الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 6 قصة القصة ـ القطار الأزرق ـ قصة محمود البدوى

قصة القصة
القطار الأزرق

سافرت إلى " كونستنزا " على باخرة رومانية قبل الحرب العالمية الثانية .. وكان الكساد والبطالة يعمان العالم .. والأسعار رخيصة فى كل مكان ..
وكان اقلاع السفينة من ميناء الإسكندرية .. وعلى ظهرها القليل من المصريين دون سواهم من الأجناس الأخرى ..
ولكن فى ميناء " بيريه " ثم بعدها ميناء " أثينا " طلع إلى ظهر السفينة ركاب جدد من كل بقاع الأرض .. فامتلأت السفينة بهم بعد فراغ ..
وعلى مائدة الطعام فى السفينة .. وجدت بجانبى شابا وشابة فى سن متقاربة .. ويبدوان كأخ وأخته .. ولكن بعد الحديث الذى دار على المائدة عرفت أنهما زوج وزوجة وائتلفنا وأصبحنا نقضى زمن السفر كله معا ..
ووجدت مع " خير الله " الزوج وهو فنلندى مسلم رواية مشهورة
" لأناتول فرانس " .. فزادت هوايته للأدب منى قربا .. وأصبح حديثا فى لون جميل جذاب تتخلله مشاعر الصبا ، وأحلام الجمال لكل ما نراه فى هذا العالم ..
وفى " استانبول " نزلنا نحن الثلاثة ، وكان " خير الله " يعرفها جيدا فوفر لنا البحث عن دليل .. وطفنا بكل ربوعها ومعالمها " ضلمة بغجة " و " كوبرى غلطة " وصلينا الظهر فى جامع " أيا صوفيا " ..
ووقفنا على البسفور .. وقال خير الله :
ـ ان من لم ير البسفور لا يرى الجنة ..
ويقصد بكلامه هذا جنة الأرض طبعا ، فتعالت جنة الآخرة عن كل وصف وتشبيه ..
وانتهت رحلة خير الله وزوجته فى " استانبول " وعدت أنا إلى السفينة وحدى لأواصل السفر إلى البحر الأسود ..
وحدث بعد ذلك بثلاثين سنة كاملة .. أن وجدت نفسى مع هذه الفتاة التى تركتها فى البسفور مع زوجها .. وكان اللقاء فى مصعد من مصاعد فندق " أوكرانيا " فى موسكو ..
وحدقت فى وجهها وحدقت .. وغفلنا عمن حولنا من ركاب المصعد ..
وتنبهت على صوت العاملة التى تدير المصعد وهى تقول :

ـ الدور السادس ..
فخرجت .. وخرجت الفتاة معى ..
انها تقيم فى نفس الطابق .. يا للدنيا ..
وحتى لا أصاب بالخبل .. قررت عن يقين لا يداخله الشك .. أن هذه الفتاة هى ابنة صديقى القديم " خير الله " الذى التقيت به على ظهر الباخرة الرومانية منذ ثلاثين سنة ..وعمرها الذى لايجاوز الثالثة بعد العشرين يؤيد ذلك ويثبته ..
وفندق " أوكرانيا " ضخم كالمقاطعة المسماة باسمه .. ولذلك كنا نتناول وجباتنا فى نفس الطابق الذى نزلنا فيه ..
ووجدتها ساعة الافطار فى مطعم الطابق ، ولما كانت العاملة لا تعرف غير الروسية ويصعب التعامل معها بأية لغة أخرى فقد أشرت بأن تأتينى بطعام مثل الذى أمام الفتاة ..
وابتسمت الفتاة وهى ترى هذا .. ولما جاء دورى فى دفع الثمن ، أخرجت فى يدى روبلات كثيرة .. فتناولت الفتاة ثمن الطعام .. وردت الباقى وهى تضحك وتقول بالإنجليزية :
ـ هذا هو الثمن ..
وشكرتها.. وسررت جدا لأنها تعرف الإنجليزية .. وأصبحنا نتقابل كثيرا ، وعرفت منها أنها فى رحلة أثناء عطلة الدراسة فى الجامعة مع بعض رفيقاتها .. وأنها مسافرة بعد يومين إلى ليننجراد .. لتعود منها إلى فنلندا ..
ولما سمعت كلمة " فنلندا " اشتدت ضربات قلبى .. وقلت لها :
ـ اننى سأسافر مثلك إلى ليننجراد .. يوم الاثنين المقبل فى قطار الساعة الثامنة مساء ..
ـ اذن سنتقابل فى نفس القطار ..
ـ ستسافرين فى هذا القطار ..؟
ـ أجل .. ولا يوجد سواه فى الليل وهو قطار أزرق جميل ..
وتقابلنـا فى المحطـة .. وركبنا عربة واحدة .. ولما كانت مع رفيقاتها .. فقد تحرجت أن أدعوها لتجلس معى فى " قمرتى " ..
وقضينا الوقت قبل تحرك القطار .. وبعد التحرك .. وقوفا فى الطريق ننظر إلى المدن الصغيرة .. والريف الروسى .. وهو يتلألأ بألوان فى الليل .. والقطار يطوى .. ويطوى ..
ومرت علينا فى وقفتنا سيدة أجنبية ووزعت بطاقة وهى صامتة ..
وكانت البطاقة تدل على وجود " عرافة " فى العربة رقم 6 والديوان رقم 4 وهى على استعداد لخدمة المسافرين فى القطار ..
ونظرت إلىَّ " كريمة " وقالت مبتسمة :
ـ لماذا لانذهب .. انها تسلية جميلة ..

فقلت لها :
ـ حقا .. انها تسلية لنذهب ..
ووقفنـا على باب العرافة .. وبعد النقر .. دخلنا .. وكانت وحدها .. واستقبلتنا مرحبة فى إنجليزية تشوبها لكنة الأجنبى ..
وسألت :
ـ من الذى يريد منكما .. أن يعرف طالعه ..؟
فردت كريمة :
ـ أنا ..
ـ ستدفعين عشرة دولارات أمريكية يا عزيزتى ..
وأخرجت كريمة المبلغ .. وطوته العرافة .. ثم نظرت إلى وجهى وكأنها ترانى أمامها لأول مرة .. وسألت :
ـ والسيد .. والد ..؟!
فهززت رأسى هزة يفهم منها الرفض والقبول ..
فقالت العرافة بحزم :
ـ حتى وان كنت والدها .. فإن الأمر يخصها وحدها .. ما سأقوله لها لا تحب هى أن يسمعه سواها .. وأرجو المعذرة ..
وخرجت وأنا أشعر بالغيظ ..
ولما بدأت العرافة تسـأل الفتاة عن اسمها واسم والدها .. ألصقت
أذنى بالباب وجمعت كل حواسى فى أذنى .. ولكن الفتاة عندما نطقت باسم والدها .. ضاع صوتها فى دوى القطار .. فلم أسمع منه حرفا ..
وهكذا أصبح والد الفتاة سرا يحير ككل ما يحير من أسرار فى هذه الحياة ..
وأصبح قطار ليننجراد الأزرق تدور فى عرباته قصة .. ليست كغيرها من القصص ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة القطار الأزرق منشورة على الرابط

http://stories1908.blogspot.com/2006/12/blog-post_311.html



====================================
*
نشرت قصـة القصـة فى مجلة القصة ـ العدد 45 ـ يوليو 1985
* نشرت قصة " القطار الأزرق " فى مجلة الثقافة ـ أكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من روسيا " مكتبة مصر
====================================

ليست هناك تعليقات: