الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 21 قصص قصيرة من عالم المرأة ل محمود البدوى

القصص المنشورة
ـــــــــــــــ
ـ الملهمة
ـ الظرف المغلق
ـ قطار الساعة 8
ـ صورة فى الجدار
ـ الورقة المطوية
ـــــــــــــــ
الملهمـة

قصة محمود البدوى

كان إبراهيم عبد المجيد يكتب القصة القصيرة فى المجلات والصحف منذ سنوات .

وكان يصور حياة الفقراء والبؤساء ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، أبلغ تصوير .

كان يكتب بكثرة ويعمل ليل نهار ، ومع ذلك لم يجد لما يكتبه صدى ، ولا أثرا فى نفس أحد من القراء ، كانت كتاباته تذهب مع الريح . لم يتحدث عنه ناقد ، ولم تكتب عنه صحيفة ، ولم تصله رسالة من انسان تشجعه على مواصلة جهوده . . ! !

ومع هذا ، فإن إبراهيم لم ينقطع عن الكتابة والنشر ، ذلك أنه كان يجد سلوته الوحيدة وناصره ومشجعه على المضى فى طريقه .. من جارته الحسناء ! وكانت أرمل فى الثلاثين من عمرها ، غضة الأهاب ، ريانة العود ذات عينين سوداوين ناعستين وأنف دقيق وخد مورد وبشرة ناصعة البياض .

كان يراها من شرفته تقلب بيدها الرخصة المجلات المصورة التى كان يكتب فيها ، وكان يراها وهى تقلب المجلة ، وتبتسم تلك الابتسامة الفاتنة ويتصور أنها تقرأ قصته ، وتبتسم لفكاهاته ، ثم يراها مرة أخرى حزينة واجمة ، فيتصور أنها تأثرت من إحـدى قصصه المحزنة ! كان يرى كلامه مطبوعا على جبينها ، وكان يفسر كل حركة تصدر منها بأنها إيحاء من قصصه !

وكان يتصور أنها تتبع حركاته وسكناته ، فترقبه وهو خارج من المنـزل ، وتستقبله وهو عائد إلى بيته من وراء سجف النافذة . ولهذا كان يميد من الزهو ويشعر بارتياح شديد ونشاط لاحد له وكان يكتب .. ويكتب .. غير عابىء بما يحيط به من انكار وجحود ، كان يكفيه أن هذه السيدة الجميلة تقرأ له وتعجب به .

كان يكفيه هذا ، وكان يكتب لها وحدها ، وكان يشعر بها تغمر جوانب نفسه بنور قوى ، كانت تدفعه إلى العمل والجهاد وإن لم يتحدث إليها قط ، كان يكتفى منها بهذه الابتسامة المشرقة من بعيد .

ومضت الأيام وهو يواصل عمله بنشاط ، وصورة جارته الحسناء لاتبرح مخيلته أبدا .

وفى ليلة من الليالى كان جالسا إلى مكتبه يكتب كعادته ، فسمع جرس الباب الخارجى يدق ، فنهض وتوجه إلى الباب ، فألفى خادم جارته الحسناء فسر لهذا جدا ، واستقبل الخادم مرحبا !

وقال له الخادم :
ـ تسمح بقلم حبر ...

وطار من الفرح ، فقد حسب أن السيدة تطلب القلم لتكتب له رسالة تشجيع !

وأسرع إلى مكتبه ، وعاد بالقلم ، وقبل أن يعطيه للخادم ، سأله فى لهفة :
ـ لمن .. لسيدتك ؟
ـ لا .. لسيدى الصغير .. ستى لاتعرف القراءة ! !

وسقط القلم من يد القصصى النابغ ، من هول الصدمة ولم يكتب بعدها حرفا .. !
=================================
نشرت القصة بالمجموعة القصصية " العربة الأخيرة " سنة 1948 لمحمود البدوى
=================================










الظرف المغلق

قصة محمود البدوى

ركبت " المترو " من المحطة النهائية ، عندما كانت هناك فى الكورنيش ، وكانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء والزحام على أشده .. والجو رغم دخول الليل ، بادى الحرارة ..

وكان يجلس أمامى على المقعد المقابل مراهقان تبادلا السجائر بمجرد جلوسهما ، وأخذا ينفثان الدخان فى وجهى باستهتار وميوعة .. وبجوارى من ناحية الشباك ، رجل سمين الوجه ، قصير العنق ، أسمر .. شغل نفسه بالحاجات التى يحملها ، فقد كنا فى بداية الشهر .. وكان معظم الواقفين يحملون فى أيديهم أشياء .. الرجال .. والنساء .. وكانت الممرات مكتظة عن آخرها ، والأنفاس مخنوقة فى الحر الشديد ، والزحام بلغ الذروة ..

والجو كله ، لوقفة المترو التى طالت ، يوحى بالكآبة والضجر ..
وأخيرا تحرك المترو .. وفى محطات .. الاسعاف .. وبنك الدم .. والمحطة .. وكوبرى الليمون .. ركب ركاب جدد .. رجال ونساء بكثرة متزايدة ، وكانت تقف بجوارى فى الطرقة سيدة حشرت نفسها بين الواقفين حشرا .. ونظرت إلى وجهها ، وأشفقت عليها .. كانت على حالة شديدة من الاعياء والضيق والحيرة .. ولكن هذا كله لم يخف نضارة وجهها .. ودفعها راكب فسقط ما تحمله على أرض العربة .. فالتقطه لها ورفعته إليها .. وفى عزمى أن أعيده إلى يدها .. ولكن نظرة منها فى وقفتها التعيسة جعلتنى أبقيه فى يدى ، رغم أنى اعتدت ألا أتناول أشياء من يد السيدات قط فى مثل هذه الحالات ..

ووجدتها بعد محطة أخرى ، وهى لاتكاد تتماسك فى وقفتها تلقى فى راحتى حقيبة اليد دون تبادل أية كلمة .. وقد أضطرت إلى هذا .. عندما انطلق المترو وأصبح يهتز .. وأصبح من العسير عليها الوقوف دون أن تقبض بيدها الخالية على المقابض التى فى أعلى الكرسى ..

وعلى التو أخذت أسائل نفسى لماذا وضعت فىّ هذه الثقة دون سائر الركاب ..؟ وأتانى الجواب سريعا ، لأنى أقرب راكب إليها والصقهم بها .. وفى مظهرى الوقار الذى لاتنفر منه النساء .. والمراهق الذى أمامى مباشرة ، والجالس فى نفس الطرقة ، يثرثر بصوت عال ، ويأتى بحركات منفرة .. ولهذا استبعدته مع أنه أقرب الناس إليها من بعدى ..

وبالنظام والدقة والحرص .. وبكل ما اعتدته فى حياتى ، أخذت أملأ عينى من ملامـح وجهها وأقيس طولها وعرضها وأعرف لون فستانها ، حتى لاتضيع منى فى زحمة الركاب .. وأعطى الحقيبة واللفة لغيرها ..

ولما تحققت تماما من قوامها ، وهندامها ، ولون عينيها ، وتسريحة شـعرها ، تركتهـا تستريح فى وقفتها فى المكان الملائم لها .. بعد أن كان الركاب يدفعونها بقسوة ومعها الكثيرات من النساء .. من يمين وشمال .. ثم العكس ويحدث ذلك كل ثلاث دقائق ، بترتيب ونظام كأنه مرسوم فى جدول ..

وقد يدور سؤال جوهرى فى هذه الحالة .. لماذا لم أقف لها وأتخلى عن مكانى ..؟ والموقف الإنسانى والرجولى يتطلبان ذلك ..

والجواب يأتى سريعا .. ولماذا أقف لها وحدها .. وهناك خمس نسوة ، واقفات فى الطرقة ، مجاورات لى ، مضغوطات فى ذلك المكان الضيق ، ومنهن من لطعت نفسها بجانب النافذة ، ومن كانت أكبر من صاحبتى سنا .. والوضع الصحيح يقتضى اراحة المسنة أولا ..

ولهذا كان التفضيل سيسبب المشاكل والحرج .. فقد آثرت البقاء كما أنا .. كنت فى أشد حالات التعب ، والضيق النفسى من رائحة السجائر ، ومن وقدة الحر فى الليل الصيفى الرهيب .. ومن الزحام الخانق ..

وبعد أن غادر " المترو " محطة الدمرداش .. شعرنا بانقطاع النور عن المنطقة كلها . خيم ظلام دامس .. ولكن المترو ظل يسير بطيئا .. فحمدنا الله على ذلك ..

وبحاستى السادسة وبسرعة ، بحثت عنها بعينى .. فوجدتها واقفة هناك ونصفها العلوى تحت باصرتى ..

وفجـأة ودون أية مقدمات شممت رائحة الدخان ، وسمعت الصراخ .. جاء الاثنان معا .. وأدركت بعد ثلاثين ثانية من التنبه التام ، أن العربة التى نركبها تحترق .. وكانت الثانية من القطار ..

وفى لحظـات انقطـع التيار عن المترو .. وخيم ظلام يضل فيه البصر .. فلم يكن هناك نجم فى السماء ، ولانور فى الأرض ..

وخـرج الدخان واللهب من بطن العربة .. والصراخ من أفواه الركاب ..
وفى دقيقة واحدة فرغت العربات كلها من القطار ..

وخرج الركاب إلى الحصى والرمال والحلفاء والهيش على جانبى الطريق ..

وعنـدى بلادة فطرية لمثـل هذه الحوادث المفاجئة .. فأنا لا أروع منها .. وانما ألاقيها بأعصاب باردة .. ولهذا كنت آخر من نهض وغادر العربة .. ولم يكن ذلك عن استهتار ، ولااستهانة بالأمر .. ولكن كنت قد جربت بأن مثل هذه النيران المشتعلة ، تخمـد بمجرد فصل التيار ، واهالة التراب .. ولكن العربة فى هذه الليلة اشتعلت كلها ، ولم ينفع التراب ولا انقطاع التيار ..

وفى لحظات تنبه حسى وأنا على الأرض ، بين الحصى والرمال والهيش ، بأنى أحمل لفة وحقيبة لسيدة ، كانت منذ دقائق معى فى نفس العربة ..

وحدقت فى الوجوه التى كانت تتحرك على الشريط إلى محطة الجامعة .. لأنها كانت أقرب محطة .. وكان شريط المترو .. هو الطريق الوحيد الصالح للسير ..

وأخذت أتفرس فى كل وجه .. ثم بدأت أهرول ، رغم وعورة الطريق لأبلغ أول راكب .. ثم أرجع لأرد البصر وأحدق فى الظلام ..

وكانت كل هذه المحاولات عبثا .. وقد تصورنى بعض الركاب فقدت صغيرة لى .. ونظروا إلىَّ باشفاق .. لأنى كنت أحدق بجنون فى وجه ظلمة كئيبة لاتستريح إليها عين ولاقلب ..

وفقدت هدوئى بعد أن تسرب إلىَّ اليأس فى محطة الجامعة .. وكان فيها نفر قليل .. أما الباقون فقد تفرقوا فى كل الدروب ، ومنهم من نزل فى الظلام ليأخذ الأتوبيس القادم من نفق العباسية ..

وتبادر إلى ذهنى أن أقترب من كل سيدة كانت فى المترو .. وأسألها أن كانت تعرف السيدة التى تركت حقيبة يدها معى .. ثم استحمقت هـذا السؤال .. فماذا يكون موقفى لو قالت لى واحدة منهن أنها تعرفها ..؟ الوضع فى هذه الحالة ، يقتضى أن أسلمها الحقيبة دون مناقشة .. وهل فى هذا الدقة الواجبة والحفاظ على الأمانة ..؟

وشعرت وأنا أبارح المحطة بغمة قبضت قلبى وعصرته ، لأنى باستسلامى المطلق ، وقبولى الحقيبة واللفة من يد هذه السيدة المجهولة ، قد سببت لها الازعاج والقلق ، وقد يجعلها الحادث الشؤم الذى وقع تفكر فى أنى هربت بالحقيبة وما معها .. فيا لسوء الطالع ..

***

وفى محطة السيارات أمام جامعة عين شمس .. مر أتوبيس 500 ومر آخر ، ومع أن الزمن بين الواحد والآخر قد يزيد على الأربعين دقيقة ، ولكنى لم أركب على أمل أن تأتى مثلى إلى المحطة ..
وبلغت البيت والظلام لايزال يخيم ..

ولما دخلت من الباب ، كانت والدتى جالسة فى الصالة وقد أضاءت شمعة ..

ولكن لم أجلـس معهـا وأنا داخـل كعـادتى ، بل اتجهت إلى غرفتى توا ..
ولكنها استوقفتنى ..
ـ لماذا تأخرت يا حسن .. يا ابنى ..؟
ـ الظلام .. والمواصلات .. يا أمى ..

ودخلت غرفتى دون أن أسمع باقى أسئلتها .. ووضعت الحقيبة واللفة فى دولابى بسرعة وأغلقت الباب .. وعدت إلى والدتى ..
فسألتنى :
ـ ما الذى كان معك ..؟
ـ شغل من المكتب ..
ـ رأيت حاجة سوداء ..!
ـ دوسيه .. يا أمى .. دوسيه .. دوسيه ..
ـ ومالك مكشر .. وشايل الدنيا على كتفك ..

وشعرت بالضيق الشديد والأسف لأنى لأول مرة أخاطب والدتى بغلظة ..
وقلت بهدوء :
ـ سآخذ دشا .. وزكية تحضر لى العشاء ..
ـ المية مقطوعة ! وزكية روحت .. أقوم أنا أحضر لك لقمة ..
وأضافت وهى تنهض :
ـ فيه ميه فى البانيو .. أغسل وجهك وتوضأ ..
وزاد هذا من غمى ..
***

وأكلت ، وجلست أتحدث مع والدتى ..
وجاء النور مع الطعام .. فشعرت ببعض الراحة ..

ولما نهضت لأنام فى غرفتى .. كان أول شىء فعلته بعد أن أغلقت الباب هو أن أفتح الحقيبة لعلى أهتدى إلى اسمها وعنوانها .. ثم أرى ما فى اللفة ..

وبدأت باللفة وكان فيها بلوزة صيفية على مقاسها بلون سنجابى جميل ، وقد تصورتها على صدرها .. وشعرت بهزة ..

وأسرعت إلى الحقيبة ففتحتها وأخذت أقلب فيها .. بدقة .. كان فيها أدوات الزينة التى تحتاجها السيدات .. أدوات كاملة أنيقة .. ثم كيس جلدى أنيق أيضا وبداخله سبعة جنيهات وستة عشر قرشا .. ثم رواية " الحلم " لزولا فى طبعة صغيرة جميلة وبداخل الكتاب ظرف أزرق مغلق .. ولم يكتب عليه اسم ولاعنوان .. ولا شىء آخر ..

ووقفت عند هذا الظرف .. فان بداخله رسالة .. رسالة على ورق خفيف ناعم .. رسالة وليس نقودا .. رسالة فلمن كتبتها ..؟ ولمـاذا أبقت الظرف من غير عنوان ولماذا أغلقته ..؟ هل كانت فى عجلة ..؟ هل ترددت بعد كتابة الرسالة ..؟ ولهذا لم تكتب العنوان على الظرف .. أم أن الفرصة لم تساعدها بعد كتابة الرسالة .. فوضعتها سريعا فى الظرف وتركت العنوان لتكتبه فى مكان آمن بعيدا عن كل العيون .. كطبيعة المرأة ..
فكرت فى هذا كله ..

وساءنى أنى لم أعثر فى داخل الحقيبة على بطاقة تدل على عنوانها ، لم أعثر اطلاقا على شىء يدل عليه ..

وشعرت بحسرة ، وطويت الحقيبة واللفة ، ووضعتهما فى مكانهمــا من الدولاب ..

وأغلقت النـور ونمت وأنا أفكر فى هذه السيدة وأتمثلها بكل شكلها ، بكل جمالها وشبابها ورشاقة قوامهـا .. وكانت ثقتهـا فى مطلقة .. فيا للحظ التعس ..

***

فى اليوم التالى حرصت على أن أركب المترو فى نفس الميعاد علها تهتدى بغريزتها إلى ذلك .. فنلتقى فى نفس المحطة .. ولكن مر أسبوع ، وشهر كامل ، دون نتيجة ..

وفكرت فى نشر سطرين فى الصحف .. ولكن النشر قد يسىء إليها ، وربمـا كانت متزوجة ، وكتمت خبر فقد الحقيبة كلية عن زوجها .. بسبب الظرف الذى تحويه الحقيبة ، وما فيه من أسرار ..

وقد لاتكون هناك أسرار .. ولكن ما جدوى النشر واحتمال وقوعها على الصحيفة بنسبة واحد فى المليون ..

وسواء أكان فى داخل الظرف سرها أم لم يكن .. ولكن فيه ما جعلنى أحرص على أن أقدم لها الحقيبة بنفسى ..

ولا أدرى سبب اليقين الراسخ الذى جعلنى أعتقد بأننى سألتقى بها مهما طال الزمن ..
ولهذا اليقين كنت أتحرك ..

وشعرت فى الشهر التالى بلذة خفية ، وسيطرت هذه السيدة على حواسى كلها .. كأننى لم ألتق بأنثى قبلها فى حياتى ..

فكنت أتصورها فى يقظتى وأحلامى .. وأحدق فى كل من ترتدى بلوزة قرنفلية .. كأنه لايوجد فى النساء سواها يرتدى هذه .. أو كأنها ستظل ترتديها فى الصيف والشتاء ، والصباح والمساء .. وكانت نظرة ناعسه فى عينيها .. نظرة مسترخية وهى تعطينى الحقيبة جعلتنى أتذكرها بوضوح .. وأميزها عن نظرة غيرها من النساء .. ولذلك فإن الاهتداء إليها كان فى نظرى سهلا .. حتى ولو وقفت وسط جمع من النساء وكن فى مثل سنها وشكلها ..

وكنت أستخرجها أول ما يقع بصرى على عينيها .. يالله.. من يغفل عن هاتين العينين ..

***

فى صباح الجمعة كنت أدخل المحلات التجارية بمصر الجديدة .. عمر أفندى .. اركو .. لعلى أهتدى إليها ..

ثم قلت لنفسى ومن يدرينى أنها من سكان مصر الجديدة ، ربما كانت من سكان منشية البكرى .. أو كانت ضيفة على القاهرة .. ونازلة عند قريب لها من سكان هذا الخط وسافرت ..
كل هذه الخواطر دارت برأسى ..
ثم حدث ما جعلنى أصل إلى حالة يأس مطلق ..

ورأيت أن أتصدق بالمبلـغ الذى وجـدته فى الحقيبة على إنسان
أعرفه .. أما البلوزة والحقيبة نفسها فستبقيان عندى كذكرى لحادث جميل وقع فى حياتى ..

واخترت الشيخ " شعبان " لأعطيه المبلغ ، ولكن بطريقة لاتؤذى شعوره .. وكان يصلى العصر دائما فى مسجد الحسين ، ويبقى هناك فى صحن المسجد إلى صلاة المغرب ..
وفى هذه الفترة من السهل الالتقاء به ..

وذهبت إلى المسجد فى صلاة العصر فلم أجده .. فجلست بجانب عمود فى الصحن أترقب الباب لعله يدخل كعادته ..

وكان هواء العصارى لينا فى داخل المسجد .. فغفوت نصف اغفاءة .. وحلمت بالسيدة تزور الضريح مع النساء بعد الصلاة ..

ففتحت عينى وأنا أقول هذا ليس بحلم .. انها فى الداخل قطعا .. وأسرعت إلى الضريح .. فوجدته ممتلئا بالنساء وحدهن .. وخجلت من الدخول .. وتراجعت إلى مكانى من الصحن ..

ولما يئست من وصول الشيخ " شعبان " اتخذت سبيلى إلى الخارج وأنا أفكر فى زيارته فى يوم آخر ..

وكان الجو فى داخل المسجد غيره فى الخارج .. كانت حرارة يوليو لافحة فى الخارج .. فملت إلى موقف الأتوبيس لأروح ..

وانتظرت 190 لينقلنى إلى الاسعاف ، ومن هناك آخذ المترو ..
وجاءت سيارة وكانت مزدحمة .. وخلفها أخرى فركبت الثانية .. وكان فيها مقـاعد .. واندفعت كغيرى لأجلس ، وجلست بجوار سيدة ..

وكانت هى وتبادلنا النظرات .. وأحسست بقلبى كالمطرقة .. ولكنى كدت أرقص من الفرح وأقبل كل ركاب الأتوبيس ..
وقلت بصوت الحالم :
ـ لقد بحثت عنك فى كل مكان .. لمدة عام ..
ـ وأنا ..
ـ وأخيرا التقينا ..
ـ وأخيرا ..
ـ الأرض كروية .. حقا ..!
ـ هل كنت تشك فى هذا ..؟
ـ فى الواقع كنت أشك ..!
وضحكت بعزوبة

وسألتها وأنا أحدق .. لم تكن بلوزنها قرنفلية فى هذه المرة .. بل كانت بيضاء بفتحة فى العنق أرتنى جيدها كله ..

سألتها بفرحة :
ـ هل كنت فى داخل المسجد ..؟
ـ أجل .. ذهبت لأقرأ فيك الفاتحة ..!

وعـادت العينان الناعستان تضحكان .. فأغمضت عينى عن هذه الفتنة ..
واستطردت توضح سبب الزيارة لضريح الحسين ..
ـ ابنى نجح فى الابتدائية .. فجئت لأوفى بالنذر ..
ـ مبروك ..

وكلمة ابنى أصابتنى بلدغ العقرب .. فتجهمت .. يا للحماقة .. هل كنت أتصور أنها غير متزوجة وخالية لى وحدى .. يا للحماقة .. وما علاقتها بى .. وخجلت من جهامتى ..
وسألتها :
ـ هل عرفتنى وأنا أجلس بجوارك ..؟
ـ أجل .. وبسرعة شكلك غير مكرر ..
ـ هل ذاهبة الآن إلى البيت ..؟
ـ نعم .. وسأنزل فى الاسعاف لآخذ المترو ..
ـ سـأرافقك لأعرف العنوان .. وأجىء لك بالحقيبة والبلوزة الليلة ..
ـ العنوان كان بالحقيبة ..
ـ كيف ..؟ لقد بحثت جيدا فلم أجد شيئا ..
ـ انه فى الظرف .. فى داخل الظرف اسمى وعنوانى ..
ـ ولكنى لم أفتح الظرف .. وكيف أفتحه وهو لايخصنى ..؟
ـ عرفت هذا .. وتيقنت منه ..
ـ والآن خذى نقودك .. وقد حملتها معى لأتصدق بها ..

وحكيت لها قصة الشيخ " شعبان " فضحكت بحرارة وهى تتناول نقودها ..
وقلت :
ـ سأرافقك لأعرف البيت وأجىء بالباقى الليلة ..
ـ لاداعى للتعب .. نستطيع أن نلتقى غدا صباحا فى نهاية المترو .. أو المكان الذى تختاره ..
ـ هل عملك قريب من التحرير ..؟
ـ فى ميدان التحرير نفسه ..!
ـ فى المجمع إذن ..!
ـ فلم ترد .. وابتسمت برقة ..

فقلت لأبعد عنها الحرج ..
ـ إذن سنلتقى فى الساعة الثامنة إلا ربعا فى نهاية المترو .. وإذا حصلت أية ظروف طارئة ، فها هو اسمى وعنوانى لكى لانتوه عن بعض مرة أخرى ..

وتناولت الورقة .. وقالت :
ـ حاضر .. يا أستاذ " حسن " وسأكون هناك قبل ذلك ..
ـ وسننزل من الأتوبيس .. ونركب مترو عبد العزيز فهمى معا ..
ـ سنركب معا .. ولكن إذا جلست بجانبى لاتحدثنى ..!!
ـ حاضر .. يا ستى .. حاضر ..
يا للدنيا العجيبة ..
وقلت وأنا استرجع فى رأسى ما جرى فى تلك الليلة :
ـ ان ما آلمنى وترك جذوره فى نفسى ، هو أن تكونى وحدك فى تلك الليلة ، ويجعلنى سوء الحظ لاأهتدى إليك .. فأتركك للظلام ووحشة الطريق ..
ـ لقد روعت .. وبكيت كثيرا ..
وتفطر قلبى لما جرى لها .. وسألتها :
ـ هل اتجهت فى تلك الليلة إلى محطة الجامعة ..؟
ـ لا .. رجعت إلى الدمرداش .. ووقفت مع الناس فى محطة السكة الحديد ..
ـ هذا أحسن ..

وكنا نتحدث كأننا متعارفان من سنين طويلة ، وعجبت لذلك .. والواقع أن العام الذى مر علينا ، منذ أول لقاء ، بكل صوره وأحلامه ، نسج حولنا نسيجا قويا ، وجعل الرباط طبيعيا وفيه الفه صادقة ولهذا لم يطل عجبى ..

وركبنـا مترو عبد العزيز فهمى .. وجلسنا متجاورين .. ولكن لم
نتحدث .. كما شاءت لها طبيعتها ..

***

وجـاءت إلى نهاية المترو .. فى اليوم التـالى .. وكانت فى أجمل ثيابها .. وأجمل من كل سيدة رأيتها فى حياتى .. وكان الصباح أجمل من كل صباح مشرق ..

وأعطيتها الحقيبة والبـلوزة .. وعيناهـا تشرقان بالدمع .. وسلمت .. ومشت ..

ورأيتها تتخذ طريق النيل .. وبعد خطوات قليلة أخرجت الظرف ومزقته .. وألقت بقصاصاته فى دوامات الماء ..






====================================
نشرت القصة بمجلة الثقافة ـ العدد 65 فى فبراير 1979 ـ وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى ..... و "قصص من القاهرة " ـ مكتبة مصر
====================================



قطار الســـاعة 8

قصة محمود البدوى

وصلت هدى إلى رصيف المحطة قبل أن يتحرك القطار بأربع دقائق .. وكانت تهرول .. وزوجها يسرع الخطا أمامها ويبحث لها من نوافذ العربات عن مكان فى الدرجة الثانية ..

ودخلا فى جوف عربة من العربات الخلفية .. وهما لايستطيعان معرفة طريقهما .. فقد كانت الدواوين كلها مغلقة ومظلمة لم تكن هناك إضاءة اطلاقا فى الممرات .. ووجد الديوان المخصص للسيدات مشغولا .. وممتلئا إلى السقف بالحقائب والقفف .. وما يجاوزه من الدواوين قد امتلأ بالركاب ..

وأخيرا عثر على سيدة جالسة فى ركن من أحد الدواوين .. وكان هناك رجل يجلس أمامها فى الركن المقابل ..

فقال عصام بسرعة لزوجته ..
ـ اجلسى هنا مع الست ..

فجلست هدى فى الحال .. فقد تقطعت أنفاسها وهى تجرى وحيرها الظلام الذى وجدته فى القطار ..

ومن خلال الضوء المنبعث من خارج القطار .. هيأت لنفسها مكانا بجانب النافذة الغربية مباشرة .. وجعلت حقيبتها على الرف المقابل أمام بصرها مباشرة لأن فيها عدا ما تتحلى به من الجواهر كل ما تملكه من الحلى كعروس ..

وقالت لزوجها :
ـ أنزل أنت .. الجرس ضرب .. من بدرى ..

فسلم عليها وهو يقول ..
ـ عندما تصلى .. ابعثى لى برقية .. وطمنينى على الحالة .. إن شاء الله ستجدينها بخير ..
ـ إن شاء الله انزل .. القطر تحرك ..

ووجدت الدموع تتحير فى عينيها بعد أن تركها زوجها وحمدت الله أن الظلام أخفى عبراتها عن الجالسين معها ..

وكانت هذه الحالة قد لازمتها منذ وصلتها البرقية فى الغروب تنبئها بأن والدتها مريضة وفى حالة خطرة .. فمن هذه الساعة وهى لاتكاد تمسك عبراتها .. وبعد أن نزل زوجها على الرصيف .. وتحرك القطار وخرج من نطاق المحطة .. ظلت تبكى وتطلق العنان لكل عواطفها المحبوسة ولم تكن تدرى .. أتبكى على فراق زوجها .. ولأنها اضطرت لأن تسافر وحدها .. لأول مرة منذ تزوجها .. أم لأنها كانت تتوقع الفاجعة هناك فى البلد .. وتجد الصراخ قد انطلق من جنبات المنـزل ..

وقد منعتها العبرات من أن تنظر إلى من يجلس معها فى الديوان .. وأخيرا مسحت عينيها .. ووجدت نفسها قد استراحت بعد البكاء .. وأحست بالهدوء وبالاستعداد لتلقى النبأ الذى كان منذ لحظات يفزعها ونظرت إلى السيدة التى بجوارها .. فوجدتها تنظر إليها فى حنان وخجلت من أن تكون قد بصرت بها وهى تبكى وأخذت السيدتان تتبادلان الحديث .. فى الوقت الذى ظهر فيه النور فى سقف الديوان .. وظهرت الكراسى الجلدية القديمة القذرة .. والغبار على زجاج النوافذ .. وفى أرض العربة .. وكانت المصابيح الثلاث الصغيرة ترسل نورا خافتا لايستطيع المرء معه أن يقرأ رقم تذكرة السفر ..

ولكن هدى استطاعت فى هذه اللحظة أن تتبين وجه جارتها .. وكانت سيدة فى الأربعين من عمرها .. سمراء .. وترتدى معطفا أسود .. كما استطاعت أن تحدد ملامح الرجل الجالس أمامها من الناحية الأخرى فى الديوان نفسه وكان طويل الوجه ذا شارب قصير وعينين خضراوين .. ويبدو من جلسته أنه متوسط الطول ولم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره .. وكان يضع على رجليه بطانية طواها عند صدره ..

وكانت السيجارة لاتفارق فمه .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه فى هذا المكان الضيق وتستقران أخيرا عليها .. وخيل إلى هدى أنهما تنفذان من خلال ثوبها ولذلك ضمت معطفها على عنقها وغطت الجواهر التى فى صدرها وضمت ساقيها وجلست منكمشة ..

وبعد أن ترك القطار مدينة الجيزة .. عاد الظلام مرة أخرى إلى العربة وانطفأت المصابيح التى كانت مضيئة فى السقف .. وخيم ظلام دامس .. وتبادلت السيدتان الابتسام .. وكان الرجل صامتا .. ولا يحول وجهه فى الظلام عنهما ..

وليس من طبيعة المرأة الصمت ولكن وجود الرجل معهما فى مكان واحد وفى هذا الحيز الضيق جعل حديثهما قليلا ومقيدا .. وليس فيه اللذة التى تجدها الأنثى وهى تحادث أختها منطلقة من كل القيود ..

وكان باب الديوان الزجاجى مغلقا على الدوام .. لأن البرد كان شديدا فى الخارج .. والتراب كان ينفذ من خلال الفتحات ويخز الوجوه كالإبر ..

وكانت هدى تنظر دائما إلى ممر العربة من خلال النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة للباب ..

فتح الكمسارى الباب وفى يده مصباح بالبطارية .. ونظر فى التذاكر ثم خرقها .. وأغلق وراءه الباب .. وذهب .. ورأت هدى وراءه رجلا آخر ثم عسكريا ببدلة صفراء .. وبيده بندقية ..

وبعد أن مر هؤلاء جميعا .. إلى العربة الملاصقة .. ظهر رجل فى الطرقة يلبس جلبابا لم تميز خطوطه ويضع على رأسه لبدة ونظر من خلال الزجاج إلى جوف الديوان ثم تابع طريقه ..

وكانت السيدة الجالسة بجوارها قد أغلقت عينيها ونامت .. وبدا لهدى أن السيدة صائمة مثلها فلما امتلأت معدتها بالطعام أحست بالحاجة إلى النوم .. كمعظم الصائمين .. وكانت هدى تود أن تنام مثلها .. ولكنها كانت قلقة والخواطر السوداء تعصف برأسها .. وأسفت لأنها طاوعت زوجها وحملت نفسها كل حليها .. وجواهرها وهى مسافرة وحدها ..

وكانت نظرتها دائما تحط على الرجل .. الجالس فى مكانه دون حركة والذى كان لايحول عينيه عنها إلا قليلا .. وكانت حركة القطار الرتيبة ودوى العجلات تحتها .. والظلام المخيم .. تساعدها على الاسترخاء .. وترك كل الخواطر التى فى رأسها .. ولكنها كانت تشد هذه الخواطر إلى بؤرة شعورها وتدور بها كالنحلة ..

وكان عدم تعودها على السفر وحدها .. جعلها أكثر قلقا .. ولم تكن تدرى .. لماذا نظرها دواما يتركز على الممر ..

ورأت الرجل اللابس الجلباب واللبدة يمر .. مرة أخرى بعد أن نظر من خلال الزجاج إلى الداخل وتبعه بعد قليل العسكرى ببندقيته ثم الكمسارى دون أن يدخل عليهم هذه المرة .. ثم شخص أو شخصان .. كانا يمرقان فى الظلام كالجرذان المذعورة قبل أن تتوضح هدى وجهيهما ..

وصحت السيدة التى بجوارها .. والقطار يهدىء ويدخل المحطة .. وقالت ..
ـ الواسطى ..؟
ـ أظن ..
ـ الظلام .. يمنعنا من الرؤية ..
ـ لماذا يتركون العربات هكذا .. فى مثل هذه الكآبة ..؟
ـ أنا لا أحب أن أسافر فى الليل .. فى قطارات الصعيد .. ولكننى اضطررت هذه المرة بالرغم عنى إلى السفر ليلا ..
ـ وأنا مثلك يا سيدتى .. من السيدة التى تسافر فى الليل وحدها ..؟ إلا أن تكون مضطرة ..

وارتجفت هدى .. ونظرت إلى الرجل وكان صامتا .. لايحب أن يخوض معهما فى الحديث .. وزادها هذا توجسا منه ..
وعاد الصمت يخيم مرة أخرى ..

وانطلق القطار بأقصى سرعته يطوى المدن والقرى طيا ويشق قلب الليل ثم أخذ يخفف من سرعته وهنا أخذت السيدة الجالسة بجوار هدى تستعد للنزول فسألتها هدى وقد شعرت بالخطر يقترب منها ..
ـ حضرتك .. نازله فى بنى سويف ..؟
ـ نعم ..
ـ مع السلامة ..
ـ الله يسلمك .. وأنت ..
ـ رايحه ملوى ..
ـ كلها ساعتين ..
ـ أجل ..

واغتصبت هدى ابتسامة شاحبة .. أخفت بها انفعالها وارتجاف قلبها وبعد أن نزلت السيدة .. وتحرك القطار من المحطة .. كانت هدى تود أن تبحث عن مكان فى ديوان السيدات ولكنها وجدت نفسها لاتستطيع أن تتحرك وظلت فى مكانها .. تنظر إلى الرجل الجالس معها فى الظلام والرجل ينظر إليها فى صمت ..

ورأت أخيرا .. ألا تظهر أمامه بمظهر الضعيفة أو الخائفة منه لأن ذلك سيشجعه على المغامرة والطمع فيها .. ولكن غريزتها كانت تجعلها تخاف .. بعد أن أصبحت معه وحيدة فى مكان صغير ضيق والباب مغلق عليهما .. والنوافذ الخشبية مسدلة .. والإضاءة لا وجود لها فى الديوان أو فى الممر .. وانقطعت الأرجل التى كانت تعبر فى الظلام .. كالخفافيش .. وبدا لها أن من بقى من الركاب فى القطار قد نام .. لأنها ظلت ترقب كل حركة فى الممر وتتسمع كل حس .. ولكنها لم تر شخصا يمر .. أو ينفذ إلى العربة الملاصقة ..
وظهر العسكرى .. ببندقيته وكان المتوقع أن يجعلها هذا تطمئن وتشعر بالأمان ولكن شكله أفزعها .. كان يخيفها أكثر من الرجل الجالس معها .. لأنه بدا لها جلفا .. وعلى وجهه الغباء المجسم ..

***

ونظرت للمرة الخمسين إلى الرجل الجالس أمامها .. وكان يدخن وعيناه المتقدتان تنفذان من خلال ثوبها .. وكان صاحيا طول الوقت وغاظها أنه كان هادئا ممتلكا زمام أعصابه .. وقد جعلها هذا الهدوء العجيب ترتجف أكثر وأكثر .. وحدق فيها نصف دقيقة كاملة .. ثم رأته يدفع بيده البطانية .. عن صدره .. وتصورت أنه سينقض عليها .. ويطوقها وربما مزق ملابسها .. وكانت فى هذه اللحظة تود أن تصرخ .. ولكنها وجدت صوتها لايطاوعها وأغلقت عينيها تنتظر الشىء المقدر .. ولما فتحتهما وجدت الرجل لايزال فى مكانه ..

فنظرت إليه سادرة وفمها مفتوح .. ثم أغلقت عينيها مرة أخرى وكانت تود أن تبكى ..

وراحت تسترجع فى ذاكرتها حوادث القطارات .. فلم تجد .. من بينها حادثة اغتصاب واحدة .. ولكنها تذكرت حوادث قرأتها فى الصحف عن أجسام تمزق بالسكاكين ثم تلقى تحت العجلات خلسة فى ظلام الليل ليتوهم الناس أن الذى مزقها هو القطار .. وعن نساء تخنق فى الظلام .. ثم توضع فى جوال وتلقى فى داخل القطار كما يلقى العفش .. وفى خلال دوامة أفكارها .. تذكرت حادثة شاب هجم على سيدة ليلا فى قطار المترو فارتجفت وهى تتذكر هذه الحادثة وعادت تنظر إلى الرجل .. وتفكر فى الطريقة التى ستعالج بها الموقف هل تسمح له بأن يقبلها .. ثم تخنقه فى أثناء هذه اللحظة وهل تستطيع خنقه حقا ..؟ انها ساذجة .. الأحسن أن تسمح له بالقبلة وبأن يعريها من ثوبها وفى لحظة انشغاله بهذا ستنقض عليه كالنمرة .. بأسنانها وأظافرها وتمزق جسمه ..
لا .. إنه أقوى منها وسيتغلب عليها أخيرا ..
والأحسن من هذا كله أن تصرخ .. ولا بد أن يسمعها أحد الركاب ويأتى لنجدتها ..

وجف ريقها فى خلال هذه الخواطر .. وكف قلبها عن الخفقان ثم عاد يخفق ..

ومن العجب أن خواطرها تركزت كلها فى الخوف على عفافها ونفسها ولم ينصرف قط إلى الجواهر التى تحملها .. مع أنها كانت فى أول الأمر تخشى على الجواهر أن تسرق ..

وكان الرجل الجالس معها فى مكانه لم يغيره .. كان يدخن فى هدوء ..
انه يعد نفسه للحظة الحاسمة ..
أما هى فستقاوم .. وتقاوم .. إلى آخر نفس ..

وقبل أن يدخل القطار فى محطة المنيا .. ظهر الرجل اللابس الجلباب واللبدة مرة أخرى فى الطرقة .. ووقف بجوار باب الديوان .. ونظر من النافذة إلى الداخل .. ثم فتح باب الديوان .. وتناول حقيبة من فوق الرف .. وأنزلها ووضعها فى الممر .. وظل فى مكانه ينظر من نافذة القطار الزجاجية إلى حدود المدينة ..

ولما دخل القطار المحطة .. وتوقف .. رأته يحادث شابين آخرين كانا ينتظران على الرصيف ويلبسان الملابس البلدية .. وكان يقف معهما رجل يلبس بدلة أنيقة ..
ودخل الشابان إلى جوف العربة ..

ورأت هدى الشابين ينحنيان على الرجل الجالس معها فى العربة .. ويحملانه إلى الخارج ..

وسقطت البطانية من فوق رجليه .. فى هذه اللحظة نظرت هدى إلى ساقيه المتدليتين دون حركة كشىء ميت .. واحمر وجهها ..

وعندما خرجوا بالرجل من القطار .. فهمت الشىء الذى لم تكن تقدره أو تتوقعه أبدا .. وآلمها أنها لم تعرف حالته طول الوقت .. ولم تعاون عجزه عن الحركة بأية مساعدة قليلة منها ..
ومسحت عبراتها مرة أخرى ..
==================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية فى 451959 وأعيد نشرها بمجموعة زوجة الصياد 1961لمحمود البدوى



صورة فى الجدار

قصة محمود البدوى

دعتنى " سهير " لزيارة مرسمها فى قصر الفنانين بالغورية ، ولبيت الدعوة رغم حرارة الجو الشديدة فى ذلك النهار ، ورغم ازدحام شارع الأزهر ، وسوء حالة المواصلات فى هذا الحى التجارى الصاخب ..

ولم أفكر وأنا فى الطريق إليها ، فى كونى سأجد فى لوحاتها ما يهز المشاعر ، أو يحقق رغبة فنية بعيدة المنال .. لم أفكر فى هذا اطلاقا ، بل كنت فى واقع الحال أريد أن أقضى معها ساعات طويلة فى مكان هادىء بعيدا عن العيون ، ولم يكن هناك ما هو أنسب من هذا المكان . إذ كنت فى شوق شديد إليها بعد انقطاع طويل الأمد ، لم يكن لأحدنا سبب فيه ، فقد باعدت بيننا الظروف ، فانفصلنا بقسوة ، بعد عشرة هنية فى المعهد الإيطالى بحى عابدين استمرت فى صفاء ، بعيدا عن كل عواصف الحياة ، وكنا ندرس معا اللغة الإيطالية فى صف واحد ، وتوطدت بيننا فى ذلك الوقت مودة صـادقة ، حسـبها الزمـلاء فى المعهد حبا مسيطرا على القلب ..

وكنت قد زرت القصر قبل ذلك مرة واحدة ، ولاتزال فى ذهنى صورة عنه ، وأن كانت باهتة ..

وهو مكان هادىء جميل ، يطالعك منه السكون المطبق ، ولاشىء فيه حى ، غير أولئك الفنانين الذين يعملون فى داخل حجراتهم ..
وتستطيع أن ترسم فيه فى هدوء ، وأن تسترجع أو تستلهم العصر الفاطمى ، أو العصر الأيوبى ، أو العصر المملوكى ..
كمـا تستطيع أن تطالع ، وأن تكتب . كما تستطيع أن تصور فيلما .. وأن ترتكـب جـريمة قتل ، دون أن يحس بعملك أحد ممن فى داخل المبنى ..

والمكان شبه مهجور ، وتدرك ذلك لأول وهلة بمجرد ما تضع قدمك على بابه الكبير ، وإذا دخلت فيه أصبحت فى تواهة ، ويصعب عليـك أن تهتدى لصاحب " المرسم " مهما تكن خبرتك السابقة بالمكان ، ولهذا اتفقـت على أن تنتظرنى " سهير " فى حوش المبنى ، وفى مواجهة الباب ، فى الساعة العاشرة تماما من صباح يوم الإثنين ..

ووجدتها وحدها فى الساحة ، وعلى وجهها اللوعة .. وكنت قد وصلت بعد الموعد المحدد بثلث الساعة .. لخطأ فى تقدير المسافة ، سيرا على الأقدام من شارع خيرت إلى حى الغورية ، لأنى لم أسلك الطريق الصحيح فى مثل هذه الحالة ..

ولو مشيت من شارع خيرت إلى الناصرية .. إلى عابدين .. إلى شـارع حـسن الأكبر .. إلى باب الخـــلق .. إلى باب المتـــولى .. ثم إلى الغورية لوصلت فى الميعاد ..

ولكننى اتخذت طريق شارع عبد العزيز والعتبة .. وكنت مخطئا .. وجاهلا بالتقويم المساحى للمدينة ..

ووجدتها واقفة فى قلق .. وقد فقدت الأمل فى وصولى .. لأنها تعرف عنى شدة الحرص على المواعيد ..

وكانت فى ثوب أرجوانى من قطعة واحدة .. مقصوصة الشعر .. عارية الساقين .. تلبس حذاء صيفيا خفيفا تطل منه أصابع قدميها .. وجعلها هذا شبه حافية ..

وقالت فى عذوبة وكل نبضات وجهها تنطق بالفتنة :
ـ لماذا تأخرت ..؟
ـ الواقع أنه لاعذر لى .. فقد أخطأت فى تقدير المسافة ..
ـ أجئت من عابدين ..؟
ـ لا .. من العتبة ..
ـ اتخذت طريق " السوارس " منذ القدم .. لأنى غبى مثل البغل الذى كان يجرها ..

وضحكت " سهير " واهتزت شفتاها القرمزيتان .. وبرزت أسنانها فى صفاء اللؤؤ .. وظهر رضاب شفتيها .. واشتد سواد عينيها .. وبدا فيهما بريق خاطف امتد مع الضحك وتلألأ .. وقالت :
ـ هيا ..

ومشيت وراءها فى المكان الموحش .. وأنا أتلفت يمينا ويسارا وبصرى على الأبواب المغلقة فى الساحة الواسعة .. عساى أجد فيها بابا مفتوحا .. أو انسانا يتنفس ، فيقلل من وحشة البناية .. ولكن لم أجد أحدا .. وحتى الغرفة التى على يسار الداخل من الباب لم يكن فيها الملاحظ ولا الفراش ..

وأحسست بالخوف عندما وصلنا إلى بداية السلم الحجرى .. فقد دخلنا فى ظلمة خفيفة .. ولكنها مخيفة .. ولكنى قاومت الخوف ..
وسمعتها تقول وهى تعتمد بذراعها على عضد الحائط :
ـ إصعد ..
ـ أصعد ..! وكيف أصعد أمامك .. هل أعرف الطريق ..؟
ـ إصعد وأنا أدلك ..

وظهر الخجل على وجهها واضحا ، وخفت الصوت .. وتضرجت الوجنتان .. وبدا أنها تعانى من خفر طبيعى آسر ..

وأدركت الموقف لغبائى بعد نصف دقيقة من التوقف .. وكان يمكن أن أدركه على التو .. لو كنت خبيرا بمثل هذه المواقف .. فهذه حركة طبيعية من أنثى ناضجة .. فإن طلوعها السلم أمامى ، سيكشف ساقيها وباطن فخذيها .. ولا حيلة لها فى تغطية هذه المفاتن مادمت وراءها ..

وصعدت أمامى بعد إصرارى على الجهل بالطريق .. وصعدت وراءها وأنا مغمض العينين ، ومفتوح العينين .. فإن الظلمة الخفيفة ، ودوران السلم جعلتا بصرى يحدق أكثر وأكثر .. وكانت تحدثنى بمكر لأنشغل بالحديث عن النظر ، ولكننى كنت أنظر وأجاوب فى اقتضاب وسهوم ، وأنا أحس برجفة فى قلبى بعد كل درجة أصعدها ..

وأخيرا وصلنا إلى باب مرسمها فى الطابق الثالث .. وفتحت الباب ودخلنا فى حجرة صغيرة ، ولكنها نظيفة ، وكل ما فيها كان مرتبا وموضوعا فى مكانه .. حشية طويلة عالية بجانب النافذة للراحة والاسترخاء .. ومنضدة وثلاثة كراسى من الخيرزان .. وطاولة فى جانب وأمامها لوحة منصوبة .. وفرش وألوان .. ثم لوحات تغطى جدران الغـرفة إلى السقف .. وأبريق ماء .. ودورق كبير على يمينه كوب .. ووابور لصنع القهوة والشاى ..

وجلست على الحشية أتطلع لكل هذا ، وأنا مفتون بنظافة الحجرة وتنسيقها .. وسألتها :
ـ ألا يوجد فنانون غيرك فى هذه البناية ..؟
ـ يوجد طبعا .. ولكنك لاتحس بوجودهم ..
وأخذت تصنع القهوة ، وأنا أتأملها عن قرب ..
وبعد أن شربنا القهوة .. بدأت ترينى رسومها ..

ولاحظت أنها تكرر رسما لوجه رجل واحد فى كثير من هذه اللوحـات ، وأن ذلك قد يكون جاء عفوا ، وعن غير قصد ، دون أن تدرى ، وهى تحسبها وجوها مختلفة ..
وسألتها :
ـ لمن هذا الوجه ..؟
ـ أنه ليس لأحد .. أنه من الذاكرة ..
ـ ولكننى أتصور أننى التقيت به على ظهر باخرة ..
ـ ولماذا على ظهر باخرة ..؟
ـ هـذا ما أحس به فى داخلى .. وقد يكون ذلك لأنى كثير الأسفار ..
ـ قد يكون تصورك صحيحا .. فما أكثر الوجوه المتشابهة ..

ثم شرعت ترينى باقى اللوحات التى فى الغرفة .. وكان معظمها عن حى الغورى ، وكانت طبيعية فى رسمها .. وتستعمل الزيت والفرشاة .. كما تستعمل الماء .. وتستعمل الفحم .. ولم أجد فى أى رسم منها الغموض الذى شـاع فى الفنـانين الجدد ، وإن كنت قد وجدت بعض الرمز ، ولم أجد فى هذا ما يستحق اللوم ..

وقالت فى دماثة :
ـ بعد كل هذه الرسومات .. أريد أن أرسمك أنت يا شوقى ..
ـ يسعدنى هذا ..
ـ مادام الأمر يسعدك .. فمتى تحب أن تبدأ ..؟
ـ كما تشائين .. من الغد ..

ومرت ساعتان ونحن فى حديث متصل عن الماضى والحاضر .. ثم نظرت إلى ساعتها وقالت :
ـ والآن نريد أن نتغدى .. فما الذى تحبه .. كباب وكفته .. أم نيفة ..؟ وأنت ضيفى ..
ـ ضيفك .. قطعا لا.. فأنا رجل وأكبر سنا .. ولا أقبل هذا الوضع المقلوب ..
ـ طفت وسحت بكل البـلاد .. ولاتزال بعقلك القديم ..لم تتطور ..
ـ أن التطور لايحدث فى هذا ..
ـ المهم أن نأكل .. ولاداعى للنقاش .. وتصرف كما تحب وترغب ..

ونهضت لأخرج وأجىء بالطعام .. فقالت :
ـ أبدا .. سأنزل أنا .. أنت لاتعرف السوق ..
ـ ياستى .. لقد قضيت شبابى فى هذا الحى فكيف لاأعرفه ..
ـ طيب .. خذ هذا الكيس النيلون .. وليكن الطعام لثلاثة .. فعندنا ضيف وسأنتظرك تحت ..
ـ ولماذا تحت ..؟
ـ أخشى أن تضل الطريق وأنت صاعد ..
ـ أبدا .. أنا أعرف الطريق إلى غرفتك أحسن منك ..

ومشت معى إلى بسطة السلم .. وأنا أشعر بفرحة لم أشعر بمثلها فى حياتى .. ولم أسألها عن الضيف الثالث من يكون .. مادام سيأتى وأراه على الغداء ..

ولما هبطت الدرجات ، وخرجت من البوابة ، وأصبحت فى الشارع ، واختلطت بالناس ، انتابنى الخوف .. خشيت أن أرجع ولاأجدها .. فعندما كانت غائبة عنى ذاب الشوق ، وذهب أباديد مع الأيام .. ولكن عندمـا وجدتها ، والتقيت بها ، عاد الشوق ملتهبا وحارا .. وكان ولعى بها فى كل الحالات متوهجا ، حتى ونحن فى المعهد الإيطالى ، وكان جسمها فى ذلك الوقت أكبر من سنها .. كان متكاملا ومثيرا .. وكانت ناضجة فى هذه السن المبكرة ومتفتحة للحياة ، وكنت كلما رافقتها فى جولة قصيرة إلى أن تركب الترام إلى بيتها .. أحس بعيون المارة تصوب نحونا كالسهام ، وكنا نتلافى هذه العيون مااستطعنا ، ونختار الأماكن المظلمة فى السير والتجوال ..

ولما رجعت بالطعام وجدتها أعدت المائدة بذوق وبراعة .. استعملت كل شىء يمكن استعماله كأداة من أدوات المائدة .. حتى أصبحت مائدة متكاملة ..

وجاء الضيف الثالث فى منتصف الساعة الثالثـة بعد الظهر .. وكان شيخا محطما قد جاوز الثمانين ، يرتدى بدلة كحلية قديمة وقميصا غامقا .. وقد أطلق لحيته ، وترك شعر رأسه الأبيض يطول حتى يكون هالة لوجهه البيضاوى الأسمر ..

ورحبنا به وحدجنى بنظرة فاحصة ، إذ كانت عيناه هى كل ما بقى فيه من حياة .. وعرفتنى به " سهير " كأستاذها فى الرسم ، وأطرته وحمدت صفاته ، وبالغت فى فنه حتى شعرت بالغيرة منه .. وكان موضع العطف منها ، طوال ساعة الطعام ، تقدم له هذا وتؤخر ذاك ..

كانت تحنو عليه فى بنوة لم أشاهد مثلها فى بنت نحو أبيها .. وتذكرت الوجه الذى تكرر ملامحه فى رسمها ، ومعظم لوحاتها .. فأدركت أنه وجه هذا الرجل فى شبابه .. كان مستحوذا على قلبها تماما .. وكانت مأخوذة ومتيمة به فى شبابه ورجولته .. وأصبح فى شيخوخته موضع العطف والحنان ..

وعلمت من حديثها أنه يأتى فى غالب الأيام ليتغدى معها .. وأنه يعيش فى وحدة مرة .. فليس له من أهل فى القاهرة ، ولا فى سواها من المدن المصرية ..

وسـاءلت نفسى إذا كانت تغديه .. فمن الذى يعشيه ..؟ وشعرت بغصة .. كان رساما ، وانقطع عن الرسم لضعفه وشيخوخته وأصبح يعيش فى بطالة وفراغ وجوع ..

وقالت لى " سهير " أنه ينام فى حجرة مظلمة كئيبة فى حى " المغربلين " فى بيت متهدم كل ما فيه ينهار وينذر بالسقوط .. وكلما ذهبت إليه ، وصعدت السلالم شعرت بأنها ذاهبة ولن تعود ..

ولكن من عجائب القدر أنها تعود .. لتشقى مع شقاء هذا الفنان المسكين ..

وهو مع شقائه مكافح ، وعنده جلد على التغلب على الصعاب .. وقد تفرغ وهو مريض وجوعان لعمل لوحة عظيمة وضع فيها كل ما فى فنه وروحه .. من طاقة .. ولكن لم يتقدم لشرائها إنسان ..
وظلت مطمورة فى حجرته الكئيبة حتى طمسها التراب ..

***

وعصفت برأسى الخواطر .. الجوع موجود فى كل مكان فى العالم حيث لايوجد النظام ..

وتذكرت الصورة المشرقة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، عندما كان يعفر لحيته بالدخان ، وهو ينفخ فى النار تحت القدر الذى وضع فيه الطعام لأطفال جياع ..

هذه كانت دولة النظام والعدل فى أعلى مراحلهما .. أعلى ما يمكن أن يصل إليه حكم الإنسان ..

وأخـذ الرسـم البيـانى فى الهبوط .. فهل يعود إلى الصعود ، ونحلم بالعصر الذهبى للإنسان .. فنقضى على الجوع ..

واستفقت من خواطرى على حركة من الشيخ .. فقد أبدى رغبته فى العودة إلى بيته ، ونهض فعلا ..

ونزلنا معه أنا " وسهير " لتوصيله إلى مسكنه .. وعلى باب البيت سلمت عليه ، ودخلت معه " سهير " حتى بسطة السلم .. وشاهدتها تضع فى جيبه ورقة مالية فى خفاء وهى تحسبنى لم أر ذلك .. وخرجت منشرحة الصدر ..
وأخذنا الطريق إلى مرسمها لنستريح ..
وقالت سهير بعد أن دخلنا حجرتها :
ـ أتشرب كوبا من الليمون ..؟
ـ لابأس منه .. ولكن أفضل عليه فنجانا من القهوة ..
ـ قهوة مرة ثانية .. ألا تفكر فى النوم ولو ساعة ..؟
ـ القهوة لاتأثير لها على أعصابى .. أنام بعد شربها على التو ..
ـ سأعد الليمون .. ثم القهوة ..
ـ هذا شىء جميل ..

وبعد أن شربنا الليمون والقهوة ، واسترحنا قليلا أخذت تهىء لى الحشية .. وقالت :
ـ استرح هنا .. وأنا سأتمدد هناك وأعمل لنفسى حشية أخرى ..

***

وتمدد كل منا فى مكانه .. اختارت لى مكانا بجوار النافذة لأشعر بطراوة الهواء .. أما هى فنامت هناك وراء الطاولة ، حيث تقوم لوحتها الكبيرة التى مازالت تعمل فيها ..

وأغلقت عينى ، كما أغلقت هى عينيها ، ولكنى كنت على يقين من أنها لم تنم .. ولاأدرى كيف سرحت بها أحلامها ..

وفتحت عينى فوجدتها نائمة بطولها على الحشية .. ورأسها المقصوص يعطيها وجه الصبى الناضر .. لم تكن قد ثنت فخذا ، ولا حركت قدما طوال هذه الرقدة منذ وضعت ظهرها على الحشية .. وعجبت لهذه المقدرة " اليوجية " أنه شىء لايقدر على مثله إلا من مارس لعبة " اليوجا " وبرع فيها ..

***

وفتحت عينيها فوجدتنى أنظر إليها .. ولعلها أدركت ذلك .. دون أن تكون فى حاجة للنظر ..
وقالت :
ـ ألم تنم ..؟
ـ أبدا ..
ـ الغرفة حارة ..؟
ـ بالعكس انها جميلة الهواء ..
ـ إذن نخرج ونتجول فى خان الخليلى .. ثم نطلع إلى الدراسة ..
ـ هذه جولة جمياة .. تذكرنا بماضى أيامنا ..

***

وسرنا فى حى الغورية متجاورين على مهل ، من شدة الزحام .. وأحسست بنظرات المارة تصوب إلينا كالسهام .. كان جمالها مثيرا ، ويلفت الأنظار من أول وهلة .. وخشيت مـن هـذه النظرات الوحشية .. ولعنت نفسى لأننى لاأحمل مسدسا .. فكيف أدافع عنها ، وأنا مجرد من السلاح ..

وعندما صعدنا إلى " الدراسة " شعرت بخوف مضاعف فماذا يحـدث لو مرت بجوارنا سيارة .. وخطفوها .. كيف أدافع عنها وأنا أعـزل .. كيف أدافـع عنهـا فى هـذا الظلام ، وهذا السكون أمام قوى الشر ..؟

إن الشر عندما يضع قدمه فى المكان الآمن يحوله إلى جحيم .. يحوله إلى أشد الأماكن خطورة ، ويقلب نوره الباهر إلى ظلام مطبق ..

كانت تشعر بقلقى ، ونحن فى الفضاء الواسع ، قريبا من المقابر .. والشمس قد غربت ، وأضيئت المصابيح البعيدة ..
وسألتها :
ـ أين تسكنين ..؟
ـ فى العجوزة ..
ـ سأوصلك ..
ـ لاداعى لهذا التعب .. سآخذ " تاكسى " ..

وحاولنا إيقاف تاكسى بكل الوسائل .. وانقضت ساعة كاملة دون نتيجة .. وانطفأ النور فجأة ..

وسرنا على مهل ، ونحن فى حالة يأس من الركوب .. ولم تقبل ركوب الأتوبيس إطلاقا فى هذا الزحام الشديد وعلى الأخص بعد انطفاء النور ..

***

وعاد النور ففرحنا .. ولكن فوجئنا بانقطاعه مرة أخرى بعد عشر دقائق .. وأصبحنا فى ظلمة شديدة .. فسرنا ببطء شديد .. ثم توقفنا بعد أن أحسسنا بخطورة السير بجانب السيارات التى تسرع فى جنون فى هذا الظلام ..

وقالت " سهير " فى رقة وهى تدير عينيها من حولها :
ـ ان أقرب مكان إلينا " المرسم " فلنذهب إليه حتى يعود النور ..
وكان حقا خير مكان يأوينا فى هذا الظلام ، ويقينا من شر الليل ، وشر الظلام ..

وابتعنـا شمعـة ، وابتهجـت لمـا وجـدت باب البناية لايزال مفتوحا ، ودخلنا على ضوء الشمعة .. وأمسكت " سهير " الشمعة بيد .. ويدى بيد .. وصعدنا ..

وكنت أشعر بفرح غامر .. فى هذه الظلمة .. وهذا السكون ، وشـعرت بأننا وصلنا إلى العش الذى هيأه القدر لنا دون أن نبذل جهدا ..

***

أضاءت الشمعة الغرفة الصغيرة التى اتخذتها " سهير " مرسما بنور هادىء جميل .. نور أحببته وأحببت هدوءه ، وذكرنى بنور القمر الفضى فى القرية .. نور جميل ينساب فى رقة ، ولايؤذى البصر ، ولايثير الأعصاب .. نور مريح للقلب والنفس معا ..

جلسنا متجاورين على الحشية صامتين .. تسبح خواطرنا فيما يشبه الأحلام .. ونسينا أنفسنا .. ونسينا وجودنا كله ..
ونسينا الظلام فى الخارج وانقطاع النور ..

وكنا نسبح معا فى ضوء الشمعة .. نسبح فى خواطر جميلة .. وصـوبت إلىّ نظرة حـالمـة .. وقرأت فى عينيها الرغبة .. فأمسكت بيدها ..

وأمسكت بيدها ، وشعرت بالنعومة والعذوبة .. ولمست الحنان ، وهى تشد على يدى فى دلال .. وتتحول بجسمها وتكاد تضغط على صـدرى .. وكدت أن أقبـلها وأن أضمهـا .. ولكـن لمحـت باب المـرسـم لايزال مفتوحا .. فاتجهت نحوه لأغلقه ، وأنا أحس بضربات قلبى ..

***

وقبل أن أصل إلى الباب ، وأدير مقبضه لأغلقه ، لمحت صورة .. صورة لرجل فى منظار أسود معلقه فى اطار ذهبى .. فسألتها :
ـ صورة من هذه ..؟
ـ انه زوجى ..
ـ ولماذا المنظار الأسود ..؟
ـ لأنه أعمى ..

وأحسست بخنجر يمزق أحشائى .. أن العين العمياء تنظر إلىَّ فى سخرية قاتلة ..

انطفأت الجذوة التى اشتعلت فى جسمى ، وحل محلها لوح من الثلج حط على عاتقى .. وأحسست بالبرودة الشديدة وبالرعشة .. وأنا راجع عن الباب دون أن أغلقه ..
تركته مفتوحا كما كان ..


====================================
نشرت القصة بمجلة الثقافة بعددها رقم 50 فى نوفمبر 1977وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى تحمل نفس الاسم وفى مجموعة قصص من القاهرة ـ مكتبة مصر
====================================




الورقة المطوية

قصة محمود البدوى


وقفت فى الصف مع الرجال .. أمام شباك التذاكر .. وكان الزحام شديدا فى نهاية الصيف والطابور يتلوى لطوله ويبرز خارج المحطة ..

وكان آخر قطار " ديزل " يتجه إلى القاهرة .. ومع أن معظم الواقفين فى الطابور لم يكن عندهم أدنى أمل فى الحصــول على مقعد ولكنهم وقفوا .. وصبروا ليجربوا حظهم .

وكان عامل التذاكر فى محطة " سيدى جابر " بليدا ولئيما وحلا له تعذيب الواقفين أمامه فى الطابور .. إذ كان يعمل فى بطء شديد ، ويحادث موظفا فى الداخل بين الحين والحين ويدير رأسه إلى الوراء دون سبب ظاهر ثم يعود فى تكاسل إلى عمله ..

وكان كل الذين يرون هذا المشهد المغيظ ، لايبدو منهم التذمر أو الاعتراض .. فقد الفوا مثل هذه الأشياء .. واعتادوا عليها .. وكانوا على يقين .. بعد التجربة المرة .. إن الشكوى والتذمر لاجدوى من ورائهما .. ولايغيران الحال .. فلاذوا بالصمت .

وصمتت السيدة مثلهم ولكنها كانت تشعر بالغيظ .. وصبرت حتى جاء دورها وأصبحت أمام الموظف على الشباك .. وفتحت حقيبتها لتخرج ثمن التذكرة .. وارتعشت يدها وتمتمت ثم أخضلت عيناها بالدمع ..

وظهر عليها الاضطراب بوضوح .. وأخذت تتلفت زائغة البصـر .. ثم خرجت من الصف وهى لاتستطيع حبس عبراتها ..

وأدرك الرجل الذى كان وراءها فى الصف حالها وما جرى لها .. وكان قد سمعها وهى تقول :
ـ تذكرة لمصر ..
ثم انشل لسانها ..

فأخرج ورقة بخمسة جنيهات من جيبه وقطع تذكرتين بدلا من تذكرة واحدة .. وتناول الباقى من الموظف ثم خرج من الصف ..

وظل يبحث عن السيدة حتى وجدها خارج المحطة .. فتقدم اليها وقال بلطف وهو يمد يده بالتذكرة ..
ـ أدركت ما حدث .. فاسمحى لى بأن أقدم هذه التذكرة .. وعندما تعودين إلى بيتك .. ردى ثمنها فى أى وقت ..

فنظرت إلى الرجل مشدوهة .. لم تكن تقدر .. أو تنتظر مثل هذا من إنسان .. وتصورت أن الرجل يحتال عليها .. أو يفعل شيئا ليتقاضى ثمنه مضاعفا .. وظلت مترددة واجمة ولكن لما توضحته ونظرت إلى عينيه توسمت فيهما الطيبة المطلقة ..

فتناولت منه التذكرة .. وهمست ..
ـ متشكرة ..

وبعد أن دخلت من باب المحطة .. تذكرت أنها لم تسأل الرجل عن عنوانه لترد له نقوده ..
فمشت إليه فى استحياء .
ـ ولكن .. حضرتك .. لم تعطنى عنوانك ..
ـ فى القطار .. اننا جنب بعض ..

جنب بعض .. وعاودتها الهواجس انه يستغل الموقف إذن .. واضطربت وعلا وجهها السهوم .. لقد كانت تتصور فيه الطيبة فإذا به كغيره من الرجال استغل موقفها ببراعة .. ترد له التذكرة ؟ ولكن أين تذهب فى هذه المدينة الكبيرة وهى وحيدة مفلسة ؟ فبعد أن نشلت ليس فى جيبها أى نقود على الاطلاق .. وليس لها قريب أو غريب فى الإسكندرية تعتمد عليه ..

وظلت حائرة مضطربة .. ثم شعرت بالقطار يدخل المحطة فأنقذهـا من حيرتها وركبت وهى تترك الأمر للمقادير ..

***

وبحثت عن الرجل وراءها وقدامها وهى تدخل فى جوف العربة فلم تجده .. وكان الزحام شديدا .. خلق كثير .. يتدافع بالمناكب .. فى داخل العربة .. وتحركت ببطء وهى تقدر العثور عليه بعد أن تجلس على المقعد .. فهو بجوارها كما قال لها ..

ولكنها وجدت رقم كرسيها بجوار سيدة فجلست متعجبة .. ولما تحرك القطار تطلعت فأبصرت بالرجل هناك فى أقصى العربة .. يجلس بجوار الباب ..

وظلت عيناها معلقتين به .. وهى تنتظر منه أن يتحرك من مكانه ويأتى إليها وعلى الأخص وهو يعرف رقم مقعدها .. ولكنه لم ينهض حتى بعد أن جاوز القطار محطة " دمنهور " ..

وفى محطة " طنطا " حمل اليها لفة طعام ونظرت إليه .. وابتسمت .. وتناولت اللفة صامتة .. فقد خشيت إن رفضتها أن تثير فضول الركاب .. وخصوصا السيدة التى بجوارها فهى فضولية إلى أقصى مدى ..

ولذلك تناولت منه الطعام وهى تشعر من حولها بأنها قريبة له أو حتى زوجته .. فهو فى سن زوجها .. وأخذت تأكل .. ضامة شفتيها ما أمكن .. وعزمت على جارتها أكثر من مرة ..

وبعد أن فرغت من الطعام وأحست بأنها تقترب من محطة القاهرة .. فكرت فى الذى تفعله لتصل إلى بيتها فى الدقى فى هذا الليل ومعها حقيبة ثقيلة ..

وخرجت من القطار .. تحمل حقيبتها بيدها .. وفى الصالة الخارجية لمحطة القاهرة كان الرجل بجانبها يعينها .. ودفع إلى يدها ورقة بخمسين قرشا ..

وقال ..
ـ هذا للتاكسى ..

فقالت له بثبات هذه المرة ..
ـ أبدا .. لابد من اسمك وعنوانك أولا ..

فابتسم فى لطف .. وأخرج من جيبه ورقة وقلما .. وانتحى جانبا ليكتب ثم طوى الورقة .. وقال لها ..

ـ فى هذه الورقة اسمى وعنوانى ورقم تليفونى أيضا ..
وأركبها تاكسى .. واختار لها سائقه ..

ولما دخلت البيت .. كان زوجها لايزال فى الخارج .. وكانت الشغالة فى انتظارها وسرت لقدومها ..

ولما أخرجت " ثريا " ملابسها من حقيبتها واستراحت قليلا أخرجت من حقيبة يدها الورقة التى أعطاها لها الرجل " وكانت عدة طيات ففردتها ونظرت فيها .. فوجدتها بيضاء .. ليس فيها حرف واحد ".

وابتسمت وصورة الرجل الغريب تتضخم أمامها وتعظم حتى ملأت جوانب البيت كله ..

ولما جاء زوجها من الخارج وجدها فى الفراش .. فاقترب منها فى شوق ليحتضنها ولكنها دفعته عنها نافرة واعتذرت بأنها تعبة ..

ولأول مرة فى حياتها تشعر بكراهية شديدة له واحتقار من غير حدود .. كانت تقارن بين صفاته الخلقية وصفات الرجل الآخر ..

فقد لمست لأول مرة فى حياتها النبل والشجاعة فى إنسان ..
=================================
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد يونية 1973 وأعيد نشرها بمجموعة عودة الابن الضال
=================================

ليست هناك تعليقات: