الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 17 قصص قصيرة من روسيا ل محمود البدوى


قصة مصرية من روسيا
فهرس بالقصص المنشورة
الرنين *
القطار الأزرق *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرنين

قصة محمود البدوى

رن جرس التليفون فى حجرتى بالفندق فى منتصف الليل .. ولم أكن أعرف أحدا فى موسكو .. ولا صلة لى بانسان .. ولذلك تركته يرن .. وبقيت فى الفراش تحت الأغطية الثقيلة ..

وكنا فى صميم الشتاء والثلج يتساقط ، والبرودة تصل إلى 25 درجة تحت الصفر ..
ولما طال الرنين تحركت من مكانى ورفعت السماعة ، فوجدت سيدة على الخط وكانت تتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ..
وقلت :
ـ هالو ..
ـ هالو ..
ـ أى خدمة ..
ـ أى خدمة ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟

وهكذا ظلت تردد ورائى كل ما أقوله بلهجة مضحكة ، كانت تنطق الكلمة الإنجليزية خليطا بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية ..

ومع أنها سحبتنى من الفراش وأطارت النوم من عينى ، ولكن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل الساكن وفى هذه الوحدة أشعرنى بالراحة ، فأنا وحيد فى هذه المدينة الكبيرة ، وحيد فى الفندق .. من غير أنيس ولا رفيق .. وقد قضيت أسبوعين على هذه الحالة القاسية ..

ولهذا فإن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل هز مشاعرى ..

كنت أعيش فى حالة كآبة فى داخل الفندق ، ولا أستطيع التجول فى المدينة لشدة البرد القاتل ، وسقوط الثلج ، فإنه من الصعب على شخص لم يتعود على مثل هذه الحياة أن يتجول ..

كانت درجة البرودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر فى بعض الأيام ولا تقل عن 20 درجة فى معظم الأيام ، ولهذا حبست نفسى فى الفندق ..

ولم أكن أخرج إلا نادرا فى مشوار سريع إلى المكتبة العامة ، وأعود منه مغطى كلية بنتف الثلج ..

وفى الليلة التالية ، وفى نفس الساعة عاد الرنين ، تركت الجرس يرن طويلا ثم تناولت السماعة ، وسمعت نفس الصوت يردد ورائى ما أقوله بالحرف الواحد ..

وقلت فى صوت جاف :
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ شىء عجيب ..
ـ شىء عجيب ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ أريد أن أنام ..
ـ أريد أن أنام ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..

ووضعت السماعة وأنا فى أشد حالات الغيظ .. واستمر الحال على هذا المنوال عشرة أيام متصلة ، ومن العجب اننى كنت أضبط الساعة على رنينها .. فى منتصف الليل بالضبط .. وعندما تتلاقى العقارب الثلاثة كنت أسمع الرنين ..

ومن العجب أننى بعد هذه الأيام العشرة .. أصبحت أحن إلى سماع هذا الصوت ، وأخشى أن ينقطع الرنين .. والإنسان عبد لما تعود عليه .. ويعشق المجهول .. ولقد عشقت صوتها .. كان صوت هذه السيدة جميلا منغما كأنه كروان يغنى على الخط ، كروان يغنى بأعذب الألحان ..

وأصبحت أتصورها من صوتها شابة بين العشرين والخامسة والعشرين .. رشيقة القوام .. شقراء الشعر دعجاء العينين .. صبوحة الوجه .. ولها على الخد الأيسر شامة بحجم العدسة .. وأسنانها بيضاء تفتر عن ثغر جميل خلق للقبل ..
وتظل هذه الصورة فى رأسى مجسمة حية تتحرك ..

***

وفى الصباح وأنا فى طريقى لتناول طعام الافطار فى نفس الطابق الذى فيه حجرتى ..كنت أنظر إلى الأبواب المفتوحة فى الغرف المجاورة لغرفتى .. وألاحظ النساء على الأخص .. الرائحات والغاديات فى الطرقة .. وأسمع الأصوات ، وأحدق فى الوجوه .. لعلى أهتدى إليها ..

***

كان بالغرفة التى على يمين غرفتى ثلاث مضيفات فى شركة الطيران اليابانية .. وكن فى سن متقاربة لا يتجاوزن العشرين .. أنيقات فى زيهن الأزرق وقبعاتهن الصغيرة الزاهية .. وكان نطقهن للإنجليزية بارعا كأنهن إنجليزيات ، فاستبعدتهن تماما من الصورة ..

ثم شقراء بين بين الألمانية والبولندية .. وكانت تقيم وحدها فى الغرفة التى تلى غرفة اليابانيات .. وكانت جامدة الملامح رصينة ، وما أحسب أنها تفكر فى مثل هذا العبث فاستبعدتها أيضا ..

وسيدة هندية خمرية اللون ، طويلة الشعر ، تلبس السارى الهندى ، ومعها زوجها يرافقها ويلازمها ملازمة الظل .. وبعد مشقة سمعت صوتها ونطقها بالإنجليزية فاستبعدتها على التو ..

ثم سيدة روسية نصف .. يعنى فى منتصف العمر .. تشغل الغرفة الرابعة فى نفس الصف ولعلها رسامة جاءت إلى العاصمة فى مهمة عمل .. وهى تتحرك فى ملابس الروسيات الثقيلة ، ومستعدة للثلج وعواصف الشتاء ، وتراها دائما فى معطفها المبطنة بالفرو ووشاحها الصوفى وقبعتها الزرقاء .. تراها دائما فى هذا الزى الكامل فى " الكافتيريا " وفى البهو .. وفى قاعات الاستقبال .. وكانت صارمة الملامح عادة .. ولعلها مهندسة معمار ..

ولم أسمعها تنطق قط بغير اللغة الروسية فاستبعدتها على الفور ..

ثم سيدة عجوز وزوجها الكهل .. ومعهما ابنة شابة ومن حوارهم بالإنجليزية عرفت أنهم من الأمريكان فاستبعدت العجوز وابنتها لنطقهن ..

ثم شابة رأيتها فى الطرقة تتحرك على كرسى بعجل .. وتدفعها أمها .. ولم أسمعها تنطق .. وكانت تقيم هى وأمها فى الحجرة المواجهة لحجرتى .. وكانت الفتاة ضاحكة السن وتحدق بضراوة فى كل الوجوه التى تمر أمامها فى الطرقة بعينين نجلاوين متطلعتين ..

ثم سيدة جديدة فى مقتبل العمر ، رأيتها لأول مرة تضع المفتاح فى الباب المجاور لباب الفتاة الكسيحة .. ولم أسمعها تنطق بأية لغة وكانت صامتة وقلقة ويبدو على وجهها الأسى ..

واستبعدت النزلاء من الرجال الكبار والصغار فى الطابق الذى أقيم فيه وفى كل الطوابق .. فإن أصوات الرجال واضحة فى سمعى ومن السهل تمييزها مهما حاولوا تقليد النساء ..

وهكذا بقيت فى هذا الفندق الضخم أسمع الرنين ولا أهتدى لصاحبته .. وأنتظر " أولجا " لتأخذنى إلى بيت " دستويفسكى " لنطلع على المخطوطات ..

ولكن " أولجا " حبستها الثلوج فى " تفليس " وبقيت فى الفندق أسمع الرنين ..

وبعد تفكير طويل ، وبعد النظر فى كل الوجوه ، حصرت العابثة فى فتاة من عاملات الفندق .. وهى التى تعرف رقم التليفون فى غرفتى وتسلى نفسها فى الليل الطويل بهذا العبث ..

***

وفى قاعة البريد الملحقة بالفندق .. جلست أكتب رسالة " لأولجا " أعرفها بموقفى وحبسى فى الفندق وأغفر لها تأخيرها .. وعدم استطاعتها الحضور .. لأنى أعرف مقدار ما سقط من الثلوج فى قريتها .. وقلت لها بأنى مضطر للعودة إلى موطنى بعد الثامن عشر من يناير .. إن لم تستطع هى الحضور قبل ذلك .. وأعدها بأن أحضر مرة أخرى فى بشائر الصيف ..

وقبل أن أضع الرسالة فى المظروف .. وجدت عينين تحدقان فى وجهى من الكرسى المقابل على نفس المائدة ..

كانت سيدة طويلة نحيفة القوام سوداء الشعر جميلة ناعمة البشرة .. ناعمة البسمة .. وكل ما فيها ناعم رقيق ..
ولكن الوجه بكل ما فيه من جمال وتألق كان قلقا ..

والقلق هو الذى جعلها تحدق فى وجهى لأنها قرأت فيه القلق الذى فى نفسها ..

وتبادلنا بالإنجليزية كلمات قليلة عن الرسائل وطوابع البريد ومتى تفرغ صناديق البريد التى فى داخل الفندق ..

ودون أن توضح لى حالها تماما أدركت أنها تنتظر رجلا .. وأنا انتظر " أولجا " ..

والرجل حبيبها ولكن " أولجا " لم تكن حبيبتى .. أولجا مشرفة على بحث أدبى يشغل وقتى وحياتى ..

***

وأصبحنا نتقابل عرضا دون اتفاق سابق فى المطعم ، وفى ردهات الفندق وفى الصالة الكبيرة وأمام أبواب المصاعد .. وحدثتنى أنها كانت فى الطابق الثالث فلما خلت غرفة فى الطابق التاسع انتقلت إليها .. لأنها تود أن تمتع نفسها بالتطلع إلى المدينة من هذا الارتفاع الشاهق وترى الثلج المتساقط وهو يغطى الشوارع والميادين ويتراكم على أسلاك التليفون والبرق .. وترى العصافير وسط هذا الجوالثلجى وهى تحط آمنة على أغصان الشجر ..

وترى العاملات فى الليل يجرفن الثلوج تحت أنوار المصابيح التى غشاها الثلج فغدت تعكس كل الأضواء التى فى قوس قزح ..

واعتادت أن تستيقظ مبكرة .. كما أفعل .. فنذهب معا إلى " الكافتريا " لتناول طعام الافطار قبل أن يزدحم المكان بالنزلاء .. ونجلس إلى مائدة لا نغيرها ولم يكن بيننا بعد أسبوع من اللقاء المتصل ما يسمى بالحب أو حتى بالصداقة .. وانما كان مجرد ألفة أو لقاء بين غريبين أحسا معا بالأمان فى هذا اللقاء .. وقتل السأم فى محبس الفندق ..

وكان القلق قد أخذ يتبدد تماما .. سواء أقدم الرجل الذى تنتظره أم تخلف .. فإنها قد زارت موسكو كما تزورها كل عام .. وشبعت منها وفى هذا الكفاية ..

وكان الحال كذلك بالنسبة لشخصى فسواء أجاءت " أولجا " أم تخلفت فإنى قد اطلعت فى المكتبة على مافيه الكفاية .. وتكفى زيارة واحدة فى الصيف لانهاء البحث جميعه ..

وفى صباح يوم رأيت الشمس فيه طالعة .. قلت لها :
ـ الشمس اليوم تغرى بالخروج .. فهل ترافقينى إلى " الجوم " ..
ـ بكل سرور .. فى أى ساعة تود ذلك ..؟
ـ بعد الغداء .. والأحسن أن أتلفن لك .. لننزل سويا ..
ـ هذا أحسن .. وخذ رقم تليفونى ..
وقلت لها بعد أن دونت الرقم :
ـ وأنا سأعطيك تليفونى ..
ـ أنا أعرفه ..
فحدقت فيها باندهاش ..

إنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة فهل هى التى كانت تدق علىَّ فى الليل وتغير لهجتها لتخفى شخصيتها .. وإذا لم تكن هى فلماذا انقطع الرنين بعد أن التقينا ..؟

سبحت فى بحر من الغموض .. ومع ذلك فإنه من السهل عليها أن تعرف رقم تليفونى مادامت قد عرفت رقم غرفتى .. وتكفى نظرة سريعة فى دليل الفندق ..

وتحت تأثير هذه الخواطر ، ازدادت رغبتى فى أن أسمع صوتها فى التليفون لأبدد هواجسى .. فلم أطلبها وطلبتنى هى .. وسمعت صوتها .. كان مختلفا تماما عن الصوت الذى أسمعه فى نصف الليل .. ولكن فيه نفس الغنة .. يا لحيرتى ..

***

ذهبنا إلى " الجوم " متلاصقين فى الأتوبيس ولما دخلنا من باب هذه السوق الكبيرة شعرت بالزهو وهى بجانبى بفرائها ووشاحها ورشاقتها وجمال قوامها ..

وعندما كان الزحام الشديد يفرقنا عن بعض .. كانت تبحث عنى والخوف يطل من عينيها .. فسألتها :
ـ لماذا الخوف .. لست بالطفل ..
ـ أخشى أن تتوه .. ولن تجد شخصا يعرف الإنجليزية ويدلك على الطريق إلى الفندق ..

وكان هذا الخوف يدفعها لأن تلتصق بى عندما كان الجمهور يجرفنا فى ممرات السوق الضيقة .. أصبحت تمسك بيدى فى كل خطوة ..

واشترينا القليل .. اشترت وشاحا لبنتها .. وعرفت من هذا أنها متزوجة .. ولم أسألها عن زوجها إن كان حيا أم ميتا ..

وفى مصعد الفندق .. صعدنا وحدنا إلى الطابق التاسع .. وأحسست برغبة شديدة فى أن أقبل عينيها وخديها وثغرها .. وأمرغ وجهى فى صدرها .. وكانت فتاة المصعد لاتحول بيننا وبين فعل ذلك ولا شأن لها بعواطفنا ..

وعلى باب حجرتها أمسكت بيدها طويلا ثم تركتها .. وكأننى أسحب معها قلبى ..

***

وفى نفس الليلة .. وأنا أتناول من عاملة الفندق المفتاح .. وأستدير لأتجه إلى غرفتى فى الطرقة الطويلة .. سمعتها تنادينى بعد بضع خطوات ..
ـ يا مستر مختار ..
ـ نعم ..
ووقفت وحولت وجهى إليها ..
ـ ترك لك شخص هذه الربطة ..
ـ لى أنا ..؟!
ـ أجل .. وقال للمستر مختار فى الغرفة 926 ..
ونظرت فى الربطة فوجدت فيها زجاجة " فودكا " و " خرطوشة " سجائر " كنت " ..
فقلت للعاملة :
ـ هذه ليست لى لأننى لا أدخن ..
ـ ولكنه تركها لك ..
ـ أنا لاأعرف أحدا فى هذه المدينة وليس لى صديق فيها على الاطلاق ..
ـ ولكنها تخصك ..

وكانت واقفة بجانبى فى هذه اللحظة " فتاة الغرف " المختصة بجناحنا .. فمددت يدى إليها بالربطة ..
وقلت بالإنجليزية :
ـ خذى هذه الهدية منى .. مادامت زميلتك تصر على أنها تخصنى ..

فتناولتها الفتاة مسرورة وتضرجت وجنتاها وحييتهما ودخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..

وكان الراديو الصغير الموضوع فى حجرتى يذيع موسيقى شجية تهدى الأعصاب .. فسحبته من مكانه ووضعته على منضدة بجانب الفراش .. ودخلت تحت الأغطية ..

***

وفى أخريات الليل استيقظت على حركة فى داخل الغرفة ..

ووجدت الفتاة التى أعطيتها الهدية تحرك الراديو من مكانه .. وقالت برقة لما وجدتنى قد استيقظت :
ـ لقد تركت الراديو مفتوحا ..
ـ شكرا .. وآسف جدا لقد أزعجت النزلاء ..
ـ لا عليك .. والآن نم هانئا ..

وكانت واقفة بالقرب من الفراش وتحدق وتنظر إلى وجهى بحنان .. فأمسكت بيدها برقة .. وتحركت إلى جانبى ..
ولأول مرة أعرف أن معها مفتاحا آخر لغرفتى ..
=================================

نشرت قصة " الرنين " فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976 وأعيد نشرها فىكتاب " قصص من روسيا " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى مكتبة مصر ط 2003
================================






القطار الأزرق

قصة محمود البدوى

التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..

ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .

وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .

وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!

وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .

وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا ..

وسمــعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
ـ تعال come .. بالإنجليزية ..

فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .

قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..

وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..

وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..

ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..

وقالت " نادية " بعذوبة :
ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
ـ الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..

وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..

ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..

وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..

وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .

ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .

وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..

وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..

وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..

وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..

ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..

ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته ..

كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..

وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..

***

وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..

ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .

وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .

ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .

***

وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..

وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..

وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..

وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..

وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..

وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..

فقلت معقبا :
ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..

وسلطت الكاميرا عليه ..
فسألت نادية :
ـ هل ستظهر الصورة ..؟
ـ أرجو هذا ..

وخـيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..

وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..

وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :
ـ جميلة .. ؟ !
ـ جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
ـ شكرا أننى مستريحة هنا ..

وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..

وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..

ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
ـ أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
ـ ولكنى سأحاول ..

وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..

وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..

وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .

وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..

كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..

فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..

وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..

وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
ـ لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟

وكنت أجيبها :
ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
ـ هل أنت بخيل ..؟
ـ جدا ..!
ـ إذا سأشترى لك الفيلم ..!

أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .

***

كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .

وقالت برقة :
ـ وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
ـ يوما بطوله ..؟
ـ واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..

وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .

وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .

وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. ابراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..

***

وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..

فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا فى الممشى ..

ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى فى الليل كل شىء وراءه .. كان لها فعل السحر فى نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..

وشعرت أنه القطار الذى يطوى الزمن .. ولم أعد فى فترة الأحلام أشعر بشىء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفى ولم أتحرك من مكانى حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها فى هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفى الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت فى هذه اللحظة بأن نادية جزء من كيانى .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجه أم لا .. لأنها لم تسألنى هذا السؤال ..

واستفقت على صوتها :
ـ نرجع ..

وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب فى صفحات المجلات .

سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة فى الطرقة وناولتنى بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة فى القطار !!

وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..

وسألتها عن العرافة :
ـ أين هى ؟
ـ فى العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
ـ وكم الأجر ؟
ـ عشرة دولارات ..
ـ هذا كثير ..
ـ إن الناس تسافر اليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!

وسألت نادية :
ـ هل ترغبين ؟
ـ لا .. أنا أعرف حظى ..!

ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدنى وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان فى حدة وقوة أبصار غريبة كعينى العقاب

وبدت فى جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..

وقلت لنادية :
ـ أدخلى ..
فقالت :
ـ لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..

ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف فى القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب فى الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..

فقالت بالإنجليزية :
ـ دولارات فقط ..!
وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
ـ بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا فى ليننجراد ..
فهمست نادية :
ـ إن منظر المرأة يسحرنى ..

وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
وسألتنى :
ـ من الذى سنقرأ كفه أنت أم هى ؟
ـ أنا ..
ـ اذن تخرج السيدة ..
ـ ليس بيننا أسرار ..
وأصرت على خروجها ..

وناولتها كفى ..
فقالت بصوت هادىء :

ـ يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء فى سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمـرة لهذا اللقــاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..

وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..

وسألت وأنا أرتعش :
والأم ما زالت تعيش ؟
ـ أجل ..
ـ أين ..
ـ فى مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..

وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبينى .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبنى بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسى وخرجت شاحب الوجه .

سألتنى نادية :
ـ ما الذى قالته لك ..؟
ـ لا شىء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..

وفى المقصورة أخذت أحدق فى وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..

وعادت نادية تسأل :
ـ ما الذى قالته لك المرأة ؟
ـ ما الذى تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
ـ أريد أن أسمعها ..
ـ قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرنى ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أننى مصرى لقالت أننا سنهزم إسرائيل فى هذا الشهر

ـ وإذا كنت لاتصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
ـ هذا يحدث لكل إنسان ..

وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام فى القطارات .. وتمددت لتنام هى .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..

ثم سمعت صوتها :
ـ هل نمت ؟
ـ أحاول ذلك ..
ـ متى نصل ليننجراد ؟
ـ فى الساعة الثامنة صباحا ..
ـ وأين سننـزل ..؟
ـ فى فندق ليننجراد ..!
ـ حجزت ؟
ـ أجل ..

وخطر على بالى سؤال ، فقلت لها :
ـ نادية .. هل والدك موجود ..؟
ـ لا .. لقد توفى فى أثناء الحرب ..
ـ وأمك ..؟
ـ تعيش معى فى فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..

ـ وما أسمها ..؟
ـ صفية خير الله ..

وارتعش قلبى ..

وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
ـ إن صورتها معى فى الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
ـ فى الصباح يا نادية .. لاداعى للتعب فى الليل ..

كنت أود أن أعيش فى ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع الفجاءة التى لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كيانى نصفين .. إن القطار الأزرق حملنى عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدرى .. لاشىء ينسى .. وكل ما يحدث فى حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..

لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكارى ، وتعرف هواجسى ، ومشاعرى ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..

وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..

===========================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة اكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى مجموعة عودة الابن الضال 1993
وفى كتاب " قصص من روسيا " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2003
==============================================


ليست هناك تعليقات: