها يقف فى حلقها وترد عليه ردود مقتضبة ، وحينما ينظر إليها تحول وجهها عنه وتتلعثم ، ولما لم تجد مفرا مما هى فيه ، ولإنقاذ نفسها مما أصابها ، تتصنع التثاؤب وتتركه وتدخل حجرة المريضه مدعية غلبة النوم عليها ..
وعلى الرغم من أن محمود صادق وعرف الكثير من الأجانب والمصريين فى شرق البلاد وغربها أثناء إقامته بالبنسيونات والغرف المفروشة لدى الأجانب بالقاهرة السويس والإسكندرية وأثناء تجواله ورحلاته بالخارج ، إلا أنه لم تستطع واحده منهن أن تجذبه إليها ويتخذها زوجة له على مدى الأيام التى إنصرمت من عمره الفائت ، حيث طالت مدة عزوبيته ، وذلك بسبب حبه للأدب وعشقه له اللذين لم يتركا لنفسه مهلة للتفكير فى الزوجة والأسرة ، ولكن ابنة العم لفتت نظره وشدت إنتباهه لأنها لم تنطلق بالقول وتفيض وتثرثر كغيرها من النساء ، ورآها أنها ستكون أصلح زوجة له ، وعزم على ذلك ، ولكنه لم يتخذ أى خطوة عمليه ، وظل مترددا يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وجاء عمه عمر وزوجته واطمأنا على المريضه ، واصطحبا ابنتهما وإنصرفوا وشفيت المريضة وعادت إلى الريف لترعى شئون بيتها ، وانتقل محمود إلى مسكن آخر بالسيدة زينب والتحقت حكمت بمدرسة راهبات بمدينة الإسماعيلية بعد نقل والدها إليها ..
زواج محمود البدوى
جاء أحد الأقارب الأبعدين لخطبة ابنة عمه حكمت ، وعلم محمود بالخبر ، وأحس بمجرد سماعه بالألم ، فقد كان يحس بأنه يحتجزها لنفسه ، وفاتح عمه حسين فى أول زيارة له ، وبارك الخطوة وشجعه عليها وآل على نفسه أن يساعده حتى بلوغ غايته ويذلل له كل الصعاب التى تعترض طريق هذا الزواج وإتمامه وخاصة مما يصدر عن والدتها ، وطلب منه تجهيز المهر وأن يكون مستعدَا ، فأجاب محمود من فوره بأنه جاهز ومعد نفسه لهذا اليوم ..
* * *
قدم محمود إلى عمه عمر فى الإسماعيلية ، وكعادته كان حسن الملبس والمظهر ، وصاحبه فى تلك الزياره عمه حسين ، ورحب والد حكمت بطلب ابن أخيه ، وسمعت حكمت وغمر كيانها السرور الباطن ، ولكن الاعتراضات كانت من جانب والدتها التى دست أنفها فى الموضوع ـ وهذا حقها ـ لسبب فارق السن بينهما ، ولما انطلق العم حسين فى مناقشات معها ، ارتسم الأسى على وجه محمود وعلق بصره بها وجلس صامتا ، ونظر إليه عمه وتبسم واشار إليه وجلسا على كرسيين فى الصالون الأخر يتحدثان ويرقبان عن بعد ما تسفر عنه المناقشات ، وحكمت ترمق أمها فى جانب من خارج الحجرة وتنصت باهتمام شديد إلى الحوار الدائر بينهما ، فقد كانت أمنيتها وسعادتها أن تتزوجه وتعيش معه تحت سقف واحد ، وتتطلع بشغف إلى إنتهاء المناقشات لتعرف النتيجة النهائيه ، ولكن النقاش والحديث استمر إلى الساعات الأولى من الصباح ، وأخيرا حسم العم الموقف وصمم على أنه لا رجعة عن إتمام الزواج بعد موافقه شقيقه والد حكمت ، وانصاعت الأم ورضخت للأمر ووافقت ، وهزت الفرحة قلب محمود ، وأخرج المهر من جيب سترته وسلمه إلى عمه عمر ..
* * *
رقى والد حكمت إلى رتبه القائمقام ونقل للعمل بالإسكندرية مأموراً لقسم محرم بك ، وفى صباح يوم أثناء وجوده بالقسم دخل عليه أحد العساكر ممسكا بيده طفله صغيره عمرها لا يتجاوز الثمان سنوات وقال له وجدناها ليلا فى الطريق تبكى ولا تعرف شيئا من أمر نفسها وعلم منها أنها من الفلاحين وتعمل لدى أسرة ضربوها فخرجت إلى الطريق ، فسألها المأمور عن هذه الأسرة وعنوانها واسمها ، فقالت .. معرفشى ، فسألها كانوا بينادوكى بإيه ، قالت .. مبروكه ..
وتحرر محضر بالواقعة وتسلمها المأمور وأرسلها إلى البيت إلى حين ظهور من يسأل عنها ( لم يسأل عنها أحد ) وظلت فى البيت مع الشغالين ( طباخ أسمر اسمه محمد من أسوان ومعه شقيقه الأصغر حسن وعمره سبع سنوات وزايده التى تعتنى بشئون البيت ) ..
* * *
كان محمود يعشق الإسكندرية وكثير التردد عليها ويقضى فيها ليلته فى البنسيون الذى إعتاد أن ينزل فيه كلما هبط المدينه ، وفى الليل يسير بجوار البحر ويجلس على الشط حالما مفكرا ويمتع بصره بجمال الطبيعة ، وتطيب له الجولة الليلية لأنها رياضة عضلية للجسم ويستطيع أن يتبين جمال المدينة بعد أن تنقطع الرجل ، فكان يعرفها ويعرف كل شبر فيها جيداً ، أسماء الشوارع والبنسيونات واللوكاندات ، بدرجة مذهله ..
حرص محمود فىالذهاب إلى عروسه ، واصبح يخرج معها ويرافقه فيها والديها للنزهة ، ومن فرط سعادتها وسعادته كانا يحسان بأنهما فى حلم جميل ، وكانت منبهره بأسلوب تعامله معها وطريقته فى الحديث وبالكلمات الحلوة الجميلة التى يلقيها على سمعها ، وبعد السير على شط البحر يجلسون فى أحد الكازينوهات ، وبعد انتهاء السهرة والعشاء فى الكازينو ، يعودون من حيث أتوا ، ويتركهم ويذهب إلى البنسيون للمبيت ..
* * *
أخذ محمود فى البحث عن شقة الزوجية بحى مصر الجديدة ـ كانت جميع العمارات بلا إستثناء تعلق يافطة على باب المنزل وفى واجهة الشرفات تشير إلى وجود شقة خالية ، وكان الملاك يحاولون بكل السبل وشتى الوسائل جذب ساكن لها ـ فعثر على شقه فى بناية حديثه ( تقع على ناصيه ) بالدور الثالث بشارع محمد رمزى ( الإمام على سابقا ) نمرة 32 بإيجار شهرى عشرة جنيهات وخمسمائه مليم ، وسر بها كثيرا لأنها فى منطقة هادئه وبها بلكونه واسعه وفسيحه وتطل على شارعين ، وراقه الهدوء ، ويستطيع أن يجلس يقرأ فيها ويكتب ، وكان السكان حوله خليطا من المصريين والأجانب وسر عمه وزوجته بها كثيرا وبموقعها الجميل ، واستأجرها من أول أبريل 1947 ..
نقل العفش من تاجر الأثاث إلى عش الزوجية ، وجاء الخدم من عند والدها بالإسكندرية ، وأشرف بنفسه على تنظيم الغرف وإعداد الفرش ولم ينس الحجرة الخاصة بالضيوف لمن يهل عليه من الأهل ، وتحدد يوم الزفاف بفيلا عم العروس المستشار محمود بالجيزه يوم 19 مايو 1947 .
حينما علم الخادم الصغير الأسمر ومبروكه اللذين يخدمان عند والد العروس ، بزواجها وإنتقالها إلى القاهرة ، بكيا ، وأصرا أن يسافرا ويكونا معها وفى خدمتها ـ كانا يحبونها حبا خالصا ـ وأبدت العروس رغبتهما لمحمود فلم يمانع وعرض عليها ـ إن شاءت ـ الإبقاء على أم محجوب التى تطهو له طعامه وتعنى بشئون البيت ، فرحبت ..
كان بالشقه صندره فسيحه أعلى الحمام يتم الصعود إليها بسلم خشبى متحرك من المطبخ وبها شباك ، وضع فيها فرش ومراتب وأعدت لتكون مكانا لنوم الشغالين ..
* * *
جاء اليوم المحدد للزفاف وقصرت الحفلة على عدد قليل من الأهل والأقارب الموجودين بالقاهرة ، لأن الأسرة لم تزل فى فترة حداد على والد محمود الذى توفى عام 1941 ، ولم تكن بالحفلة دفوف تدق وموسيقى تصدح ومطرب يغنى أو راقصة تحيى الفرح ولمبات تضاء للزينة ، وفى المساء وصل المأذون من قرية الأكراد ، وتم العقد ( مسجل بوثيقة الزواج أن الصداق قدره 700 جنيه مصرى حالا ومؤجلاً والحال منه مبلغ 350 جنيها ) وبعد تناول العشاء هنأ الحاضرون العروسين وإنصرفوا وإصطحب محمود عروسه فى سيارة خاصة قامت بجوله فى أنحاء القاهرة ..
غادر المأذون الحفل بعد العشاء ، وذهب إلى أقاربه المقيمين بحى روض الفرج ، وأثناء سيره هناك اعترضه بعض اللصوص وجردوه من ملابسه ونقوده ، وكانوا رحماء به بأن تركوا له دفتر إثبات الزواج ..
* * *
بعد حفلة العرس ، قضى محمود الأسبوع الأول من الزواج بالبيت ، وكان أول من يستيقظ من النوم فى الصباح ، ويستهل يومه ببعض التمرينات الرياضية ويحلق ذقنه ويأخذ حماما سريعا بالمياه الطبيعية دون تسخين فى الصيف لينشط ، ويقرأ بعض آيات من كتاب اللّه ، وتقوم زوجته وتقدم له فنجان الشاى وتعد له طعام الأفطار ، وبعده يعد لنفسه فنجانا من القهوة يصنعه بنفسه ويخرج إلى عمله ..
تترقب زوجته عودته من العمل للغداء ، وكانت الفترة التى تعقب الغداء ثقيله على نفسه ، فيستريح ساعة أو ساعتين وفى الأصيل يستمع إلى الموسيقى ويخرج من البيت إلى نادى الجمباز لمزاوله بعض التمرينات الرياضية أو يذهب إلى مقهى بور فؤاد بشارع فؤاد ، فقد كان لا يقابل أحدًا من أصدقائه فى البيت عدا المقربين إليه من أصدقائه الأولين وكان يحرص على ألا يزوره أحد فى مكتبه بالمصلحة ، لأنه ليس مكانا لزيارات الصحاب والأصدقاء وكل مقابلاته تكون فى المقهى ، ويعرف الصحاب المكان الذى اعتاد الجلوس فيه من المقهى ، يشرب القهوة يطالع أو يكتب .. يقول الأديب يحيى حقى رحمه اللّه بصحيفة الأخبار فى 19/2/1986 " كنت أذهب لزيارته وهو موظف بوزارة الماليه ، فأجد على وجهه إمارات الصبر والخشوع ، وكان ذلك فى الخمسينيات تقريبا " ويقول صديق عمره عاشور عليش بمجلة الثقافه ـ عدد نوفمبر 1978 ـ " كنت أزوره فى مقر عمله فلا أجد ورقه واحده على مكتبه ، فقد أنجز الرجل عمله كاملا فى الساعات الأولى من الصباح ، الأمر الذى أدهش رؤساءه الكبار وجعله دائما موضع التكريم والاعتبار ـ وقبل الرؤساء الكبار ، حظى محمود بحب الأرامل واليتامى الذين كان فى خدمتهم دائما والذين يذكرونه بالخير والدعاء حتى اليوم .. إذ وجدوا فيه شيئا فريدًا لن يتكرر ، كان يستشعر مآسيهم باحساس الأديب وقلب فنان " ..
وكان محمود أثناء جلوسه فى المقهى يتطلع إلى الوجوه ويشاهد الحياة تجرى أمامه ، ( وفيها ينسى العمل الروتينى الذى يقوم به فى المصلحة ) ثم يحمل كتبه وأوراقه ويستأنف تجواله فى المدينة يستعرض ما فى واجهات المتاجر من ملابس وعطور وأدوات الزينة ، ويرى وجوه السائرين فى الشارع والمارين أمامه ، ثم يركب المترو إلى البيت ، أو يتخذ طريقه ماشيا على الأقدام ، وتطيب له هذه الجوله الليلية ليفكر ويتأمل فيما حوله ، وقد يجد أثناء سيره فى الطريق بعض المشاهد التى تعذب نفسه فتزيده سخطا ، ولا يجد متنفسا لها غير صبها بالكتابة ( غلمان الشوارع يجمعون أعقاب السجاير ـ السكارى والمعربدون ينسلون من الحانات ـ الإنجليز السكارى يصخبون ويعربدون ويتعرضون للاهالى ويشتبكون معهم ) ..
بعد العشاء ينام إذا أحس بالنوم أو يظل ساهرا ويستغرق فى المطالعة ـ كان مغرما بالإطلاع على ما هو جديد وما يدور فى الإنسانية من أحداث ـ غافلا عمن حوله ، ويستلقى بعدها فى ثبات عميق ..
* * *
إذا أرادت زوجته شراء بعض الأشياء اللازمه للبيت أو النزهه ، تمر أمام القهوة فى وقت معين متفق عليه ، وحينما يبصر بها ينهض من مقعده وينطلق فى إثرها ، ويمضى معها يسيران أمام الفاترينات مستعرضين الحوانيت ، وبعد الحصول على حاجتها ، يذهبان إلى السينما أو الكازينو وهى مسرورة فرحة وبعد أن يتعشيا يركبان المترو أو سيارة أجره إلى البيت ..
وكانت زوجته تحيط بيتها بجو من الهدوء المطلق ، وكان هذا الهدوء يحبب إليه الإقامه فيه جانبا كبيرا من النهار والليل ، فيجلس فى الشرفه يستمتع ويمتع بصره بما يحيط به من المناظر يحمله على التأمل ويكتب ..
* * *
كان بيته محطة للقادمين من الصعيد من الأهل والأقارب ، وإذا أصاب زوجته مرض إنتشر خبر مرضها فى الأسرة ويزدحم المنزل بالرائحين والقادمين ويصبح البيت كخلية النحل ، ويظل فى الليل ساهرا بجانب فراشها وحينما يمن اللّه عليها بالشفاء ، يخرج معها للنزهة لتسترد كامل صحتها ..
* * *
يخرج من غرفته ليلا بعد أن ينام جميع من فى البيت ويتجه إلى المطبخ ليصنع لنفسه فنجانا من القهوة ، فإذا وجد اللمبه ( لمبة جاز ) مشتعله تحت دماسه تدميس الفول يطفئها ويعود إلى مكانه من غرفته وكأنه ما فعل شيئا ، وحينما تصحو زوجته فى الصباح لتجهيز الإفطار تفاجأ بانطفاء اللمبة فتعتقد أن الهواء أطفأها ، ولما تكررت عدة مرات ، سألت محمود ، فطلب منها أن يكون إشعال اللمبة وعمل الفول نهاراً ، أما فى الليل فقد يحدث حريق دون أن يحس به إنسان ..
* * *
الابنـــــة الأولى
يحرص محمود على راحة زوجته وجلب المتعه والهناء لها ، فكان يذهب معها إلى الإسكندرية من حين إلى حين لتزور أهلها ويقضيا هناك أياما ، وحينما كانت زوجته فى الشهور الأخيرة من الحمل ، رافقها إلى والديها لتكون بينهما وبين أخواتها ولتضع هناك أول مولود لها ، وظل يتردد عليها ويخرج معها للنزهة ، ثم يتركها فى وقت متأخر من الليل ويذهب إلى الفندق للمبيت فيه ( رغم أن والدها مقيم بفيلا مكونة من ثلاث طوابق فى منطقة مصطفى باشا ، ولأنه بطبيعة تكوينه لا يحب أن يثقل على أحد حتى ولو كان عمه أب زوجته ) ويأتى إليها فى صباح اليوم التالى مدة وجوده بالإسكندرية ، وحينما يتركها ويعود إلى القاهرة لظروف عمله ، كان يتصل بها بالتليفون فى الساعة السادسة والنصف صباحاً قبل الخروج إلى عمله ..
فى اليوم الذى شعرت فيه زوجته بأنها على وشك وضع حملها كان موجودًا معها وطلبت منه أن لا يتركها وحدها ، وظل بجوارها ، وفى الساعة الحادية عشر مساء أحست بآلام الوضع ، فأيقظ والدتها من النوم وقام بنقلها إلى المستشفى اليونانى ( حجز لها جناح طوال مدة إقامتها بالمستشفى ) وأنجبت أول مولودة لها يوم الأربعاء 21 سبتمبر 1949 وسماها ليلى ، وظل مقيما معها بالمستشفى مدة عشرة ايام وفى أثنائها ذهب إلى شركة نادلر للحلويات وجاء بعلب الملبس ووزعها على المرضى والممرضات والعاملين بالمستشفى الذين قاموا باحياء حفل السبوع للمولوة ، وحينما رجعت زوجته بالرضيع إلى البيت ذبح محمود الذبائح وقام بتوزيعها وظل فترة من الزمن على ذلك حينما يحين موعد عيد ميلاد إبنته ..
كثيرا ما كان يصطحب زوجته وإبنته إلى الإسكندرية وبعد زيارة والدى زوجته يصطحبهم إلى الكابينه الخاصة على البحر بمنطقة جليم ، ويلبس المايوه ويجلس على الشط مدة وينطلق يعدو فى نشوه وتجرى إبنته وراءه كالجرو الصغير ثم يحملها على كتفيه وينزل بها الماء وهى فرحة جذله ويخرج بها على الشط ، وفى الكابينه يسلمها لأمها ويعود ينزل البحر ويغطس فى الماء ، وبعد قضاء النهار يصطحب ابنته وزوجته للمبيت فى الفندق ..
كانت زوجته تعتنى بالخدم ومظهرهم ولكل منهم عمل ، وجئ بمربية يقتصر عملها على العناية بالطفلة ومراعاة شئونها ، والخادم الصغير حسن يلبس جلبابا أبيض ويربط فى وسطه شريط أحمر وعلى رأسه طاقية بيضاء ، وعمله مقصور على شراء الأشياء الصغيرة من السوق ، فكان يخرج فى الصباح لإحضار طعام الإفطار ينطلق يعدو ويعود بنفس السرعة وتبهره مجلة البعكوكة فيشتريها بقرش ويخفيها بين ملابسه ، ويدخل الحمام الإحتياطى ويغلق الباب يتصفح المجلة ( رغم عدم معرفته للقراءة ) وقد حباه الله بذكاء فتعلم القراءة وحده دون معلم ، وتغير وتبدل حاله ، فأصبح يخرج فى الصباح ليأتى بالإفطار ويعود قرب الظهر ، وفى أغلب الحالات يكون ممسكا بالسلة فارغة كما خرج بها ويعول والسبب أن النقود ضاعت منه ..
فى أحد الأيام أثناء سير محمود فى الطريق إلى عمله شاهد الخادم فى الحديقة العامه وحوله بعض الصبية يستظلون تحت ظل شجره والسلة موضوعة فى جانبه ويقرأ لهم من مجله البعكوكة ( كان ينسى نفسه وينسى طلبات البيت ، وحينما يفيق إلى نفسه لا يجد النقود ) ..
كان جسمه ينمو سريعا ويزداد كل يوم طولاً ، وجاء شقيقه من الإسكندرية وأخذه معه إلى أسوان لرؤية أمه بعد فوات سنين وهو بعيد عنها ، وسافر ولم يعد ، ولكنه عاد بعد مدة من الزمن ، كزائر ، وقد فرع طوله وعمل فى إحدى الهيئات الكبرى بالقاهرة ولم ينقطع عن زيارتهم ..
حدث أن تعطل الجرس الكهربائى فى البيت ولما جاء قام بإصلاحه دون الإعتماد على السلم ، ففرح محمود من عبقريته ، وأتت زوجته بنجفة كريستال جديده ، ولما جاء حسن قام بتركيبها ..
وفى أحد ليالى أيام شهر رمضان كان محمود يجلس مع زوجته وابنته فى البلكون ، سمعوا دويا هائلا وإنفجارًا رهيبا أعقبه ظلام تام فى البيت كله ، فقد سقطت النجفة ..
إصابة محمود البدوى فى حادث
فكر محمود فى شراء سيارة صغيرة يستخدمها فى سفرياته الكثيره ، وفى 4/5/1951 إشترى سيارة ملاكى جديدة ماركة فولكس واجن موديل 1951 لونها أخضر من شركة النقل الميكانيكى بالقاهرة بمبلغ خمسمائه وستين جنيها وواظب على شراء مجلة إسمها الموتور وتصدر كل اسبوعين عن دار المطبوعات الحديثه وتتضمن إرشادات لقائدى السيارات لصيانة السيارة وإصلاح الأعطال البسيطة المحتمل حدوثها أثناء السير وموضوعات أخرى وكان سعيدا باقتنائها ، ويجلس فى مقعد القيادة وبجواره زوجته وإبنته وينحشر فى المقعد الخلفى الشغالين ويقوم بجوله ، وسافر بها كثيرا إلى الأسكندرية وأسيوط والبلاد الواقعه بينهما ..
* * *
فى أحد أيام شهر مارس وتحديدا صباح يوم 14/3/1952 إستيقظت زوجته وهى شاعرة بألم فى الأذن اليمنى ، وكان الجو شديد الحرارة كثير الغبار ، على خلاف الحالات فى شهر مارس ومضت أم محجوب مسرعة وحملت قليلا من الماء الساخن ووضعت الكمادات عليها ، ولكنها لم تحس بالراحة وازداد الألم وتحاملت على نفسها وارتدت ملابسها
وهبطا السلم ومحمود يحمل ابنته وركبوا السيارة وخرج من شارع البيت ، وأثناء السير كانت زوجته تتأوه من الألم وهو ينظر يمنه ويسره على اليفط المعلقة على شرفات المنازل والتى تشير إلى طبيب أذن ليعالجها من علتها حتى وصل إلى ميدان الإسماعيلية ، ولمح لافته صغيرة تشير إلى طبيب أنف وأذن ، فركن السيارة جانبا ، وصعدوا إليه ومحمود يحمل طفلته وكان عمرها سنتين ، وأستقبلها الطبيب وعلى وجهه البشر والإيناس ومد يده وهو يبتسم ، فقد كانت العيادة خالية من المرضى ، وتحدث مع الزوجه ، وشرحت له آلامها ونظر وفحص وعرف السبب ، ونظف الأذن وغسلها وبدأ يزول الألم ، ونزلوا من عنده وركبوا العربة إلى البيت ، ونزلت زوجته وإصطحب محمود إبنته فى جولة بالسيارة ، ولكنه تذكر ميعاد له فعاد بها ، وركب السيارة وحده ومشى ..
* * *
على حين غره ، وأثناء سيره بالسيارة فى مصر الجديدة إعترضته عربه كبيره تابعة للجيش المصرى قادمة مندفعة من طريق جانبى وصدمته صدمة عنيفة وهشمت سيارته وسحقتها وفرت بعد الحادث دون أن يلتقط رقمها أحد ، وكانت أم الملكة ناريمان فى شرفتها وأول من رأت الحادث ، فصرخت تنادى الحرس للحاق بسيارة الجيش الهاربة ، وإتصلت بالبوليس والاسعاف ، وجاؤا سريعا ، وكان الدركسيون حط على صدره ووجهه يدمى وقد غطاه الدم وحملوه على المحفة وهو غائب عن وعيه بين حى وميت ، وركب معه بعض الحرس ولم يتركوه وحده ، ومضت العربه فى الطريق إلى مستشفى الدمرداش ، وتم إسعافه بعملية نقل دم فى الحال من أحد الحراس المرافقين له والذى تبرع بدمه لعدم وجود دم كاف بالمستشفى فى الساعة التى نقل فيها ولولا هذا لمات ، ووضعت الضمادات على رأسه وصدره وذراعيه ، ونقل إلى الجناح الخاص بحرس القصر الملكى ..
فى الساعة الرابعة من مساء ذات اليوم ، رن جرس التليفون بالبيت وكان المتحدث يحمل خبر إصابة محمود البدوى فى حادث سيارة ونقل إلى مستشفى الدمرداش ، ونزل الخبر على زوجته كالصاعقة وصرخت وجاء الجيران يتساءلون ويطمئنون على إبنته التى كانت معه ، وأجريت الإتصالات بعمه بالإسكندرية والأعمام بالقاهرة ..
تزاحم الأهل بالمستشفى وأرادوا نقله إلى مستشفى خاص تتولى علاجه ، ولكن الطبيب رفض ذلك بشدة لخطورة حالته على النقل وصرح لهم بالبقاء معه كيفما شاؤا ..
لما رجع محمود إلى صوابه وفتح عينيه وجد نفسه ممددا على السرير لايقو على الحركة وحوله أقاربه الأقربين والأبعدين والدموع فى أعينهم ، وظهرت الفرحه على الوجوه بأن وهبه اللّه الحياة ، ثم أخذه النوم ، فجلسوا جميعا فى هدوء ينظرون إليه ووجهه يعبر عن آلامه ، وكثر المواسون والزائرون له ، وأخذت زوجته تلازمه ليلا ونهارًا حتى ظهرت عليه دلائل العافية واراد الخروج من المستشفى على مسئوليته وليكمل علاجه بالبيت ..
ومنح من العمل أجازه طويله حتى إسترد فيها عافيته وشفى وبدأ يزاول نشاطه فى المشى والكتابه ..
وتحرر عن الحادث الجنحة رقم 757 لسنه 1952 مصر الجديدة ، وباع السيارة بمبلغ 125 جنيها فى 1/6/1952 إلى ورشه جبور السيارات ، ولم يكرر محاولة إقتناء سيارة بعد ذلك أبدًا ..
يقول صديقه عاشور عليش فى صحيفة المساء 30/5/1963 " أذكر أنه فى عام 1950 إقتنى محمود البدوى سيارة صغيرة ، إشتراها لا ليركبها ويقودها داخل القاهرة وإنما إشتراها لهدف آخر بعيد ، هو أن يقوم برحلة بها حول العالم .. ولولا حادث مفاجئ أودى بالسيارة وأنقذ منه البدوى بأعجوبة لكان البدوى قد قام برحلة حول العالم بالسيارة ولكن إرادة اللّه شاءت أن يقوم بها بالطائرات والبواخر "
* * *
عاد محمود إلى الخروج للعمل ، وفى المساء يصنع لنفسه القهوة ( بن تقيل وسكر خفيف ) ويرتدى ملابسه كاملة ويجلس فى البلكونة وأمامه ترابيزة عليها لمبة مكتب ضوئها خافت ودورق مياة وكوب وأقلام رصاص وأستيكة ، ويكتب ، وتدخل عليه إبنته قبل الذهاب إلى النوم ، فيترك ما فى يده ويداعبها ، ويربت على خديها ويضمها إلى صدره ، وحينما تشعر بالنعاس ، تشرب من المياة الموضوعة أمامه وتنصرف إلى حجرتها لتنام ، وذلك إذا كان الوقت صيفا ، وأما فى الشتاء ، فيجلس فى حجرته بجوار الشباك يكتب بالقلم الرصاص وقد يحمل حقيبته وبها أوراقه واقلامه ويخرج إلى كازينو بميدان تريومف يكتب أو يقرأ إذا كان الجو لطيفا ..
ويقول تبارك بمجلة الفن الصادرة فى يوم الإثنين 4 يوليه 1955 تحت عنوان كيف يكتبون فى الصيف .. " وفى أقصى مصر الجديدة يعيش الأديب الأستاذ محمود البدوى ..
ومحمود البدوى لا يكتب فى الصيف إلا إذا توافرت شروط خاصة منها .. أن يكون مرتديا ملابسه كاملة ولابد أن يجلس كذلك فى مكان يستطيع منه مشاهدة السماء .. ثم يبدأ فى الكتابه ..
وفى الصيف لا يجد الأستاذ البدوى مكانا أصح للكتابة فى منزله .. من " البلكون " فيجلس على مقعد مريح وأمامه منضدة عليها أوراقه وبعض الأقلام الرصاص التى تعود دائما أن يكتب بها .. وعلى المنضده " لمبه مكتب " ينبعث منها ضوء هادئ .. ويظل الأستاذ البدوى غارقا فى الكتابة ولا يفيق إلا عندما تأتىابنته " ليلى " لتستعير منه قلم رصاص أو أستيكه .. أو لتشرب من ماء الدورق الذى أمام والدها .. فإن المياة التى أمامه .. تختلف فى نظر ابنته عن بقية أنواع المياة الأخرى ..
وعندما يضيق الأستاذ البدوى ذرعا بابنته .. يحمل أوراقه وأقلامه الرصاص .. ويجلس فى أقرب كازينو من منزله .. وبعد ساعات يعود إلى منزله .. ويجلس فى مكانه المعتاد ليواصل كتابته من جديد بعد أن ينام جميع أفراد أسرته ، وبقدر مدة نومه بعد الظهر .. تطول أو تقصر مدة كتابته .."
* * *
الابنة الثانية
حملت زوجة محمود للمرة الثانية وكان والدها نقل للعمل فى قنا وترك لابنته خادمته زايده لترعى شئونها خلال فترة الحمل ( رغم وجود أم محجوب ومبروكة ونعناعة التى تعتنى بابنتها ليلى ) ..
وفى حوالى الساعة الحادية عشر من مساء يوم 31/12/1953 شعرت بقرب وضع حملها ، فاتصل محمود تليفونيا بعيادة الطبيب وبالمستشفى فلم يجده فإتصل ببيته وأخبرته الخادمة بأنه يقضى ليلته فى سهره بالهرم ، فرجاها أن تتصل به وتخبره بالحالة وجاء الطبيب بسيارته سريعا ونقلها إلى مستشفى الدكتور مظهر عاشور وهيأ لها جناحًا خاصا ، وتمددت على السرير ، وظل محمود بجانبها ، ولما إقترب ميعاد الوضع حملوها على عربة صغيرة إلى جحرة الولادة ، ومرت دقائق الانتظار قاسيه وشديدة الوقع على نفسه ( لم يكن معه أحد فى ذلك الوقت ) ..
جاءت فاطمة الابنة الثانية مع خيوط فجر الأول من يناير 1954 ( وضاعت حفلة رأس السنة على الطبيب ) واتصلت الخادم زايدة بالتليفون من البيت باللواء عمر فى مديرية قنا وقالت له " الست حكمت بتولد وراحت المستشفى دلوقتى هى وسيدى محمود " فاتصل سريعا بأخواته الموجودين فى القاهرة اللواء حفظى والمستشار محمود وحسين وأعلنهم بالخبر وجاء هؤلاء إلى المستشفى ووجدوا زايده أمامهم وعنفوها لعدم الإتصال بهم ، فقالت .." أنا معرفشى النمر بتاعتكم ، أعرف نمرة سيدى عمر بس " وجاء والدها ووالدتها ..
إرتبك الحال فى المستشفى فى اليوم الثالث وامتلأت بالزهور وبالزائرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، اللواء محمد نجيب .. جمال عبد الناصر .. صلاح سالم .. جمال سالم .. وأقاربهم من السيدات وازدحمت طرقة المستشفى بالرجال والسيدات .. جاؤا لزيارة كمال الدين حسين الذى كان فى الحجرة المجاورة وأجريت له عملية الزائدة ..
فتحت أم حكمت الاستراحة الملحقة بالجناح وأدخلتهم ، جلسوا فيها ورحبت وقدمت لهم الشيكولاتة ، وكان محمود سعيدا بأن من اللّه عليه بالإبنة الثانية ..
* * *
كان محمود يصطحب ابنته ليلى فى الصباح للذهاب بها إلى المدرسة قبل الذهاب إلى العمل وفى العوده يمر عليها ويصطحبها إلى البيت ، وحبه الشديد لإبنتيه وتعلقه بهما كان له تأثير شديد على حياته ، ومن شده حرصه عليهما وعلى مستقبلهما ، علمتاه الخوف ، الخوف من السجن والإعتقال والتعذيب ، ولذلك نأى بنفسه عن السياسة ، فهناك فرق كبير ، كما يقول ، بين الوطنيه والسياسة ، فحب الوطن فى لحمه ودمه وعظامه أما السياسة فقد كرهها وكره مشتقات الكلمه ولعنها كما لعنها وكرهها الإمام محمد عبده ..
وكانت إبنته الكبرى تجمع طوابع البريد وتنزعها من على الخطابات التى ترد إليه قبل وصولها إلى يده باستثناء القليل منها التى لم تقع تحت يدها حتى تجمعت وتكونت لديها على مدى السنين مجموعة كبيره جدًا جدًا من مختلف أنحاء العالم ..
كان لا يحب الاختلاط ويتوق إلى الوحدة وقد أثر ذلك على إبنتيه ، وفى ذلك يقول .. "مع أننى تثقفت وخالطت الأجانب وسافرت كثيرا إلى الخارج ودرست الآداب الأجنبيه وترجمت بعضها .. إلا أننى شديد الحفاظ على مصريتى وتقاليدها وصعيديتى أيضا التى لا أتجرد منها أبدًا .. لأننى أجد فى جوهرها الحقيقى الكثير من القيم النبيلة ، التى لا تقل بحال من الأحوال عن المثل الأوربية ..
لقد ولدت ابنتاى فى القاهرة ، ومع ذلك لم أرد لهما الإختلاط الزائد عن حده .. الذى أصبح يتسم به المجتمع .. ولذلك لم تنضما إلى ناد من النوادى الكبيرة .. وإنما كان إختلاطهما فى حدود محيط الأقارب والأصدقاء الخلص فقط .. مما يتمشى مع تربيتى الريفية "
* * *
كان محمود يجلس يكتب أو يقرأ فى كازينو النزهة بميدان تريومف ، ويشاهد العمارة الضخمة التى تقيمها المنتجة آسيا أمام الميدان وأعجب بموقعها الفريد والمتميز وإستأجر فيها شقة بالدور الرابع وتطل واجهتها على الميدان وعلى شارع عثمان بن عفان مقابل أجرة شهرية مقدارها ستة عشر جنيها فى 28 مايو 1956 ..
ويقع الكازينو على الناصية الأخرى المواجهة للبيت ، ومفتوح من جميع الجهات ، وقد يكون فى صحبته صديقيه عاشور عليش وسعد حامد يجلس كل منهم يقرأ أو يكتب ، وإبنته الكبرى لا يغمض لها جفن حتى تأخذها مربيتها إلى الكازينو لتحية والدها قبل النوم ، فيأخذها بين يديه ويداعبها ، وقد ينضم إلى صحبته الأصدقاء أمين يوسف غراب وهلال شتا ومحمد على غريب ، ثم تنفلت ابنته وتقوم بدوره بين الموائد ، وبعد اللف والدوران قليلا ، تلقى تحية المساء على والدها والموجودين معه وتعود مع مربيتها إلى البيت لتنام ..
* * *
تغيير الإسم
محمود البدوى لم يكن هذا اسمه ، واسمه المكتوب بشهادة الميلاد هو محمود أحمد حسن عمر المولود ناحية الإكراد مركز أبنوب مديرية أسيوط ..
قام بتغيير هذا الإسم إلى محمود البدوى ، ونشرت جريدة أبو الهول ( جريدة يومية سياسية جامعة ) يوم الثلاثاء 29 يناير 1957 بالعدد رقم 9223 إعلانا يقول :
" تعلن وزارة الصحة العمومية أن محمود بن أحمد حسن عمر المقيم بميدان النزهة رقم 7 تبع قسم مصر الجديدة يرغب فى تغيير إسمه إلى محمود البدوى المشهور به ..
فالمعترض يتقدم للوزارة خلال خمسة عشر يوما .
مدير قسم الإحصاء
***
واستخرج شهاده ميلاد فى 9/6/1957 بالإسم الذى تم تغييره ومسجل فيها " صدر قرار اللجنة بتاريخ 28/2/1957 بتغيير الإسم إلى محمود البدوى أحمد حسن عمر بدلاً من محمود أحمد حسن عمر بدون التعرض لإسم الوالد بالكتاب رقم 341 فى 4/3/1957" كما قام بتغيير إسمه فى جميع الأوراق والمستندات الرسمية ..
فى نهاية عام 1957 سافر إلى الهند والصين واليابان فى بعثه ثقافية تضم نخبه من أساتذه الجامعات ورجال التعليم فى مصر ، وقبل السفر توجه فى 17/10/1957 إلى شركة يونيون للتأمين ضد خطر الطيران والحوادث التى تنتج عنها الوفاة خلال رحلته من القاهرة إلى الصين واليابان والعودة منهما فى المدة من 20/10/57 وحتى 20/12/57 لصالح زوجته وإبنتيه بمبلغ (5000 جنيه) خمسة آلاف جنيه ..
***
حياة البدوى الوظيفية
استمر البدوى فى العمل بوزارة الماليه منذ التحاقه بها فى 12 / 3 / 1932 ولم يطلب نقله للعمل فى وظيفة اخرى لها صلة بالآداب وفنونه مثلما فعل زملاء آخرين له من الأدباء ، وكان راضيا قانعا بوظيفته إلى أن احيل إلى المعاش لبلوغه سن الستين .
وحياته الوظيفيه كما سطرها بخط يده
تاريخ الالتحاق بالعمل
12 / 3 / 1932
تاريخ التثبيت
1 / 9 / 1934
تاريخ العمل بحسابات الحكومة
9 / 2 / 1938
تاريخ الترقية إلى الدرجة السادسة
1 / 11 / 1949
تاريخ الترقية إلى الدرجة الخامسة
1 / 12 / 1954
تاريخ الترقية إلى الدرجة الرابعة
1 / 3 / 1958
تاريخ الترقية إلى الدرجة الثالثة
30 / 3 / 1961
تاريخ الترقية إلى الدرجة الثانية
29 / 11 / 1962
وشغل وظيفة مراقب عام بوزارة الخزانة
***
الأيام الأخيرة
أصيب البدوى بقصور فى الدورة الدموية للقلب ، ورغم ذلك ظل يكتب ، وكان يشعر بالانقباض والتشاؤم من توقف الساعة المعلقه فى صالة البيت ، ويطمئن بعد تحرك بندولها ، ويفكر فى الموت كأمر حتمى يقع لكل إنسان ..
وقال للأديب محمد جبريل فى الحوار الذى اجراه معه ونشر بمجلة السياسة الكويتية بعددها الصادر 16 / 2 /1986 « يشعر دائما بأنه سيموت فى الشارع مثلما مات إدجار ألان بو .. صحيح أن الموت واحد ، ولكن الفارق الوحيد بين شبح الأديب الأمريكى ، والشبح الذى أراه ، أن بو وجد كرسيا فى الشارع مات فوقه ، أما أنا ، فلم أشعر أنى سأجد حجرا أرقد عليه » ..
وكانت آخر رحلة قام بها فى 6 / 6 / 1984 إلى الأراضى المقدسة وحينما عاد من هذه الرحلة بدأ يكتب القصة الدينية ، فكتب قصة سماها « الطوق » وتحكى قصة سيدنا موسى منذ ولادته أيام فرعون وحتى ذهاب الرئيس السادات إلى القدس « لم تنشر » والقصة الثانيه باسم « المعراج » وكان لا يتخلف عن حضور لجان القصة بالمجلس الاعلى للثقافة وتقول صوفى عبد اللّه « .. أخر مرة كان يجلس أمامى فى الاجتماع منذ 3 أسابيع واثناء جلوسه تدفق الدم من أنفه فوضع منديله عليه ولم يتكلم وعدت به إلى منزله وانا فى غاية الاضطراب »
ويقول رستم كيلانى بذات الجريدة « إتصل بى تليفونيا يشكرنى على سؤالى عنه وهو مريض بالرغم من أن الاطباء كانوا ينصحونه بعدم الكلام » ..
وجاءت ابنة عمه هدى ، جاءت من الخارج لزيارته ، ووجدت الطبيب معه يطمئنه عن حالته فقال له إنى أرى
الموت أمام عينى ، وبعد بضعة أيام قليلة .. ! إنتهى ، إنتهى فى يوم الأربعاء الثانى عشر من شهر فبراير سنة 1986 بمنزله ونقل جثمانه إلى قريته ـ الاكراد بمحافظة أسيوط ـ حيث دفن بمقابر الأسرة بالجبل الغربى ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق