الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 4 قصص من هونج كونج والصين


هبطت الطائرة فى مطار " كاى تاك " بمدينة هونج كونج والصبح يتنفس وكان المطار مزدحما للغاية بالركاب ، لأن الطائرات جميعها تتوقف فى الليل وتعمل بالنهار بسبب وجود الجبال .

وخرجت منشرح الصدر نشطا لحسن الاستقبال الذى لقيته فى كل مكان .. فى الجوازات والاجراءات الصحية حتى نسيت مرض القلب .

واستقبلنى على الباب حشد من فتيان الفنادق ومكاتب السياحة والمحلات يوزعون البطاقات على القادمين . وتناولت كل ما تقدم لى منها ووضعته فى جيبى .

ورأيت قبل أن أخرج إلى المدينة أن أجلس أولا فى الكافتريا " ملهى المطار " واختار من هذه البطاقات الفندق الذى سأنزل فيه .

وكان المقهى مزدحما بالمسافرين والقادمين كالعادة فى مثل هذه الساعة من الصباح ، ويصبح من المألوف أن يشاركك مسافر فى مائدتك الصغيرة يحتسى القهوة أو الشاى ، وينهض سريعا ليلحق بطائرته أو يخرج إلى المدينة .

واخترت مائدة قريبة من الباب وبجانبى حقيبة اليد الصغيرة ، وحقيبة الملابس الوحيدة ، وطلبت قهوة وفطيرة وأخذت اتطلع إلى البطاقات ، ورأيت أن أصرف النظر هذه المرة عن فنادق " كولون " لأنى نزلت فيها فى مرات سابقة ، وأن أغير المنظر والمكان وأختار فندقا فى هونج كونج ذاتها لأستريح من حركة الانتقال بالباخرة كل صباح من كولون إلى هونج كونج ، ولأعيش فى قلب المدينة العجيبة بكل مشاعرى ، واكتشف أسرارها ما استطعت فى مدى الأيام القليلة التى سأمكثها .

واخترت الفندق بالفعل من بطاقة من هذه البطاقات بعد تمعن فى الاسم والسعر المحدد للغرفة وكان فى شارع " دى فو ".

ولما رفعت رأسى عن البطاقة الفيت " الكافتريا " قد امتلأت عن آخرها ، وأصبح يجلس بجانبى وحولى أناس من كل الأجناس ومعهم حقائبهم مثلى موضوعة على الأرض بجانب الموائد ، ومنهم من انشغل بكتابة البطاقات التذكارية ، أو وقف يصور منظر الطبيعة من الشرفة الخارجية حيثما تدور .

****

وخرجت من الكافتريا ممسكا كل حقيبة بيد ، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها على المدينة والجو نديا لطيفا والصيف كله يتقلص وكنا فى نهاية أيامه .

ووجدت فى الطريق تاكسيا من التى تستعمل لنفر واحد ، فاستوقفته وقلت للسائق قبل أن أركب ..

ـ ليس معى دولارات هونج كونجى وسأعطيك دولارا أمريكيا واحدا لتوصلنى إلى مرسى الباخرة .

وكنت أعرف المسافة وأقدرها ..

فرد السائق فى لطف :

ـ تفضل .. والدولار الأمريكى يكفى وأكثر مما سيحصيه العداد .

وركبت وكان يسير فى سرعة .. والمدينة أخذت تتنفس وتتحرك بكل مرافقها والمارة يسرعون إلى عملهم فى خفة عجيبة .. وسألته فى موقف الإشارات بعد أن شاهدت صورة لمسز تاتشر فى صحيفة جنوب الصين .

ـ المسز تاتشر هنا ..؟
ـ كانت هنا .. وسافرت .. رجعت إلى بلادها ..

قال هذا دون أن يلتفت إلى ناحيتى

ـ وسترجعون إلى الصين الأم بعد 15 سنة ؟
ـ فى هذا الخير .. ومن الصينى الذى يرضى بالاستعمار ؟
ـ ألا تخاف من تغير النظام ؟
ـ المهم أن تبقى لى عربتى هذه ، وعندما يكون الحكم عادلا وفى صرامة وحزم ، فإنه يرضى كل إنسان .

وابتسم وتلفت وبدت سنته الذهبية تلمع من خلال أسنانه الصفراء من فعل التبغ .

وكان فى بداية الشيخوخة ولكنه ما زال قويا حاد البصر متمالكا لأعصابه وجسمه ، وهو جالس لا يدل جسمه على طول ولا سمنة .

وقلت فى نفسى وهو يشق طريقه فى قلب " كولون " وعيناى إلى العمارات والمتاجر وحركة الناس فى الطريق .

ستظل هونج كونج هى هونج كونج سواء انضمت إلى الصين الأم أم ظلت مسلوخة عنها ، لقد أخذت طابع المدينة الفريدة .. إن أناسها أصبحوا من تكوين آخر وطينة أخرى .. حب المنافسة ، وفى ظهرهم اليابان بكل ثقلها فى الصناعة وتقدم العلم والحركة السريعة والنظام الدقيق جعلهم فى وضع آخر .. ثم حرية الانطلاق خلقت منهم جبابرة فى هذه الميناء ، أنظر إلى البضائع ، أنظر إلى الصناعات الصغيرة التى فى طريقها إلى التطور السريع لتصبح ثقيلة كما تصنع اليابان .. أنظر إلى حركة الناس فى الشوارع ، ولهفتهم على العمل وتقليد الأشياء أولا ثم اختراع الجديد .

هذا كله مبهج ومريح للقلب .. ونسيت تعبى ..

وسألنى السائق :
ـ اخترت الفندق ..؟
ـ نعم ..

وبلغنا كوبرى الباخرة وأخرجت له الدولار ، وشكرنى وتحرك بسيارته . ثم وجدته يتوقف وينادى بالإنجليزية ، ونزل من سيارته وقدم نحوى سريعا قبل أن أهبط من الكوبرى إلى الباخرة .

وقال وهو يلهث :
ـ هل هذا دولار ؟
ـ نعم ..
ـ انه عشرة دولارات ، فحاذر إن الدولار من حجم العشرة فى العملة الأمريكية ، فحاذر من هذا الخطأ وإلا سيفرغ جيبك فى يوم واحد !!

ونظرت إلى الرجل الفقير فى اكبار .. إنسان لا تربطنى به معرفة ولا صلة ، أكثر من صلة راكب غريب بسائق سيارة أجرة ، رجل فقير ..يخاف أن ينضم موطنه إلى الصين فتؤخذ منه عربته الصغيرة المهالكة التى يعيش منها وتصبح من عربات الدولة .

رجل يفعل هذا ، وفى حيطان الميناء وفى الكوبرى وفى البواخر وفى المحطات ، لافتات تحذر من النشالين ، لافتات فى كل مكان بحروف بارزة كبيرة بالإنجليزية .

إن كل ما يحرص عليه هذا السائق هو كيانه الصغير وأسرته ، إن كانت له أسرة ، لو كان هذا الرجل طامعا فى المال لطوى الورقة كما يطويها غيره من لصوص المال ، ومن الذين لايتورعون فى سبيل الحصول على المال من فعل كل شىء وارتكاب كل ذنب من السرقة والقتل والنهب والخداع واستضعاف الضعيف وزيف الحقائق والتمويه على الناس .

كم أذل المال قوما كانوا كبارا فى نظر الناس وشامخين فطوى صفحتهم فى لحظات ، ومرغهم فى الوحل ، وطمس رؤوسهم فى التراب .

ودارت كل هذه الخواطر فى رأسى والباخرة تتحرك إلى هونج كونج وصورة الرجل الفقير مرفوعة فوق رأسى .. وبجانبها اللافتات بالخط العريض .. حذار من النشالين .

هل هو تمويه من الإستعمار الإنجليزى .. لتشويه وجه المواطن الصينى فى هونج كونج أم هو حقيقه ؟ الواقع أنه حقيقه إلى حد ما ، ففى هونج كونج رقيق أبيض ودعارة ، ونشالون لا يشق لهم غبار ، وأصحاب حيل لا نظير لمثلهم فى العالم .

ولكن فى هونج كونج بجانب الصينيين ، غرباء استوطنوا فيها من كل الأجناس فى الأرض .. من الإنجليز والأمريكان والهنود ثم قوم من اليمن والباكستان وغرب أوربا وشرقها .

فلا مانع من التحذير من النشالين الخفاف والثقال عند كل تجمع وحشد ، لا مانع أبدا ، وذلك أول واجبات البوليس فى المدينة .

****

وخرجت من الميناء إلى الفندق فى عربة ركشا واخترت غرفة فى الطابق الخامس .

ولم يستغرق الانتقال من المطار إلى الفندق إلا القليل من الوقت ، ولهذا لم أشعر بأى تعب فى القلب ، ولشوقى إلى المدينة قررت النـزول اليها بعد أن احلق ذقنى وآخذ حماما سريعا .

وتناولت حقيبة اليد لأخرج منها أشياء صغيرة كأدوات الحلاقة وزجاجة الكولونيا .

ولما فتحت الحقيبة حدقت فيها مشدوها وجدت أنها ليست حقيبتى ، وبها أشياء قليلة لا تخصنى ولا تمت لى بأية صلة ولا شىء فيها يدل على صاحبها .

وكان حجم الحقيبة وطولها وعرضها ولونها مثل حقيبتى تماما .. وهى ليست من حقائب اليد التى توزعها شركات الطيران على مسافريها وعليها اسمها كإعلان ، لا إنها ليست من هذا الصنف من الحقائب .. وإنما هى حقيبة يد من التى تباع فى كل الأسواق الأوربية بنية غامقة بقفل واحد يفتح ويغلق اتوماتيكيا بضغط خفيف من جانب .

وكنت قد اشتريت واحدة من هذا الصنف وأصبحت احملها فى كل رحلة لأنها سهلة الاستعمال وخفيفة ، ولا يسع باطنها إلا أقل الأشياء ..

وبمجرد علمى أن الحقيبة ليست حقيبتى اعترتنى رجفة .. وازدادت الرجفة إلى هلع زلزل أعصابى .. وأوجع قلبى ، ولما وجدت فى الحقيبة كيسا جلديا محشوا بالدولارات .. وكل انسان يفرح لمنظر الدولارات وهو فى رحلة .. ولكن منظرها أفزعنى .. وجعلنى ارتعش .. وأخرجتها من الكيس وكانت ضخمة كبيرة وظاهرة للعيان .. ولم يشأ صاحبها أن يخفيها بأية وسيلة من وسائل الاخفاء وحيله .. كأن يطويها فى الأوراق أو يضعها فى محفظة كبيرة مع أشياء أخرى ، لم يفعل هذا .. بل تركها ظاهرة بمجرد أول نظرة ولمسه ..

كانت صورة لنكولن تسر الناظر .. الفلاح العصامى المتفرد فى الطباع والقريب جدا ، والذى يحمل صفات أعظم رجالنا .. بعد النبى .. عمر ابن الخطاب .. والقياس مع الفارق ..فعمر كان أعظم لاعتبارات كثيرة .. ولكن فى العدل والنظام وصرامة الحكم وبساطة العيش ، والاغتيال من يدى أفاقين اشتركا ، واشتركا بما يذهل أمام التاريخ ، لنكولن الفلاح العصامى محرر العبيد برزت صورته فى نفسى كما برزت فى الدولارات الأمريكية ولم تبرز بعده صورة ، ولكنى كمصرى استرجعت صورة " أيزنهاور " الذى أعطى لليهود فى اسرائيل لطمة قاسية بعد عدوان 1956 ووضعهم فى حجمهم الطبيعى .

***

نظرت إلى الدولارات طويلا ولم افكر فى عدها ثم أعدتها إلى مكانها من الكيس الجلدى وذهنى يشتغل بسرعة ، ولكن يجب علىّ ألا أتصرف بغباء وتهور ، فهذه الدولارات مطمع للكثيرين فيجب أن أتحقق أولا بعد كل خطوة وأتحقق بحذر وتأن لأنها أمانة وضعها القدر فى عنقى .

حقيبة اليد هذه حملها عامل المصعد فى الفندق مع حقيبتى الأخرى كما حملتها أنا من الكافتريا فى المطار إلى التاكسى ثم إلى الباخرة ، فهل أخطأ عامل المصعد وحمل حقيبة نازل من نـزلاء الفندق بدل حقيبتى لتصادف وجود حقائب كثيرة فى الفندق وأنا داخل ..؟

أم أن الخطأ من جانبى فى الكافتريا ، فقد حملت حقيبة مسافر آخر بدل حقيبتى وأنا لا أدرى لما بين الحقيبتين من تشابه كبير وتطابق تام فى اللون والحجم .

إن كان الخطأ قد حدث فى الفندق .. فسيكون السؤال من جانبهم وسيأتى العامل ويتدارك الخطأ ، أما أنا فلا أحدثهم بشىء ، لأنى لم أختبر الفندق بعد ولا أعرف مقدار ما هم فيه من أمانة .

ولما لم يسألنى أحد .. تناولت الحقيبة بيدى .. ونزلت إلى بهو الفندق .. وتحادثت مع الشاب العامل فى الاستقبال وأنا أقول لنفسى إن كان هناك خطأ فسيذكره منظر الحقيبة فى يدى بكل أمر ..

ولكنه لم يحدثنى عن شىء متعلق بالحقيبة ، ولما عرف أنى خارج للتسوق ، دلنى على متجرين فى شارع " جلوستر رود " وأدركت بعد هذا أن الخطأ حدث فى الكافتريا .. فأسرعت اليها .. وفى ذهنى خاطر أن الذى حمل حقيبتى لابد أنه أدرك الخطأ مثلى ورجع إلى الكافتريا كما رجعت .

***

وفى الكافتريا دخلت وأنا أظهر الحقيبة لكل العيون وجلست إلى نفس المنضدة ، وطلبت زجاجة عصير ، وكانت الحقيبة بجانبى فرأيت أن أضعها على المنضدة لتظهر أكثر ويراها الجرسون إن كان قد سأله أحد عنها من قبل.

وطال جلوسى ، ولم يأت أحد ، ولم يسألنى شخص ، ورأيت أن من حسن التصرف والصواب ألا أتقدم وأكشف الأمـر فمن الذى يرفض أخذ دولارات هبطت عليه من السماء .

ولما يئست وأحسست بالتعب ووجع القلب ، تغير شعورى من الحرص عليها ، إلى تركها للمقادير لأنها عذبتنى ، ورأيت أن أنهض وأترك الحقيبة فى مكانها ، وتسللت إلى الخارج بعد أن تركتها على المنضدة .

ولكنى قبل أن أركب التاكسى وجدت جرسون الكافتريا يسرع ورائى وبيده الحقيبة .

وشكرته وأنا فى حالة غيظ ، ولكنى ناولته دولارا هونج كونجى لأمانته .

***

وعدت إلى مدينة هونج كونج ، والمدينة العجيبة قد فتحت كل أبوابها ، شوارعها الطويلة الضيقة تموج بالناس .. من كل الأجناس .. ذاهبين وراجعين ومتطلعين إلى اللافتات الكبيرة والصغيرة التى تغطى كل الحوانيت بالأحرف الكبيرة البارزة وباللغة الصينبة فى الأعم والإنجليزية فى القليل .. حروف ضخمة تسد عليك الطريق والعيون زائغة من كثرة البضائع المعروضة ورخص أثمانها وتنوع أشكالها .. إن كل صناعات الدنيا تصب هنا بجانب صناعتهم .. إنهم لا يضعون قيودا على شىء يصنعه أى إنسان .

كان الترام من الطابقين يتحرك أمامى فى الشارع كما كانت عربة الركشا .. وكانت السيارات .. ولكنى لم أركب أيا منها ومشيت على رجلى شبه حالم ، ونسيت تعبى ، ونسيت حقيبة اليد بيدى اليمنى ، نسيتها وأنا أغوص فى قلب المدينة حتى وصلت إلى المطاعم الصغيرة فى صف واحد التى تبيع الكرشة التى يسبح فيها لحم البقر !!

واشتاقت نفسى إلى أكلة صينية ! وإلى الذهاب الى سوق الخضار الكبير الذى يفرغ من كل ما فيه فى الليل ، ويغسل أرضه وسمائه بالماء المغلى والصابون ويعقم ويطهر !!

وإلى الذهاب إلى حديقة النمر وركوب عربة الركشا والتنـزه فى الغابة وإلى التوجه إلى الميناء ومشاهدة السفن العملاقة وهى تفرغ شحناتها من البضائع وحولها الرافعات تدور وتجلجل .

كما اشتاقت نفسى إلى دخول السينما فى حفلات النهار بعد أن شاهدت فى الشارع صور جارى كوبر وجون واين ولى ملفن العباقرة وعلى رأسهم كوبر الذين ذهبوا ولم يخلفهم أحد .

كما تقت إلى التجول فى أرجاء المحلات الكبيرة التى اشتهرت بها هونج كونج وإلى دخول المكتبات واستعراض صفوف الكتب .

وتذكرت أن من المحتم علىّ أن افعل كل هذا قبل سفرى فى نهاية الأسبوع إلى بكين ، ويجب أن أسير على جدول ينظم أيامى المقبلة وقبل كل شىء أن أرجع الآن حقيبة اليد إلى الفندق .

***

وتركت الحقيبة فى الفندق وخرجت أتجول فى المدينة ، زرت كل الأمكنة التى أحبها .

وتغديت وبعد الغداء نمت أكثر من ساعة لأريح أعصابى وقلبى .. وخرجت فى الليل إلى المدينة التى تتلألأ بكل الأنوار .. الأنوار البنفسجية والفسفورية وألوان الزمرد والياقوت ، وبريق اللؤلؤ وشعاع الماس .

كل شىء يتحرك فى أمواج وأمواج .

ودخلت حى " منشاى " حى الملاهى والمسارح ، وسرت فيه بكل طوله وعرضه .

وفجأة برزت أمامى لافتة ضخمة عن عراف من العرافين ، وكانت اللافتة بحروف كبيرة وعليها رسومات ، بلورة كبيرة تكشف الغيب !! ومضيئة بالأنوار القوية وتشير إلى مدخل ضيق يفضى إلى صاحبها .

ودخلت فى ضرب لا نهاية لطوله ، على جوانبه الحوانيت الصغيرة التى تبيع اللؤلؤ .. وتماثيل الخزف والنحاس لبوذا .. والعقود وقناديل الزيت والصور والرسوم لكبار الرسامين والمصورين ، والقداحات .. والأقلام .. والمحابر .. وعقود الماس ، شاهدت كل هذا وأنا أتحرك فى بطء وهلع إلى العراف وكان بابه فى نهاية الدرب .. وعلى الباب حصيرة من عقود الخزف والزجاج تتموج بالكهرباء ، ولا حس ولا صوت .

وحركت الحصيرة ودخلت ، وطالعنى ما يشبه الجب ووجه رجل سمين ضليع حاد النظرات ، تربع على حشية حمراء قامت على كرسى مضلع من الأبنوس المطعم بأصداف البحر ، ولا سند له ، وأمامه بلورة كبيرة مستطيلة مستقيمة الزوايا كشاشة التليفزيون تتلون بكل الوان قوس قزح ولكنها ثابتة.

وعن يساره شىء لم أشاهده وأنا داخل لقلة الضوء وتعمد خفوته ليضفى جو الرهبة على المكان ، ويتكامل الموقف ، عن يساره فتاة جميلة فى عمر الزهور من أنضر وأجمل وجوه الصينيات ، بضمة وشرطة فى العين ، وارتخــاء فى الجفن وبسمة على الشفاة تذيب القلوب الصلدة .

لعلها سكرتيرته أو مترجمته فهو لايتحدث إلا الصينية عن عمد أو تظاهر.

وقلت للفتاة بالإنجليزية عن غرضى من الزيارة .. ولكن على صورة أخرى .. قلت لها إن حقيبة يدى سرقت فى صباح اليوم وأريد أن أعرف السارق والمكان الذى سرقت فيه .

قالت برقة :

_ـ عشرون دولارا .. واسترح كما أنت ..

فأخرجت عشرين دولارا هونج كونجى .. وجلست على كرسى أمام المرآة كما أشارت لى وقلبى ينبض .. وكل جوارحى تنتفض .. فقد خيل إلى أن كل شىء يدور فى الجب مع انقطاع النور وتسلط العتمة ..

وسمعت صوت العراف الأجش يقول ما يشبه التعاويذ بالصينية ، ويترنم بنغم كرنين الأجراس .. ثم خفت وانقطع صوته .. وخيم سكون الموت ..

وسمعـــت صـوت الفتاة .. فتنبهت وأخذت أنظر إلى المرآة ..

وظهرت الكافتريا فى المطار .. ومن كان فيها من المسافرين كما رأيتهم فى الصباح .. ظهروا فى حجم صغير ولكن ملامحهم وسحنهم واضحة .. وظهرت مائدتى ومن كان حولى ..

ثم ظهر شخص طويل ببدلة كحلية ، كان جالسا إلى جانبى ومعه سيدة وطفل .. ونهض وتناول حقيبتى .. بدل حقيبته وأسرع إلى الباب .

وصرخت .. وأضيئت الأنوار .. وسمعت ضحكة الفتاة وسألتنى :
ـ لا ترع .. هل عرفته ؟
ـ وكيف أعرف .. والرجل كسمكة فى بحر ..؟
ـ ولكنه من ركاب طائرتك ..
ـ أبدا ما أحسبه منهم ..
ـ ستعرفه .. وتهتدى اليه .. إذا أبلغت البوليس بأوصافه كما شاهدتها ..
ـ هذا ظنك ..؟
ـ أجل ..!

وكان العراف يحدق فى وجهى وعلى فمه ابتسامة .. ودهاء .. لقد انتصر.. وكشف الأسرار .

لكنى كنت فى حالة ذهول .. هل هى لعبة شيطانية .. والرجل فى إمكانه عرض صورة للمطار وهو يعرف أنى كنت على سفر .. ولكن الحركة هناك .. ونفس سحنة الشخص المجاور لمائدتى هذا كله أذهلنى .. ولم أستطع تحمل الصدمة وأنا أحمل علة القلب .. وأخذنى ما يشبه الدوار وظللت فى مكانى وأدركت الفتاة حالى عندما رأت العرق يتفصد من جبهتى .

وتناولت الفتاة ذراعى ، وأراحتنى على حشية فى غرفة مجاورة ..

ورأيت أن من قلة الذوق أن أشغل المكان .. فتحاملت على نفسى وهبطت إلى الشارع .. وأنوار المدينة تتلألأ .. وتحاشيت الجموع ما أمكن .

وفى شارع " كونات رود " وجدت ملهى فدخلته وطلبت زجاجة من الأستاوت .. وأراحتنى بعض الشىء ، وجاءت فتاة وجلست بجانبى فعاملتها بلطف .. وأدركت هى عدم رغبتى فى مجالستها فنهضت ، وتركتنى وحدى .

وكانت الموسيقى الصينية هادئة تريح النفس والأعصاب .. والأنوار خافتة .. وشاهدت رقصات صينية جميلة .. وبعد الرقص جاءت العاب بهلوانية ، فغادرت الملهى إلى الفندق وأنا أشعر بالتعب وألم القلب ..!!

وسقطت وأنا أخرج من المصعد فى الجناح الذى به غرفتى .

ولما فتحت عينى وجدت نفسى على سريرى وبجانبى سيدة .. وأنا أعرف أن الصينيين بطبعهم الشرقى لا يشغلون الفتيات بالليل فى الفنادق .

وكان الطبيب الذى جاءوا به بعد سقوطى لا يزال فى الغرفة ، وحيانى بلطف وقال :

ـ لاتشغل نفسك ، أزمة خفيفة ومرت بسلام والفضل لصاحب الفندق الذى استدعانى على الفور .. ولهذه السيدة الكريمة جارتك .. التى كانت أول من شاهدك فى لحظة الإعياء .

وأشار إلى سيدة تقف بجانبه وكانت هى التى رأيتها على باب المصعد ، وحسبتها من فتيات الفندق .

وشكرتها بعينى وأنا صامت .. وحدثتها عن أجر الطبيب ورغبتى فى سداده .

فقالت برقة :
ـ الأجر سيضاف إلى حسابك فى الفندق .. وهناك ممرضة ستأتى بعد ساعة ، وتعطيك حقنة ، والأحسن أن تظل صاحيا ..!!

فقلت فى نفسى إن من يتطلع إلى جمال وجهك سيظل صاحيا إلى آخر عمره .. خشية ألا تشرب روحه من هذا الجمال .

وحدثتنى أنها فى الغرفة المجاورة لغرفتى ، وجاءت قبلى بيوم واحد لتقضى فى هونج كونج بضعة أيام بعد بانكوك .. ونيودلهى .. وأنها سويدية وتشتغل مدرسة فى لندن منذ أربع سنوات .. وكانت متـزوجة ولها بنت فى الثامنة عشرة من عمرها ، تزورها من وقت لآخر فى السويد ، والبنت فى رعاية جدها .

حدثتنى عن كل هذا بسرعة وبصراحة الأوربية من الشمال كأنى أعرفها من سنين .

ـ وقلت لها :

بنت فى الثامنة عشرة .. وأنت فى العشرين ، أليس هذا بغريب ؟‍

فضحكت بقلب طروب .. ونغمت :
ـ هل أنا صغيرة هكذا .. حقا ؟
ـ أجل .. ولا أحد يمكن أن يعطيك أكثر من هذه السن ..

وكان وجهها الأبيض الجميل البديع القسمات يضىء ، وعيناها الزرقاوان تشعان ببريق الزمرد ، وكنت فى حالة من المرض لاتجعلنى أزيد من إطرائى ..

وجاءت لى بكل علاجات القلب التى كتبها الطبيب .. وتحركت وراحت وجاءت فى خفة بنت العشرين حقا .

ولما علمت أننى مصرى واسمى " فتحى " قالت لى أنها التقت بشاب مصرى اسمه " فتحى " وهى تدرس فى جامعة اكسفورد ، وكان يمكن أن تتزوجه .. ويتغير مسار حياتها .. لولا أن وضع القدر فى طريقها هذا الشاب المجرى الذى تزوجته بعد رحلة فى الدانوب .. وخلفت منه البنت الوحيدة .. ثم انفصلا.. ومن وقتها وهى سائحة فى كل الأجازات .

كانت ترتدى بدلة الرحلات .. بنطلونا بنيا وبلوزة صوفية داكنة وتركت شعرها المقصوص على طبيعته .. وكانت أسنانها فى بياض العاج .. لولا أثر السيجارة التى أطفأتها وهى فى حجرتى حتى لا تؤذينى ..

وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل زجاجة وهى باسمة .. وقالت :
ـ ستشرب معى ..
ـ آسف ممنوع..
ـ بحكم الدين ..؟

فأشرت إلى قلبى ..

فقالت بنغمة حبيبة :
ـ إنى أحاول أن أنسيك هذا وليس فى عينيك مرض لقلبك .. والعين لا تكذب ..
ـ ولكنى أحس به ..
ـ إنسه ..

وتناولت يدى ..
ـ إن نبضك عادى جدا ..
ـ طبيبة ..؟
ـ كنت أود إن أكون طبيبة ، وكان والدى وقتها يعمل فى لندن .. ولكن جرفتنى حرفة اللغة ، فدرست اللغات الشرقية وتخصصت ..

فقلت لها :
هذا أحسن والخير فيما جرى ..

وحدثتها عن سفرى إلى بكين ومحاضراتى فى قسم اللغات الشرقية بجامعة بكين عن الحريرى والهمزانى كأعظم قاصين فى تراثنا العربى ..ولم يكن الإسمان غريبين عليها..

وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل نسخة قديمة نادرة الطبع من الف ليلة وليلة بالإنجليزبة .

فقلبت فيها معجبا .. وحدثتها عن كل ما أعرفه عن الف ليلة وليلة .. ومن استفاد منها من كتاب الغرب .. استفاد منها بوكاشيو وكتب الديكاميرون .. ثم مارجريت نافار التى كتبت الهيتاميرون .. كما استفاد منها جيته .. ولامارتين فى اسفارهما .. كل هؤلاء استفادوا من كتابنا العرب .. ولكن لقصورنا وتخلفنا أغفلنا أمجادنا .

والعربى منذ القدم وحتى العصر الجاهلى قبل الإسلام ، كان يقص ويحكى أجمل القصص وأبدع الحكايات فى رحلاته من مكان إلى مكان .. فهو أول من قص بالسليقة روائع القصص .

كما أن بديع الزمان الهمزانى أول من كتب قصة فنية قصيرة متكاملة العناصر الفنية كما يقول أساتذة الأدب وهذا ما سأتحدث عنه فى محاضرتى فى بكين .

ولاحظت هى أن حديثى عن أمجادنا من الكتاب العرب أراحتنى فحدثتنى عن كل ما عرفته منهم فى دراستها ، وعن عمقهم الفكرى وعبقريتهم .

وقلت لها :
ـ لقد كنت السبب فى سهرك وتعبك .. وأنت فى رحلة للترويح عن النفس .. ولا أدرى كيف أشكرك .. وأنا مسافر بعد أيام ، وقد لا نتقابل ولا أجد مجالا ولا فسحة للشكر ..

وحدثتها عن العراف ..

فقالت :
ـ ما الذى دعاك للذهاب اليه .. إنهم حمقى وكاذبون ..
ـ ولكنه كان ذكيا .. وبارعا ..

وحدثتها بحقيقة المسألة ..

فقالت فى تعجب :
ـ هذا غريب .. وأين الحقيبة ..
ـ إنها معى .. وهاهى ذى ..

فقلت لها مازحا :

ـ فكرت فى شىء يريحنى ..
ـ ما هو ..!
ـ نتقاسم هذه الدولارات ..

فتمايلت ورقص قلبها من كثرة الضحك ..
ـ إنها تخصك وحدك .. رزق ساقه الله اليك ..
ـ إنها لا تخصنى .. إنها تخص صاحبها .. إننى من نسل قوم كان الحاكم منهم يطفىء سراج الدولة إذا تحدث فى شئونه الخاصة ..
ـ من ..!
ـ إنه عمر بن عبد العزيز ..
ـ ولكن الدنيا تغيرت .. وتغير معها الناس ..
ـ الأمانة لا تتغير مع الزمن لأنها شىء باق .. وشرف الإنسان هو أثمن شىء يحوزه فى كل العصور ..
ـ نعم ما دام الخير موجودا فالدنيا باقية .. وبالخير نقاوم كل عناصر الشر مهما كانت ضراوتها ..

وسمعت نقرا على الباب .. فقالت بدماثة :

ـ جاءت الممرضة لتعطيك الحقنة .. وسأتركك لحظات ..

وغادرت " كرستين " الغرفة والممرضة داخلة وكانت صينية فى الثلاثين من عمرها .. قصيرة ونحيفة سريعة الحركة .. وجهها الصبوح يبتسم فى وداعة ..

وغرزت الحقنة سريعا .. وطوت علبتها ، فقلت لها وقد سرنى أنها تتقن عملها :
ـ انتظرى لحظة .. أرجوك ..

فاستغربت ، وظلت واقفة .. وأخرجت لها ورقة بمائة دولار هونج كونجى من جيبى لها .

ففتحت عينها فى ذهول .. وسألت :
ـ ما هذا ..؟
ـ دولارات هونج كونجى .. أعطيها لك منحة منى ..
ـ مقابل ماذا آخذها .. إننى لم أمنحك شيئا بالمقابل .. فكيف آخذها..؟

كانت جادة فى كلامها كالسياط .. الهبتنى تماما ..

فقلت أخفف الوضع .. وأصرف عنها ما فكرت فيه ..
ـ لقد أعطيتنى حقنة الشفاء ..

فلانت ملامحها وهى تستدير لتواجهنى :
ـ الحقنة .. أخذت ثمنها من الفندق ..

ونظرت اليهــــا صامتا وهى خارجة من الغرفة ولم أعقب ..

ودخلت " كرستين " وحدثتها بما جرى .. فضحكت .. وقالت بنغمة لها معناها :
ـ هكذا الفقير .. والناس لا تعرفه ..

وقلت لها وأنا أشير إلى الحقيبة التى كانت السبب فى عذابى وتطور وجع القلب ..
ـ وما الذى سنفعله الآن بعد كل هذا ..؟
ـ سننشر عنها سطرين فى جريدة جنوب الصين وسيأتى صاحبها حتما بعد النشر ..
ـ وكيف أنتظر .. وأنا مسافر إلى بكين ..؟
ـ سترسل برقية إلى الجامعة .. وتؤجل المحاضرة إلى أيام أخرى ..

وكان فى كلامها الصواب .. وأمسكت بيدها لأشكرها .. وشعرت بالراحة .. وخف العذاب والدوران .. وإن كنت أعرف أن الأرض ستظل تدور بعنف بمن عليها ولا تحفل بمن يسقط من جوانبها ..

============================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 24و3111983 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من هونج كونج
لمحمود البدوى عام2001من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================






الفارس
قصة محمود البدوى


قضى مراد ستة أيام فى هونج كونج يتجول فى شوارعها ويشاهد كل ما فيها من عجائب ..

وفكر فى أن يرى " أبردين " أيضًا قبل سفره ويشاهد هؤلاء الصينيين الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء ، ويتغذى بأكلة السمك الشهية على ظهر السفينة العائمة المشهورة بأطباقها ..

وجلس وحده بعد الغداء على ظهر السفينة يرقب كل ما حوله فى استغراب .. وكانت الشمس ترسل آخر أشعتها الصفراء على الماء .. والزوارق تتأرجح من الموج فى صفوف طويلة منتظمة . وأشرعتها الحمراء منصوبة وقناديلها قد توهجت قبل غروب الشمس ..

وكان المنظر كله يأخذ بلب المشاهد وله طعمه الحلو فى نفسه أكثر من أكلة السمك الشهية فى ساعة الغداء .. فإن كل ما فى الأكلة من طرافة هو اصطياد السمكة .. وهى حية تنتفض وتحاول الفكاك من السنارة .. ثم سحبها سريعًا بحالتها هذه إلى المطبخ وتقديمها بكل ما فيها من حيوية إلى آكلها ..

نسى أكلة السمك ومشهياتها وأخذ يتطلع إلى ما حوله وكانت المنازل القائمة على التل تموج بالغسيل المنشور ..
وهو يرفرف فى بياض ناصع ، ويغطى عينى المشاهد فى دفعة واحدة .. كأنما تحركت بمفتاح آلى ..

وانطلقت ريح الشتاء تهب بعنف فأخذت الزوارق تتراقص وتتلاعب قناديلها مع الموج ..

وكان مراد قد جاء إلى السفينة بزورق تحركه فتاة صينية ورغم أن الصينيات يغلب عليهن قصر القامة .. ولكن هذه كانت طويلة ملساء العود .. وفى فتحة عينيها الجانبية الجمال الصينى الآسر ..

ومع أنها بطيئة الحركة والفتيات الأخريات العاملات فى الزوارق كن يسبقنها فى كل جولة .. ولكن مراد اختارها هى من بينهن جميعًا وانتظرها حتى رست أمامه ..

وقالت له بإنجليزية سليمة بعد أن نقلته إلى السفينة :
ــ متى تعود .. ؟
ــ بعد ساعتين ..
ــ نادنى وسأظل قريبة منك ..
ــ يسرنى هذا ..

وابتعدت وجلس إلى طاولة السفينة وهو يلاحقها بنظره ، كانت تحرك زورقها بالمدراة من الخلف وهى واقفة منتصبة القامة وقد غطت شعرها الأسود الطويل بقبعة كبيرة تقيها المطر والريح .. وغطت صدرها بصدار ضم كل عظمها ولحمها بإحكام .. ولكنه أبرز نهديها واستدارة كتفيها فكأنما كشف الصدار عن المحاسن بدلاً من أن يغطيها ..

وتحت هذا الصدار سروال طويل يصل إلى قدميها مما اعتادت الملاحات لبسه فى هذه الزوارق ..

ولكنهن إذا خرجن من الماء إلى الأرض لبسن الجونلة المفتوحة من الجانبين ككل الصينيات فى هونج كونج .. وأحكمن دثار الصدر ..

ورآها تجلس فى ضباب الغسق وقد تركت الزورق لفعل الموج والريح ..

وبعد أكلة السمك أسف لأنه لم يركب معها على التو ويعود .. ولماذا قال لها بعد ساعتين ولا شىء جديد سيراه وهو جالس وحده وقد خلت السفينة من روادها وتغير الجو فجأة ..

وفى الوقت المحدد جاءت هى ورست تحته قبل أن يشير إليها .. وقفز إلى الزورق .. وكانت قد أعدت له فى المؤخرة مكانًا مريحًا غطته بتندة ليكون بنجوة من الريح ..

وعندما جلس وحركت الزورق رآها بصورة جديدة .. البنطلون الطويل الأزرق والسترة من لونه والصدار الأحمر الضاغط ..!

واتجهت سريعًا إلى الشاطئ والحركة إلى هنا لا تأخذ وقتًا طويلاً ..

قال لها :
ــ أريد أن أخرج إلى البحر الواسع وأرى الخليج .. فبوغتت بهذا الطلب وتجهم وجهها رغم دماثة طباعها ..

وقالت بنبرة استنكار ..
ــ فى هذا الجو ..؟!
ــ أجل أرجوك وأنا لا أجىء إلى هنا كل يوم ..
ــ كما تحب ..

وكانت سحابة من الامتعاض لا تزال على وجهها .. وحولت الزورق إلى الخليج ثم جلست تصنع له الشاى وقدمت له الكوب ساخنًا ..
ــ سيجعلك تشعر بالدفء .
وذاقه وقال :
ــ جميل وفيه سكر أيضًا ..
ــ أجل إننا نشربه بالسكر كالإنجليز هنا ..
ــ ولكن فى الصين الأم لا يشربونه بالسكر ..
ــ هل كنت هناك ..؟
ــ نعم عملت سنتين فى بكين ..
ــ فى التجارة ..؟
ــ فى السفارة ..
ــ هل أنت سفير .. ؟
ــ أقل من ذلك بكثير مجرد موظف صغير ..
ــ لا تقل هذا بل أنت كبير وكبير ..
ــ شكرًا لهذا الإطراء ..

وسألته :
ــ أين ذهب صاحبك .. ؟
ــ لم يكن معى صحاب ..!
ــ ولكنى رأيت جنتلمانًا بصحبتك على ظهر المركب ..
وأدرك أنها كانت تراقبه من عرض البحر ..
ــ إنه سائح وكان يسألنى عن الجو فى نيودلهى فى هذا الفصل من السنة لأنه ينوى الذهاب إلى هناك ..
ــ وأنت ..؟
ــ وأنا ذاهب إلى طوكيو ..
ــ جميلة جميلة ما أسعدك بالعمل فيها ..

واشتدت الريح وتأرجح الزورق .. وسألته :
ــ أتعود ..؟
ــ أبدًا ..

وتراقصت الزوارق القريبة والبعيدة على سطح الماء وأصبح الماء كله أنوارًا تتراقص وتذهب وتجىء تبعًا لحركة الريح ودفعها للزوارق ..
هؤلاء هم الناس الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسألها :
ــ هل ولدت هنا .. ؟
ــ أجل ..
وتركت ما فى يدها وجاءت وجلست بجانبه ..

وقالت :
ــ شاى آخر .. ؟
ــ لا شربت ما فيه الكفاية ..
ــ نبيذ .. ؟
ــ شكرًا ..
ــ لماذا لم تحمل فى يدك معطفًا .. الجو متقلب .. ؟
ــ لم أكن أتصوره سيصل إلى هذه الدرجة من السوء ..

وفجأة ظهر شىء فى المقدمة جعله يفتح عينيه فى عجب .. خرج طفل صغير من بطن الزورق يمسح عينيه .. ونظر مراد إليه طويلاً وفهم ..
ــ طفلك .. ؟
ــ نعم وكان نائمًا وأيقظه الريح ..

وتحركت إليه واحتضنته وقدمت له الشاى ..
فقال لها مراد بابتسامة :
ــ الشاى سيجعله لا ينام ..
ــ وأنا أحبه ساهرًا ..

وابتسمت بتوريه ..
ــ جميل مثل أمه ..
ــ شكرًا ولماذا لا يكون مثل أبيه .. ؟
ــ لم أر والده بعد ..
ــ ولن تراه ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سافر بعيدًا بعيدًا ..

وفتح الطفل عينيه وأخذ ينظر إلى الغريب بفضول ثم بغضب ..
فقالت الفتاة تخاطب طفلها بالإنجليزية :
ــ والآن أيها الفارس أنت فى مبارزة مع الغريب .. مع هذا الجنتلمان .. وأيكما يفوز فى المبارزة سيظفر بالأنثى ..

وضحك مراد وقال لها برقة :
ــ لا داعى للمبارزة وأنا منهزم ومنسحب من أول جولة ..
ــ ولماذا هكذا دون صراع .. ؟ أنا أحب أن تتبارزا .. !
ــ واحتضنت طفلها وترقرقت فى عينيها الدموع ..

وقالت فى حزن :
ــ كلما فكرت أن أعيش لحظات لنفسى أجده صاحيًا ..

ونكس مراد رأسه وقال بصوت فيه بعض ما فى نفسها من مرارة :
ــ تلك ضريبة الأم .. وأين تذهبين منها ويكفيك فخرًا أنك مطوقة بها ..

وكان يود أن يقول لها إنه أكثر منها لوعة وعذابًا ولكنه أمسك .. ورأت فى وجهه الشىء الذى لا تحب أن تراه فى وجه المسافر .. المسافر الذى سافر ليتمتع بمباهج الحياة وينسى متاعبها فى الدنيا الجديدة ..

وسألته لتغير من تسلسل خواطره :
ــ ما الذى كان يريده منك هذا الرجل على الساحل ولماذا ثار غضبك .. ؟
ــ لقد طالعنى بصف من الأسنان الذهبية وعرض علىَّ أن أركب الركشا .. فقلت له إننى لا أركب عربة يجرها إنسان .. وكرر الطلب فأثارنى ..
ــ ولكنك مخطئ ، ففى داخل العربة ستجد حسناء منتظرة وتسليك فى الطريق .. !
ــ حقًا ..؟! لو علمت هذا لركبت على الفور .. !
وضحكا ..

وأحسا بالمطر يهطل بغزارة فتركا سطح الزورق وجلسا متجاورين تحت التندة بعد أن غطت طفلها ولكنه ظل مفتوح العينين يلاحظ الغريب بفضول ..

وجاءت الفتاة بدثار من الصوف وطوقت به مراد وقالت :
ــ إن هذا بدل المعطف ..
ــ هذا كرم منك لم أعهد مثله ، ولا أدرى كيف أشكرك ..

واشتد المطر واكفهر الجو فغطت الزورق كله بالمشمع السميك وجلسا يرقبان الليل ..

وسألته وهى تعطيه كوبًا آخر من الشاى ..
ــ أين تقيم ..؟
ــ فى الجولون جات ..
ــ إنها ممتلئة بالجنود الأمريكيين .. وكيف تعيش مع صخبهم .. ؟ إنهم يسكرون ويسكرون وشبح حرب فيتنام يطاردهم .. فهم دومًا فى رعب وصخب ورغم مضى سنوات طويلة على انتهاء الحرب ولكن الشبح يعود بكل ما فيه من رعب ..
ــ فى قولك الحق . ولكنى نزلت من الطائرة إليها مباشرة .. دلنى عليها زميل ولم يكن عندى وقت للاختيار ..

ونظر إليها طويلاً وتردد قبل أن يلقى السؤال ثم ألقاه :
ــ ألا توجد غرفة مفروشة هنا على الساحل فى هذه البيوت .. ؟
وضحكت ..
ــ لماذا تضحكين .. ؟
ــ إن الصين أكثر منكم شرقية ومراعاة التقاليد .. هل تؤجر أنت غرفة فى بيتك لغريب .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ وكذلك الصينى لا يؤجر غرفة من مسكنه قط وإنما يمكن أن تجد هذه الغرفة عند الأجانب الذين يقيمون فى هونج كونج أو كولون ، أما عند الصينيين فلا ..
ــ فهمت .. فهمت ..
ــ وأنذر الجو بالعواصف وحركت هى المدراة من الخلف ..

وسألته :
ــ ألا تفكر فى العودة ..
ــ أبدًا سأقضى الليل هكذا فقد تقطعت بى الأسباب إلى كولون .. الباخرة التى تعبر إلى هناك أحسبها توقفت فى هذه الساعة ..

وتركت المدراة وجلست بجانب طفلها بعد أن غطته ولفته جيدًا ..

وكان المطر لتحركها وفعل الريح قد بلل صدارها .. فقال لها مراد :
ــ إن هذا سيئ ويعرضك لالتهاب الرئة فأخلعيه وألبسى غيره ..
ــ سأفعل هذا ولكن أدر وجهك أولاً والأحسن أن أغطيك ..
وغطته فضحك ..

وبحرص الصينية التى لا تحب أن تكشف صدرها لأحد ، وقد تكشف فخذيها فى الطريق بالجونلة المفتوحة فإنها خلعت الصدار بسرعة ولبست غيره ..

وقالت ضاحكة :
ــ الآن يمكنك أن تنظر ..
ــ أنا لا أرى شيئًا إلا وهج عينيك .. فالظلام تراكب وقد خرجنا إلى عرض البحر وبعدنا عن الزوارق ..
ــ نعم وهذا ما رغبت فيه ..

وسألها :
ــ منذ مدة تعملين فى البحر .. ؟
ــ قبل أن يولد هذا ..
وأشارت إلى طفلها ..
ــ والعمل مربح .. ؟
ــ هذه حرفة الأجداد منذ مئات السنين فلا يحسن القيام بها سوانا فى طول الأرض وعرضها .. انظر أين نحن الآن من الشاطئ ومن الموج والمطر والريح ولو كان فى هذا المكان ملاح غير صينى لابتلعك الموج من أول غمزة فى مثل هذا الزورق الصغير .. ولكنها حرفتنا وفننا ..

وشعر بها تزهو على البحر والموج والريح والعواصف .. شعر بها فوق كل تقلبات الجو وتقلبات السحاب كجنية فى يدها خاتم السحر .. فلا شىء يروعها ولا شىء يفزعها ..

ولا يدرى لماذا فكر فى هذه اللحظة فى النقود التى سيعطيها لها مقابل كل هذا التعب وتحسس الدولارات الهونج كونجية ..
وقال لنفسه : إن لم تكن كفاية سيعطيها جنيهات إنجليزية فلا يغمط حقها أبدًا ..

* * *

ورآها فجأة متجهمة تنظر إلى موقع من البحر وقد علا وجهها الرعب ، ونظر حيث تنظر فلم ير غير سواد الفحم وزبد البحر قد تحول إلى مداد ودوامات تلف وتدور .. وظلت هى على حالها من الفزع الأخرس ..

فتناول يدها وقال لها بعطف :
ــ اجلسى لقد تعبت وسنخرج وحدنا من هذه الدوامة سيخرجنا الموج ..
ــ إن الدوامة لا تخيفنى وقد اعتدت عليها وعلى الخروج منها ، ولكننى تذكرت فى هذا الموقع شيئًا حسبتنى نسيته لمر الأيام والأعوام ولكننى أدركت الآن أن هذا توهم .. فالذى حدث سيظل محفورًا فى أعماق نفوسنا مهما مرت عليه الأيام ومهما حاولنا أن نطمسه أو نداريه أو نلف حوله ونغطيه ..

ونظرت إلى الطفل وأحكمت غطاءه وشربت جرعات من النبيذ ..
وسألت مراد :
ــ أتحب أن تشرب .. ؟
ــ سأشرب من قدحك ..
ــ هكذا بسرعة أصبحت ولهانًا ..
ــ نعم .. وفى " هانتشو " ركبت مع فتاة صينية فى زورق فى بحر يغطيه ورق اللوتس وقلت لنفسى هذه أجمل فتاة فى الصين .. فلما جئت أبردين ورأيتك وركبت زورقك قلت لا إن أجمل فتاة فى الدنيا هى صينية هنا فى أبردين ..

ورأى القتامة السوداء تنزاح عن وجهها رويدًا رويدًا وهى تطالعه بعينيها وقد سرت من كلماته ..

وقالت برقة :
ــ لقد طلبت منى فى هذا الليل أن أخرج بالزورق إلى هذا المكان فخرجت من أجلك .. والآن انظر معى إلى فم البحر الواسع إنه يبتلع كل شىء وفى بطنه الأسرار .. أسرار الدنيا .
منذ سبع سنوات وقبل أن يولد هذا الغلام ويوجد وكنت متزوجة حديثًا من " يونج " جاء إلى الشاطئ مثلك تمامًا شاب إنجليزى مهذب ، ونحن نعرف الإنجليز من سحنتهم من أول نظرة .. جاء وكان يتطوح من السكر وطلب منى أن أنقله إلى السفينة وأنا أرفض أن أتعامل مع هذا الصنف من المخلوقات لأنه سيسبب لى متاعب ، فرفضت ولكن صينيًا كهلاً كان على الشاطئ حذرنى من الرفض وقال لى إن أى إنجليزى يمكن أن يسحب منى رخصة الملاحة .. ويسحبها إلى الأبد .. ولمحت والصينى يتحدث ، ظل كونستابل على الشاطئ ، فأركبت هذا المخمور على الفور وابتعدت به عن الزوارق ..
وعند السفينة العائمة لم ينزل إليها .. قال لى إنه يريد أن يرى الخليج فدرت به إلى هناك ..
ولاحظت بعد كل حركة مدراة أن عينيه تلاحقاننى بنظرة فيها من الشهوة ما اختبرت مثلها مرارًا ..

وقال وهو يتطلع إلىّ :
ــ اتركى المدراة وتعالى واجلسى بجانبى ..
ــ لو تركت المدراة سنغرق والبحر عاصف ..
ــ لا يهم لا يهم ..
وكان سكره يزداد ورائحته تغطى رائحة البحر ..

وغاظنى أنه يتصور أننى ما دمت فقيرة فأنا رخيصة وطوع أمره ..
وسألنى :
ــ كم تأخذين فى الجولة إلى السفينة العائمة .. ؟
ــ عشرة دولارات هونج كونجى ..
ــ سأعطيك مائة وألف ألف إذا جلست بجانبى ..
ــ قلت لك إذا تركت الدفة فسنغرق ..
ــ لا يهم لا يهم ..
ــ ما الذى تريده ..
ــ تجلسين معى هنا ..
ــ فى شاطئ استانلى وهو ليس ببعيد وأنت تعرفه جيدًا ، لأنه محرم على سواكم من البشر .. فى هذا الشاطئ تجد أكثر من إنجليزية حسناء يمكن أن تلبى رغباتك ، أما أنا فأشتغل ملاحة .. وأعيش بعرقى ..
ــ ولكنى أريدك أنت ..
ــ هل أحببتنى بسرعة هكذا .. ؟
ــ أجل ..
ــ ولكنى لا أحبك ..

ونفذ هذا الكلام كالسهم فى رأسه المخمور فوقف ومن عينيه يتطاير الشرر .. ولمحت هذا فأخذنى الرعب وأخذت أغير سلوكى وأروضه ..

فقلت له بعذوبة :
ــ هل تريدنى حقًا .. ؟
ــ نعم .. نعم ..

فأخذت فى خلع صدارى وكان لا يزال واقفًا أمامى ، وتحركت وأنا أنزع ملابسى إلى سطح الزورق ، وتحرك معى وأصبحنا عند موضع الدفة ، وألقيت الصدار فى بطن الزورق ، وكنت أود أن أتحرك بيدى بسهولة ، وجمحت به الشهوة ، وشرع ذراعيه ليطوقنى ، وفى هذه اللحظة الخاطفة ، دفعته بكل قوتى وغضبى وكرهى إلى الماء .. فغاص ثم ظهر ثم غاص .. وجلست ساعة أرتعش من الرعب كالمشلولة التى تعجز عن كل حركة ..
ثم حركت المدراة وابتعدت حتى وصلت إلى الشاطئ ..

ومرت ساعات .. وأيام .. وأسابيع دون أن أسمع خبرًا .. أو يوجه إلىّ سؤال ..

وفى كل يوم كنت أتجه بالزورق إلى نفس المكان فى الليل .. دون أن يدرى أحد مقصدى ..

ولكنه لم يطف ولم يظهر قط .. لا على الشاطئ ولا فى المدينة .. غرق ..

ــ كيف يغرق والإنجليز جميعًا يجيدون السباحة .. لأنهم بحارة ..؟
ــ ولماذا لا يغرق وقد كان فى كامل ملابسه وفى أشد حالات سكره ..؟!
غرق .. أو لم يغرق .. ولكننى غرقت أنا فى بحر من الحزن .. كل ما فى الأمر أنه تصورنى رخيصة لأننى فقيرة وكان هذا منبع الجرح .. ومنبع الغيظ ، ومحط الإثارة .. ولكن هل يدفع هذا إلى الجريمة ..
يا كنفشيوس العظيم .. إننا جميعًأ حمقى رغم كل تعاليمك وكل عظاتك ..

وبعد هذا بستة أسابيع سافر زوجى " يونج " إلى بانكوك ولم يعد .. ولم أسمع عنه خبرًا .. وقلت لقد جاء القصاص .. إن هذا بذاك ..

وأمسك مراد بيدها وضغط ..
ــ كم أنت مسكينة وشقية وأنا لا أدرى .. ولا أرى فى وجهك إلا الجمال والسكون .. أما روحك المعذبة فقد جهلتها .. فاعذرينى لغباوتى ..
ــ أبدًا .. لا تقل هذا .. لقد استرحت إليك من أول نظرة .. وعندما طلبت منى أن أتجه إلى هنا طاوعتك وغمرنى الاطمئنان وحدثتك بعذابى .. ونفسى تحدثنى بأنى رأيتك فى كل مكان تتجول فيه فى شوارع هونج كونج .. فى الكوين رود .. وفى شارع " دى فو " وفى محل .. " لان كراوفورد " ..
ــ إنى أحمل نفس الإحساس .. لقد كنت معى هناك فى الصين الأم .. وستظلين معى فى كل مكان ..
واتجهت بالزورق إلى الشاطئ ..

وقالت وهى تنظر إلى هناك :
ــ إن والدى ينتظرنا ..

ورأى شيخًا طاعنًا فى السن يقف على الساحل ولا يعبأ بالمطر .. وخرجت " ليانج شان " تحمل طفلها .. تحدثت مع والدها طويلاً ، وهبط الشيخ إلى الزورق وسلم على مراد وأخذ يحادثه بإنجليزية مكسرة الحروف ..
ثم تركه وهو يقول :
ــ سنبحث لك عن مكان تقضى فيه الليل .. لأن ذهابك الآن إلى فندقك أصبح متعذرًا ..

وشكر " مراد " الشيخ بحرارة .. وجلس فى الزورق يرقب ما حوله وقد سرحت به الخواطر .. وامتلأ رأسه بالأفكار .. وعجب لتصاريف الحياة .. مجرد نزهة مع فتاة عاملة على زورق .. ككل فتاة رآها من قبل تعمل فى القطار .. أو فى الباخرة .. أو فى الطائرة .. مجرد نزهة تكشف له عن هذه المأساة ..

إن الفتاة لم تنس قط فعلتها رغم أنها حاولت مرارًا أن تنساها بكل وسيلة ممكنة ، وما الذى فعلته لتنسى ما الذى فعلته ..؟ ما الذى فعلته .. لقد .. لقد .. لا .. لا ..

* * *

استطاعت الفتاة بلباقتها .. وكياستها أن تخلى له الكوخ الخاص بهم .. وتذهب هى ووالدها الشيخ وطفلها إلى جيران من أقربائهم يقضون فيه هذه الليلة ..

* * *

وجلس على فراش من الحرير .. والغرفة مزينة بستر حريرية ومفارش جميلة على المناضد .. ورسوم مطرزة على الحيطان .. والكل بلون واحد ..

وجلسوا معه يسامرونه .. وظل الطفل صاحيًا .. كفارس كما وصفته أمه .. ثم حملته أمه إلى جيرانهم .. وعادت تعد مائدة العشاء ..

وأكل مراد .. بالعصوين .. وكان قد أتقن الأكل بهما فى الصين ، وضحكت الفتاة ووالدها .. لبراعته فى استعمالهما .. وشرب معها النبيذ .. وتحدثوا فى كل شىء .. تحدثوا عن الحروب .. وتحدثوا عن هونج كونج التى سقطت فى يد اليابانيين فى ثلاثة أيام .. ثم استرجعها الإنجليز .. وعادت الدائرة تدور .. وظل الإنجليز فى قصورهم على الشاطئ .. وهم يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسأل مراد الشيخ :
ــ أصبحت هذه الحياة سهلة عليكم كما أعتقد وأتقنتموها ..
ــ اعتدنا على هذه الحياة .. وألفناها .. ولم نفكر فى التغيير والعادة حكمها رهيب .. ولم نعد نحس بالهوان ..
ــ من يهن يسهل الهوان عليه ..
ــ ماذا تقول ..؟
ــ هذا شطر بيت من الشعر لأكبر شعرائنا العرب .. ومن الصعب ترجمته بألفاظه لبلاغته .. وسأشرح لك معناه ..
ــ معناه حكمة أزلية .. لقد اعتدنا على العيش فى الماء .. ولم نطلب التغيير ولم نسع إليه .. فبقينا كما كنا ..!
ــ ولماذا لا تخلصكم الصين الأم من احتلال الإنجليز .. ؟
ــ تستطيع الصين الأم أن تفعل هذا .. ولكنها لا تفكر فيه .. لأن هونج كونج هى المنفذ المتدفق لبضائعها .. والذاهب منها إلى كل مكان .. لماذا الحرب والدمار ..؟ وربما وصلنا إلى القنبلة النيترون ونحن لا ندرى .. لماذا كل هذا ونحن نتحرك فى سلام وأمن .. والصينى فى هونج كونج يعمل كالنحلة فى كل الحرف ويتقن فى كل صناعة .. والبلد لحرية التجارة فى رخاء مذهل .. وتفتح ذراعيها لكل سائح ..

وقالت الفتاة بنعومة لوالدها :
ــ السيد " مراد " يريد أن يستريح الآن يا والدى .. ولا يجب الحديث عن الحرب والسياسة .. فهيا .. ليأخذ حظه من النوم ..

* * *

وحياة الشيخ وخرج مع ابنته .. بعد أن أغلقت الفتاة وراءها الباب ..

ولكن مراد لم ينم .. رغم شعوره بالدفء والسكون .. ظل ساهرًا يفكر فى هذه الفتاة .. ظل ساهرًا يفكر فى " ليانج شان " التى عرف اسمها أخيرًا .. ظل يفكر فى كرمها مع فقرها .. فقد أعدت له بيتها الصغير .. تركت له الكوخ .. وذهبت إلى الجيران .. ولولا التقاليد والعادات المتأصلة فيهم .. لضموه إلى أحضانهم .. وناموا معه وهو الغريب تحت سقف واحد ..

لماذا بقى فى هونج كونج كل هذه الأيام .. لأنها فتحت له ذراعيها وهو يهبط من الطائرة .. وخرج من المطار بعد دقيقة .. لم يشعر بأى قيد .. شعر بالحرية التى يحبها كل إنسان .. حتى الإنجليزية المكلفة بالاطلاع على ورقة التطعيم الدولية .. استقبلته بابتسامة ومرح .. كأنها تعرفه من قبل وكأنها تحبه .. ترك الجميلة .. وخرج إلى الشارع .. فوجد الجمال والنظام والعمل .. والعمل بجنون .. وهذه هى الأشياء التى يحبها .. وجد حركة المرور كلها تقف للأطفال الصغار عندما يعبرون الطريق .. هذه هى الحضارة .. حضارة الصين العظيمة منذ آلاف السنين .. برزت .. من وراء القرون ..

* * *

أى خبل لماذا لا ينام .. ؟ هل يترك عمله ويبقى فى هذه المدينة لأنه يحبها .. ولأن فيها فتاة أحبها .. أى جنون .. كيف يترك وطنه الذى رعاه وأطعمه وسقاه وشرب من مائه وتغذى من طينه ..؟ كيف يتركه .. أبدًا .. أبدًا سيعود إليه .. سيعود .. وسينام .. وفى رأسه الحب والجمال .. والسلام .. قنبلة النيترون .. لا .. هيروشيما أخرى لا .. إرهاب .. لا اختطاف طائرات .. لا .. ماذا جرى للشباب فى هذا العصر .. عصابات المافيا .. مارلون براندو .. أعظم الممثلين فى هذا العصر .. المافيا .. لا .. ولكنه مثل أعظم أدواره .. وهل بقيت المافيا بعد التمثيل أم ذهبت .. ؟ لا يدرى .. هل سكر من النبيذ وأصبح يخرف ..

أين ذهبت " ليانج شان " وتركته وحده .. فى الليل والبرد .. والظلام ..

* * *

وقبل أن ينبلج الصبح شعر بأنفاسها .. ورضاب شفتيها على شفتيه .. وشدها إليه .. وشعر بأنه يغوص فى ظلام هذا الوجود الذى لا يعرف ولا يدرك معناه .. ولا يدرى لماذا وجد فيه ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 28/12/1981 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===========================
======






سونيا الجميلة
قصة محمود البدوى

التقيت « بسونيا » لأول مرة فى بنك الصين ، وكانت فى الصف عندما خرجت من فمى على سبيل السهو بضع كلمات باللغة العربية جعلت الموظف فى حيرة ..

ولكنها ابتسمت وأزالت حيرته بأن ترجمت له الكلمات فى الحال إلى اللغة الانجليزية .. فحولت إليها وجهى فى دهشة .. لأن أول شىء خطر على بالى فى تلك اللحظة أنها مصرية ووجود المصرية فى هذه المدينة نادر الحدوث ويبعث على الدهشة .. ووددت لو أوجه إليها أول سؤال لأعرف حقيقة المسألة ، ولكننى تباطأت وكانت هى أسرع منى فخرجت على عجل من الصالة بعد أن فرغت من عملها ..

ثم رأيتها مرة أخرى واقفة على الرصيف فى « كولون » تنتظر مثلى الباخرة التى سنعبر بها الخليج إلى « هونج كونج » وكانت بصحبة رفيقة صينية فى مثل سنها ومع أننا كنا فى الطابق الأول من الباخرة .. ولكنهما خرجتا قبلى مسرعتين على الكوبرى الخشبى .. ولما استدارت لمحتها تنظر إلى ناحيتى ولا أدرى أكانت تقصدنى أم تقصد شخصا آخر ..

والتقيت بها بعد ذلك بثلاثة أيام فى « حدائق النمر بهونج كونج » وكانت برفقة نفس الشابة الصينية .. وكانتا تتبختران بين الأشجار كأجمل شابتين بين المروج وأنا وحدى أتسكع .. فرفت على ثغرها نفس الابتسامة التى رأيتها فى البنك .. وسمعت صوتها وضحكتها ثم غابتا عن بصرى ..

وفى اللقاء الرابع وجدتها أمامى فى الترام ذى الطابقين بشارع هوليود فى مدينة هونج كونج .. وكأننى عثرت على شىء عزيز كان ضائعا منى منذ سنين طويلة ووجدته فجأة ولذلك تشبثت بها بقوة .. وحادثتها على التو باللغة العربية التى لا يفهمها أحد فى الترام ولا فى المدينة .. وعرفتنى بأنها درست بقسم اللغات الشرقية بجامعة موسكو .. وزاد ذلك من سرورى ولا أدرى إحساسها فى ذلك الوقت ، ولكننى شعرت عن يقين بعد أن نزلنا من الترام وأخذنا نتهادى فى شارع « دى فو » بأنها استراحت للقائى الذى لم يكن على ميعاد .. كما استراحت لصحبتى ..

وحدثتنى بأنها قادمة من نيودلهى وستمكث عشرة أيام فى « هونج كونج » ، وتسافر منها إلى « بكين » .. وأنها تنزل الآن عند الصديقة التى رأيتها معها من قبل ..

وقلت لها أنى أنزل فى فندق « شمروك » بشارع « نثان » وأتمنى أن يكون منزل صاحبتها قريبا من الفندق لنتلاقى فى الأيام القليلة التى سنقضيها فى « هونج كونج » ..

وعبرت لها عن بالغ سرورى لأنى وجدت من يحدثنى بالعربية بعد غيبة ثلاثة أشهر عن القاهرة .. ويضاعف من هذا السرور أن تكون المتحدثة شابة جميلة ورقيقة المشاعر مثلها .. واحمر خداها لهذا الإطراء ..

ولما كانت قد جذبتنى بروحها الجميلة وملامحها الشرقية وخجلها العذرى .. فقد حرصت على ألا أجعلها تفلت من يدى بعد أن جمعتنا الأقدار لأول مرة فى صالة البنك ..

وكنا قد ملنا إلى شارع « كوين رود » دون أن نشعر مستعرضين الحوانيت كسائحين متعطشين لكل ما تقع عليه العين فى مدينة الأعاجيب التى وطئتها أقدامنا لأول مرة ..

ووقفنا عند قاعة « كافيه دى بارى » .. فعرضت عليها أن ندخل ونستريح حتى يحين موعد لقائها مع صاحبتها الصينية التى سترافقها فى جولة ..

ووافقت وأزحنا الستر ودخلنا فى مكان جميل هادئ .. وسمعنا ونحن نتقدم نحو المائدة التى اجتزناها أنغاما صينية خافتة استراحت لها حواسنا ..

وجلسنا إلى مائدة واطئة وحولنا الستر الحريرية الحمراء عليها خيوط الذهب وشعرنا بالدفء والراحة بعد تناول قليل من الطعام وشرب الشاى ..

وأخذت أحادث « سونيا » باللغة العربية الخالصة التى كنت أستثقلها فى مصر ولكننى أحببتها الآن من أجلها .. وقالت لى إنها عائدة إلى بكين ومنها ستسافر إلى موسكو .. وإنها تعد دراسة عن الحالة الاجتماعية فى جمهورية مصر العربية والهند بعد الحرب العالمية الثانية .. فهما دولتان ناميتان أخذتا فى التصنيع .. وأبدت رغبتها فى زيارة القاهرة التى تحبها وتود أن تعرف الكثير عنها .. وسرها للغاية معرفة مصرى مثلى فى « هونج كونج » ..

وقرأت فى عينيها السؤال عن السبب فى وجودى فى هونج كونج .. فقلت لها أنى كنت فى زيارة أخى الأكبر الذى يعمل فى « بانكوك » ولقربى من « هونج كونج » وكنت أسمع عنها الكثير وجدتها فرصة سانحة لزيارتها.. ومهد لى أخى المال اللازم لذلك ..

وأضفت وأنا أحدق فى وجهها الجميل ، وفى بريق عينيها الخضراوين وفى الحمرة التى علت خديها ..
ــ وما دمت قد وجدت من يحدثنى بالعربية سأظل فى « هونج كونج » إلى أن تسافرى ..
ــ ألا يوجد من يتكلم العربية هنا ؟ ..
ــ أبدا .. ان هذا نادر .. يوجد من يتحدث بها فى القنصليات العربية الموجودة فى المدينة .. ولكننى ما جئت هنا لأذهب إلى هؤلاء ..

وقالت بعذوبة :
ــ يسرنى الحديث بلغتك .. لأنى تركتها مذ غادرت موسكو ..
ثم أردفت بحماسة :
ــ وكم أنا فى شوق لزيارة القاهرة ..
فقلت لها ..
ــ يسرنى أن أستضيفك إذا ذهبت إلى هناك .. وستفرح بك والدتى وأختى .. وهى فى مثل سنك ..
ــ شكرا .. شكرا ..

وكانت تكرر هذه الكلمة كثيرا .. بالتفخيم حتى كان قلبى يضحك .. ولم أكن وأنا فى صحبتها أتصور أننى بعدت عن القاهرة شبرا واحدا .. فقد كانت تنقلنى بملامحها وطباعها إلى هناك ..

ولقد جذبتنى إليها بقوة المغناطيس .. والشابات اللواتى فى مثل سنها من الأوربيات والأمريكيات والآسويات والأفريقيات اللواتى كنت أراهن يتجولن فى شوارع « هونج كونج » فى مطلع عام 1971 كن يلبسن المينى جيب.. فى صميم الشتاء ..

أما هى فكانت تلبس جونلة تغطى الركبة وبلوزة صوفية تصل إلى العنق .. ولم يكن فى وجهها غير زينة خفيفة بل وأقطع بأنها لا تضع أحمر شفاه على الإطلاق ..

ولكم تمنيت وأنا أحدق فى ثغرها لو لمسته بشفتى وذقت حلاوته على الطبيعة ..

وكان ميعاد صاحبتها قد اقترب .. فنهضنا .. ورافقتها إلى الميناء .. ولما تقدمت إلى الشباك لأقطع لها التذكرة وثمنها لا يزيد على قرشين .. عارضتنى ورفضت بشدة .. ولكننى أخيرا تغلبت عليها ..

وقلت مازحا :
ــ أنت مصرية يا سونيا ..
ــ وهل المصريات يفعلن ذلك ..؟
ــ أجل .. لهن نفس الطباع ..
وضحكت ..

ولما رست الباخرة هبطت إليها بسرعة .. وتلفتت نحوى .. قبل أن تجلس على الدكة الخشبية .. وكنت لا أزال واقفا فى مكانى فحيتنى بيدها وقد وجدت فى هذه الحركة تحية ود جميلة ..

* * *

ومع أنها أعطتنى عنوان المنزل الذى تقيم فيه وكان فى شارع « شنغهاى » بكولون ..

ولكنى لم أجد فى نفسى الرغبة فى قرع بابها .. لتحفظها الشديد .

وتركت يوما كاملا بنهاره وليله يمضى دون لقاء .. وحدثت نفسى بأنها إذا رغبت فى لقائى .. فمن السهل عليها الاتصال بى تليفونيا ما دامت تعرف الفندق ..

ومر اليوم الثالث كله دون لقاء أيضا .. وإن كنت قد ذهبت إلى قاعة « الكافيه دى بارى » فى « هونج كونج » .. لعلى أجدها هناك ..

وفى صباح اليوم الذى يليه دق جرس التليفون فى غرفتى قبل أن أتناول الإفطار وحدثتنى موظفة الاستقبال .. أن سيدة تنتظرنى فى بهو الفندق ..
فقلت للموظفة :
ــ أعطيها رقم الغرفة لتصعد .. لأننى أتناول الإفطار ..
فقالت :
ــ لقد أعطيتها الرقم يا سيد / حسن .. ويبدو لى أنها تفضل الانتظار هنا ..
فقلت للموظفة :
ــ مس لى .. أعطيها السماعة من فضلك ..

وجاءت سونيا على الخط ..
فقلت لها :
ــ آنسة سونيا .. أرجو أن تصعدى .. فأنا لم أفطر بعد ..
ــ لا داعى لإزعاجك .. وسأنتظرك فى البهو حتى تفطر ..
ــ ولماذا تجلسين وحدك .. تعالى ..
ــ سأتحدث مع الموظفة حتى تحضر ..

ونزلت إليها قبل الإفطار وأنا مستاء قليلا من هذا التصرف .. لأنى شعرت أنها لا تثق فىّ .. ولكننى التمست لها العذر .. لأننا لم نتعارف بعد المعرفة التى توجد عندها هذه الثقة ..

* * *

ووجدتها ترتدى ثوبا بنفسجيا من الصوف .. وتغطى شعرها بإشارب وفى قدميها حذاء أسود .. وفوقه جورب وردى من النايلون جعل ساقيها أكثر جمالا وفتنة ..

وجلست بجوارها على كنبة مغطاة بحشيات من الحرير .. وأنا مأخوذ بجمالها وببشرتها الناضرة ..
وطلبت من الساقية الشاى ..
فقالت بعذوبة :
ــ لا داعى له .. سنشربه فى « هونج كونج » ..
ــ لم أفطر .. وتركت الطعام على المائدة ..
ــ سنفطر فى « هونج كونج » .. أريد أن أتسوق بعض أشياء لأخى .. ورأيت أن آخذ رأيك كرجل قبل شرائها ..

وخرجنا من الفندق بعد الساعة التاسعة صباحا . وكان الجو جميلا .. بعد مطر لم يدم طويلا .. والحركة فى الشوارع على أشدها .. وكل شىء يتحرك بسرعة ونشاط .. السيارات الصغيرة والكبيرة .. والترام ذو الطابقين .. والرجال والنساء .. كل يتحرك فى سرعة دافقة كأنه فى سباق ..

ومر بجوارنا تاكسى فاستوقفته ..
وقالت :
ــ المسافة قصيرة .. فلماذا لا نمشيها .. والجو فيه لسعة برد خفيفة أحب أن أتحرك فيها ..
ــ إننى جائع .. ولا أستطيع المشى وأنا جوعان !..

وأركبتها قبلى .. ولما جلست بجوارها أدركت أن التاكسى صغير جدا .. وأكاد ألتصق بها .. وظهر عليها الخفر ولزمنا الصمت ..

* * *

وفى الباخرة التى أقلتنا إلى « هونج كونج » جلسنا دون قصد على دكة خشبية بجوار فتاة صينية .. عرفتها بعد جلوسى وعرفتنى .. فتجاذبنا الحديث لفترة قصيرة بالإنجليزية .. فقد كانت مضيفة فى الطائرة التى نقلتنى إلى « هونج كونج » ..
ولاحظت أن وجه سونيا أحمر وأنا أحادث الفتاة ..

ولما خرجنا من الباخرة .. وأصبحنا فى شارع « دى فو » قاصدين المتجر قلت لأزيل من رأسها سوء الفهم ..
ــ الفتاة مضيفة ..
ــ مضيفة ..؟!
ــ أجل .. وركبت معها الطائرة من « بنكوك » إلى مطار « كاى تاك » ..
ــ وتتذكرك مع عشرات الأشخاص الذين كانوا فى الطائرة .. ؟ انها ذكية جدا .. !
ــ لقد سافرت معها فى رحلة أخرى .. ولهذا السبب أعتقد أن صورتى ظلت فى ذهنها .. فلقد كنت المصرى الوحيد ..
ولم تعقب سونيا .. ومشينا صامتين حتى دخلنا المتجر ..

* * *

وصعدنا على السلالم الكهربائية إلى الطابق الرابع .. فى متجر « لين كراوفورد » ووقفنا أمام فتاة صينية مليحة الوجه سوداء الشعر ترتدى معطفا أزرق ..
واستقبلتنا بالترحيب ..

وخطر لها للوهلة الأولى أن سونيا زوجتى .. فأخذت تحادثها على هذا النحو .. وقدمت لها أجمل ما عندها من القمصان .. الأرو .. والنايلون .. والبلوزات .. والكرافتات الحريرية ..

ولما انتقلنا إلى قسم الجوارب .. رافقتنا .. لتدلنا على الطريق وتقدمنا إلى الفتاة المختصة وهى تنحنى فى رقة أذهلتنى ..

ولقد اشتهيت هذه الفتاة بكل مفاتن جسمها اللدن .. وكل العذوبة والرقة والاشتهاء الصامت الذى وجدته فى عينيها ..

واشتريت أشياء كثيرة بأقل الأسعار إكراما لها .. كما اشترت سونيا ..

ولما أصبحت الربطة كبيرة .. فضلت البائعة أن يرسلها المحل على عنواننا حتى لا نتعب فى حملها ..

فسألت سونيا بالعربية :
ــ هل نرسلها على عنوان صاحبتك .. ؟
ــ اجعلها على عنوانك فى الفندق .. لأنه أقرب ..
وفعلا كتبت عنوانى ..

وبارحنا المتجر والساعة تشير إلى الحادية عشرة .. وكان أمامنا وقت طويل للتنزه قبل ساعة الغداء ..

فمشينا فى شارع « كورواى بيى » نتسكع كما اتفق .. واستلفت نظرى صورة كبيرة « للولو بريجيدا » على باب سينما « كابيتال » أغرتنا على أن ندخل السينما ونشاهد الفيلم وكنا لم نر فيلما إيطاليا من مدة طويلة ..

وكان البلكون فى الدور الثانى فصعدنا سلالم خشبية مغطاة بالسجاد .. وخيل إلينا والعامل يدلنا على مكان جلوسنا فى الظلام أن الصالة خالية من الرواد ..

وجلسنا نحدق فى الشاشة .. وكانت بعيدة جدا .. والسينما مع أنها فخمة وأنيقة .. لكننا شعرنا فيها بالوحشة .. لشدة الظلام ورهبته ولأن المقاعد التى حولنا وأمامنا بدت خالية تماما وغمرنا الإحساس المشترك بعد دقيقة واحدة من دخولنا إلى السينما أنها تشتغل لنا وحدنا ..

وكانت « لولو بريجيدا » .. قد نهضت من فراشها فى هذه اللحظة تتثاءب وهى فى قميص من الدانتلا الأسود يكشف كل مفاتن جسمها العاجى .. ويزيد من حلاوته .. ومرت علينا فى هذه الجلسة الشاحبة عشرون دقيقة وأكثر .. ونحن لم نتبادل كلمة واحدة .. ولم أجرؤ فى خلالها على لمس يدها .. بعد أن وجدتها جالسة كالمتخشبة على المقعد ..

وملت عليها أحدق فى عينيها ، وأقول بصوت خافت فيه الكثير من عواطف القلب .. محاولا بذلك أن أحرك رمادها البارد ..
ــ أتشعرين بالبرد .. يا سونيا ..؟
ــ أبدا .. التكييف يعمل بحرارة ..
ــ هل أعجبك الفيلم ..؟
ــ رائع .. ولكن يبدو أنه بدأ من مدة ..
ــ سنبقى حتى نراه من أوله .. فالعرض مستمر ..
ــ هذا أحسن ..
وأمسكت بيدها .. بعد هذا الحديث .. ولمستها برقة ..
فأبقتها فى يدى لحظات ثم سحبتها ..

* * *

وشعرت من هذه الحركة ببرودة شديدة .. وتجمد فى ألياف لحمى .. ودمى .. حتى وإن كنت أتوقعها منها .. ثم تمالكت نفسى .. ولم أر ما يدعو لأن أعكر صفو الجلسة .. والرواية جميلة والممثلون يهزون المشاعر .. وخرجنا من السينما والساعة قد تجاوزت الثالثة ظهرا ..

* * *

وكنت فى حالة اكتئاب لم أستطع أن أخفيها ولذلك سرنا فى الشوارع كزوجين مضى على زواجهما عشرات السنين فأصبحا خامدين صامتين .. لا تحركهما حتى الأعاصير ..

فقد كنت أتوق بحرارة الشباب وطبعه إلى لمس يديها وشفتيها .. ولكنها قابلت كل ذلك بحماقة .. جعلتنى أتبلد ..

ثم بعد ساعة تأججت عواطفى من جديد ونسيت حماقتها فى السينما .. وغفرت لها هذا التحفظ ..

* * *

وأصبحت فى كل ساعة تمر أزداد حبا لها وتعلقا بها .. فقد جذبتنى بكيانها كله وروحها العذبة .. جذبتنى بشىء خفى لا أستطيع تحديده .. فكنت أحس بضربات قلبى كلما أهلت علىّ بوجهها أو سمعت صوتها .. أو حتى سمعت من بعيد موقع أقدامها على درجات الفندق ..

ولم أستطع تعليل هذا الحب الجنونى .. ولقد شغلتنى بشمول كامل فى مدى أربعة أيام فقط عن النساء جميعا .. فأصبحت متعففا إلى درجة كبيرة ..

وعجبت لنفسى .. وقد كان غرضى الأول من زيارة « هونج كونج » أن أغوص فى قلب المدينة وأختلط بكل أجناس النساء .. وأبدأ بالإنجليزيات وكن يتعالين علينا فى مصر بسبب الاستعمار الطويل .. أما هنا فنظرتهن تختلف تماما ..

وفكرت أن ألتقى بواحدة منهن على التو لأحقق رغبة دفينة .. ولكن سونيا .. غيرت مجرى سيرى وحياتى .. واستولت على روحى وجسمى .. تملكتنى تماما .. ولم أستطع إلى هذه اللحظة الفكاك منها ..

كانت فيها قوة خفية للأسر .. الأشياء التى كانت تنفرنى منها كانت هى التى تقربنى إليها .. خفرها الشديد .. وهدوؤها ..واحتشامها .. جعلتها فتاة غير فتيات العصر ..

* * *

وفاتنى ميعاد الغداء فى الفندق بسبب السينما .. فتغدينا معا فى « هونج كونج » ثم ركبنا الباخرة إلى « كولون » وكانت الساعة تقترب من الرابعة .. والجو فيه غيوم خفيفة ولسعة برد .. ولكنه محتمل .. ورأينا أن نتمشى إلى بيتها ..
وعلى الباب ودعتها .. وأنا أقول :
ــ ستأتين فى المساء .. لأخذ حاجتك .. لابد أنها وصلت الآن ..
ــ سأتلفن لك ... قبل السابعة .. وأحب أن نتجول معا فى « كولون » ..
وحييتها وانصرفت وأنا شاعر بالفرح ..

* * *

ووصلت إلى الفندق فى الفترة التى تنقطع فيها المياه عن المدينة .. فاستلقيت على الفراش أقلب صحيفة محلية تصدر باللغة الإنجليزية .. حتى تعود المياه إلى مجاريها .. وكانت صورة « سونيا » تحتل كل صفحة .. فألقيت الصحيفة من يدى .. وأخذت أرتب الغرفة .. وأمسح على الكرسى الطويل الذى ستجلس عليه .. وأرتب المنضدة الصغيرة .. وأرخى ستر النافذة وأخفضه ..

وكانت الغرفة صغيرة ولكنها جميلة وأنيقة وتطل على الشارع .. فوقفت بجوار النافذة أرقب حركة المرور فى المدينة الساحرة ..

كان المارة حتى فى « كولون » وهى ليست مزدحمة بالسكان « كهونج كونج » يتحركون فى سرعة شديدة .. كأنما هناك من يلهب حواسهم إلى النشاط والحركة السريعة ..

وكانت المدينة التجارية الصغيرة يتدفق فيها فى هذه الساعة أجناس من كل ألوان البشر .. وسيارات التاكسى الصغيرة تمرق كالسهام .. وعربات الترام من طابقين أنيقة ونظيفة .. وتتوقف تماما للأطفال الخارجين من المدارس .. فى غير المحطات وغير أماكن المرور ..

والصينيات الجميلات فى الجونلة المشقوقة عند الفخذين يتحركن بجانب الأوربيات والأمريكيات اللواتى يلبسن المينى جيب .. والبنطلونات .. وهذا الخليط من النساء وفيهن السمراء والشقراء .. والطويلة والقصيرة .. وذات الدل .. هذا الخليط يشوقنى ..ويلهب الحواس .. ولكنى تركته ..

وأحسست بعودة المياه .. فأسرعت إلى الحمام .. لأنتهى منه بسرعة خشية أن يدق التليفون .. وأنا بداخله ..

ولمحت وأنا خارج من الحمام فى الطرقة الخلفية خادم الفندق يحمل حقيبة ويتقدم سيدة شقراء طويلة القوام ترتدى فستانا رماديا من قطعة واحدة .. وتمهلت فى سيرى حتى عرفت رقم الغرفة التى نزلت فيها ..

ولما أدار الخادم أمامها مفتاح الباب .. ووقفت تنتظره لمحت آلة تصوير معلقة فى كتفها .. وخمنت بأنها سائحة أوربية وحدها ..

* * *

وفى الساعة السابعة دقت « سونيا » جرس التليفون .. فسألتها :
ــ من أين تتحدثين يا سونيا ..؟
ــ من تحت ..
ــ اصعدى .. أنا فى انتظارك ..
ــ سأصعد ..
وأعطيتها رقم الغرفة ..

وجاءت تتهادى كالعروس .. ولم أشعر بفرحة فى حياتى كما شعرت فى هذه الساعة .. ولما جلست على الكرسى الطويل المريح الذى أعددته لها .. خرست وأنا أنظر إلى جمالها كله .. محصورا فى أربعة جدران .. فى غرفة صغيرة .. انعقد لسانى ثم حلت عقدته .. وأخذت أهضب فى الحديث وأسح .. وهى صامتة مبتسمة .. والتى كانت من قبل هى المتحدثة وحدها صمتت الآن لتسمعنى ..

ولما أخذت الربطة .. لأخرج أشياءها .. قالت وقد تكسر خداها وأصبحا بلون العناب ..
ــ ابقها .. الآن .. فإنى أحب أن أشاهد « كولون » فى الليل وأنت معى ..

وتجولنا أكثر من ساعة فى المدينة .. ثم دخلنا ملهى « امبريال » ولاحظت أنها فى شوق إلى مشاهدة هذه الأشياء لأنها غير موجودة فى بلادها .. وتود فى فترة وجودها فى « هونج كونج » أن تشبع منها .. وتحس بالاكتفاء ..

وكانت الصالة خافتة الضوء .. وشاحبة وممتلئة بالرواد .. من السائحين وهم الغالبية واخترنا ركنا .. أكثر ظلاما من كل جوانب الصالة .. ولا أدرى من منا الذى كان يريد أن يتخفى عن الأنظار ..
وطلبنا نبيذا أحمر .. ولم نشرب كثيرا مراعاة لحالتها ..

وبدأت على خشبة المسرح عروض مختلفة من الغناء والرقص الصينى .. والأوربى ..

ثم بدأ عرض التجرد من الملابس من فتيات جميلات القوام ومنهن الصينيات أيضا ..

ولاحظت الخجل الشديد على وجه « سونيا » ولكنها لم تحول نظرها عن هذه المشاهد .. استمتعت بها كلها ..

وتلاقى فى الشوارع الصينى والهندى .. واليمنى .. والباكستانى .. والأرمنى .. واليونانى .. والإنجليزى والأمريكى ..

والصينى الذى يعيش ويموت فى الماء .. والذى يسكن الأكواخ الحقيرة القذرة فى « أبردين » ..

ثم المستعمر الذى يسكن القصور الفخمة على الخليج .. ويملك اليخوت للنزهة والمتعة ..

ومع كل هذا الخليط البشرى من مجتمعات كل البشر فى مدينة الأعاجيب دون تناسق أو رباط .. فإنك تشعر بالراحة عندما تضع قدمك فى المدينة وتتنفس هواءها .. ولا تدرى السبب على التحقيق ففيها جاذبية غامضة وحرية يستريح لها كل سائح وهو يتداول النقد فى أى مكان .. وأول ما يطالعك فى الميناء هو ابتسامة مشرقة وترحيب رقيق من فتيات إنجليزيات يلبسن المعاطف البيضاء .. وقفن وراء المنصة كأنهن ملكات الجمال يفحصن فى سرعة ودلال بطاقتك الصحية ..

وتوغلنا فى قلب مدينة « هونج كونج » وأصبحنا فى الحى الصينى الخالص بلافتاته الكبيرة المتشابكة ودكاكينه الصغيرة .. وحواريه الضيقة .. نشم رائحة الأطعمة الصينية من بعيد قبل أن نشاهد دخان المطاعم .. ونرى الأطعمة معروضة فى صحاف كبيرة وراء الزجاج فيسيل لها اللعاب ..

والصينيات فى المرايل البيضاء والزرقاء بوجوههن الصفراء والمستديرة وعيونهن المشروطة ورؤوسهن المعصوبة بالمناديل .. فى استقبالنا للخدمة ..

* * *

وقضينا نهارا جميلا أنا وسونيا فى الهضبة وأشرفنا من أعلى مكان فى المدينة على الجزيرة كلها بروابيها ومروجها الخضراء ..وخلجانها .. ورأينا أجمل المناظر الطبيعية على الإطلاق ..

وكانت « سونيا » متفتحة وشاعرة بالجمال كله .. وتتشرب روحها وجسمها من الأنفاس المتعطرة المحيطة بنا ..

وبرزت فى هذه اللحظة .. بجمالها كله .. وهى معتمدة على السياج الحديدى .. ومتجهة بعينيها نحو الشرق .. ولقد أسرنى قوامها فوددت لو أقبلها وأعتصر عودها ولكننى وجدت دافعا قويا يردنى عن ذلك ..

ثم ركبنا عربة « الركشة » وجلسنا متجاورين فى هذا الحيز الضيق .. وأخذ الشاب الذى يجرها يبتسم لنا فى مرح وتبرق أسنانه الذهبية .. وهو يسير بنا الهوينا ثم يسرع ثم يعود فيتمهل لنأخذ حظنا مما حولنا من جمال ونستمتع بالرحلة إلى مداها ..

* * *

وبعد أن نزلنا من الهضبة .. أخذنا نفكر فى نزهة أخرى ثم رأينا أن نتغدى فى السفينة العائمة لأنها كانت تسمع عنها وفى لهفة إلى رؤيتها ..

وحملتنا فتاة صينية ناضرة فى زورقها الصغير إلى السفينة ..

وجلسنا إلى مائدة نأكل السمك الطازج .. ونستمتع بكل ما حولنا من جمال البحر وكانت الشمس تذهب وتجىء ..

وشاهدنا زوارق أولئك المساكين الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسألتنى سونيا وهى تتجه بوجهها إلى ناحيتهم :
ــ أتعجبهم هذه الحياة ..؟
ــ لا أظن .. من يرضى بهذه الحياة الدون ..
ــ ولماذا لا يغيرونها ..؟
ــ ما أحسبهم يستطيعون ذلك .. فالفقر يعصرهم بقوة ، والحياة الرتيبة تشدهم إلى هذه الزوارق .. وهى بمثابة قبور لهم .. من اللحظة التى يولدون فيها .. يجدون هذه الرموس أمامهم وكأنها مصيرهم الأبدى ..
ــ إذا أرادوا التغيير .. يمكن أن يتغيروا ..
ــ لقد استطابوا هذه الحياة الضحلة .. ورضوا بهذا الهوان .. وما أحسب أن لهم إرادة على الإطلاق ..

وكانت الشمس تجنح للغروب عندما غادرنا السفينة .. وقد نقلتنا نفس الملاحة الصينية وقد أجزلت لها العطاء إكراما .. لطفلين لها كانا ممدين فى بطن الزورق شاحبين كالموتى ..

ووصلنا الفندق فى الليل .. وكانت الرحلة طويلة من « أبردين » إلى « كولون » فأحسسنا بالتعب معا ..

وجلست سونيا فى حجرتى تستريح وأنا قبالها .. أملأ عينى من حسنها كله .. وخلعت معطفها وحذاءها .. واسترخت .. فقلت لها برقة ..
ــ هل تنامين قليلا .. يا سونيا ..؟
ــ شكرا .. سأغلق عينى وأنا جالسة .. وأكتفى بهذا ..

وجاء الشاى فرشفته بقليل من السكر .. وانتعشت بعد لحظات قليلة .. ثم دخلت دورة المياه .. ولما عادت وجدتنى أغسل وجههى فى الحوض الذى فى الغرفة ..
وقلت لها وأنا أجفف شعرى :
ــ بللى وجههك بالماء الدافئ ..
ــ سأفعل ..
وغسلت وجهها .. وجففته جيدا وكأنها تدلكه ..

ثم وقفت أمام المرآة تمشط شعرها الأبنوسى الطويل الشديد البريق أجمل شعر رأيته على رأس حسناء ..

ولما استدارت عن المرآة وجدتنى أقف أمامها .. كالمأخوذ بكل هذه الفتنة وضممتها أخيرا إلى صدرى ..

وطوقتها وقبلتها فى شفتيها وعينيها وجيدها .. ثم نزلت إلى صدرها .. ودفنت فيه رأسى ..

ولا أدرى كم مضى من الوقت وهى واقفة ساكنة .. ولقد أحسست سكونها .. كأنها تروضنى .. ثم ذاب جليدها .. فطوقتنى .. ورفعت رأسى عن صدرها .. وقبلتنى قبلة سريعة ولكننى أحسست بحرارتها وحلاوتها .. وخلصت نفسها من عناقى .. وبحركة أغضبتنى ..
وجلست تسوى هندامها .. وشعرها .. بيديها ..

ووقفت أحدق فيها كالذى انتزع منه فجأة شىء يحرص عليه وعاش السنين كلها له ..

وبعد دقيقة من الذهول .. أمسكت بيدها لأنهضها .. فقالت بصوت أخرس :
ــ أين الربطة ..؟
ــ فأحسست بالبرودة تسرى فى دمى كله .. وتناولت أشياءها من الدولاب ووضعتها أمامها على النضد ..

ولبست معطفها وحملت أشياءها .. وأحسست بكل الخيوط وقد انقطعت فجأة بحد السكين وأوقفت لها « تاكسى » على باب الفندق وأركبتها فيه .. دون أن نتبادل كلمة ..

* * *

وبعد ذهابها .. شعرت بكآبة شديدة ووجدت نفسى أمضى فى الشوارع على غير هدى ثم أعبر الخليج إلى « هونج كونج » .. وأدخل الملاهى المثيرة .. وكنت أعرض نفسى فى سبيل المغامرة واكتشاف الأشياء المخبوءة إلى النشل والضرب حتى الموت ..

وفى « سنترال رود » وكانت الساعة تقترب من منتصف الليل والطريق ساكنا رأيت من بعيد شحاذا يطارد سيدة .. ويضايقها بإلحاحه ولما سمعت السيدة خطواتى وراءها توقفت .. ولما اقتربت منها وجدتها جارتى فى الفندق..
فقلت لها بالإنجليزية :
ــ ما الذى جرى ..؟
ــ إنه يضايقنى .. وقد أعطيته نصف دولار .. ولكنه ظل يلاحقنى وأخاف على آلة التصوير ..
ــ لا تخافى .. إنه لا يسبب لك أى أذى ..

واستدار الشحاذ وبعد عنا وهو يبتسم فى خبث وأسنانه الذهبية تلمع فى الظلام ..

ولما اطمأنت لوجودى بجانبها سألتها :
ــ ولماذا تسيرين وحدك هنا .. فى هذا الليل ..؟
ــ كنت أصور سوق الخضار .. وهم يغسلونه فى الليل .. منظر ممتع ..
ــ لو كان معى آلة تصوير لفعلت مثلك ..
ــ حقا ..؟
ــ حقا ..
وضحكت ..
ــ إذن سأعطيك صورة ..
ــ شكرا .. ستكون أجمل تذكار ..
ورافقت « كارولين » إلى الفندق ..

وفى الصباح التالى تلاقينا فى البهو .. كأننا كنا على ميعاد .. وخرجنا إلى المدينة وقضينا النهار بطوله وجزءا من الليل معا .. ذهبنا إلى كل مكان ترغب أن تراه .. وكل ملهى ..

وفى اليوم التالى ذهبنا إلى « لوو » وعدنا بعد منتصف الليل إلى الفندق .. ونامت فى فراشى نصف عارية مشبوبة بكل أنوثتها ..

إنها ألمانية .. وتزوجت ثلاث مرات وفشلت فى المرات الثلاث .. وتعمل صحفية .. ومراسلة لمجلة ألمانية مشهورة .. وقادمة من نيودلهى .. ومسافرة فى الغد .. إلى طوكيو ..
وتجاوزت الخامسة والثلاثين .. ولكن فيها حرارة بنت العشرين .. وأحببتها .. وأخذت ألمس شعرها .. وأضغط على شفتيها .. وأمزج عرقى بعرقها .. ودمى بدمها ..

وسألتنى :
ــ أمتزوج ..؟
ــ أجل ..
ــ وأين هى الآن ..؟
ــ فى الإسكندرية ..
ــ وجميلة ..؟
ــ جدا ..
ــ ولماذا تخونها ..؟
ــ لأنى أحبها ..
فضحكت ..
ــ أتكرهها ..؟
ــ إننى كلما اقتربت منها تتثاءب ..
ــ وأنا ..؟
ــ أنت مشبوبة العاطفة ..
ــ وأحببتنى ..
ــ بالطبع ..
ــ وتشعر بالسعادة .؟
ــ إلى أقصى غاية ..
ــ وستكتب لى .؟
ــ أجل .. من كل مكان أنزل فيه ..
واحتضنتها ..

* * *

وفى بكورة الصباح الضبابى الخفيف .. كانت نائمة بين ذراعى وشعرها الأشقر المتهدل يغطى الجبين .. فأمسكت بشعرات صغيرة ولمست بها شفتها السفلى مدغدغا .. فى نعومة ..

وفتحت عينيها .. على قبلاتى المحمومة .. وشدتنى إليها فى نشوة .. لم تكن كأية امرأة عرفتها .. كانت رائعة .. كأنما اجتمعت فيها كل خصائص الأنثى منذ حواء ..

وتذكرت وأنا أضغط على شفتيها ما قاله « بيرون » ليت النساء جميعا اجتمعن فى ثغرها فقبلته واسترحت ..
وقبلته .. وقبلته .. ولكننى لم أسترح ..

وشعرت بأصابعها تتحس فى نعومة كتفى وعنقى وصدرى .. كل شىء حولى كان جميلا وبلون العسل المصفى ..

وقبل الشروق بدأ المطر يتساقط وأخذت ريح خفيفة تهب وجعلت الشجر يتمايل ..

وكانت « كارولين » مستلقية فى قميص حريرى مغمضة عينيها .. كأنها تحلم .. ثم فتحت عينيها ونهضت فى تثاقل .. وقبلتنى وهزتنى فى مرح ..
ــ حسن .. إنى ذاهبة ..

ولبست ثيابها بسرعة دون زينة .. لتكمل زينتها فى غرفتها
وعلى الباب احتضنتها وقبلتها بقوة دون أن أعبأ بشىء ..

ولما رفعت رأسى عنها وجدت « سونيا » قادمة فى الطرقة متجهة إلى غرفتى ..

ولما شاهدتنا صدمها المنظر .. وتراجعت مضطربة .. وارتدت مسرعة إلى السلم ..

وسمعت وقع خطواتها .. وأنا أعصر قلبى ..
================================
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد مايو 1971 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
======================================


حانة البحار السبعة
قصة محمود البدوى

تقع حانة البحار السبعة فى أجمل مكان على هضبة هونج كونج ..حيث التلال الزمردية وشجر الورد والتفاح والدردار .. وحيث أجمل ما خطت يد الطبيعة على وجه البسيطة ..

وكانت منحوتة فى جوف الصخر ومتخذة شكل التنين .. وتغطيها وتحيط بها الأشجار والأزهار .. وتدور بها طرق سوداء ملتوية كأنها طرق الحيات .. ولا يدرى أحد من أين جاءتها هذه التسمية وهى بعيدة عن البحر وعن الميناء .. ولا يدخلها بحار وندر أن تعرف مكانها بغير دليل ..

ولكن هونج كونج مدينة العجائب .. وحيث توجد أبردين .. ويوجد مائة ألف صينى يعيشون ويموتون فى الماء .. من الفقر والجوع فى زوارق فى حجم الذراع يوجد فى الجانب المقابل عشرات فقط من الأسر الإنجليزية الغنية على تخوم استانلى .. وتوجد الفيللات الأنيقة منثورة كالدر على صدر الهضبة .. ويوجد ألف متشرد ومتسول على أرصفة شستررود .. وكوين رود .. ودى فورود .. ويوجد ألف سائق لعربة يجرها الإنسان ..

ويوجد حشد عديم النظير يتحرك فى الشوارع حيث المتاجر والحوانيت الصغيرة والكبيرة فى قلب المدينة حيث السوق المفتوحة التى لا تخضع لأى قيود على الإطلاق ولا يوجد لها ضريب ..

وعندما تغلق الحوانيت والمتاجر تسطع أنوار الملاهى والحانات فى ليل هونج كونج الطويل ويظل الصخب والرقص فى مراقص من كل الأنواع تتخذ طابع البلاد المختلفة وفيها فتيات جميلات من الرقيق من كل أجناس الأرض .. يعشن حياة تعيسة .. ويذبل جمالهن قبل الأوان .. كما تذبل الزهور الناعمة تظل هذه المراقص المتخذة طابع المراقص الصينية والهندية والباريسية والتركية ... كما تسمع نقر الدف .. وصوت الجاز .. تظل صاخبة إلى الصباح ..

ولكن حانة البحار السبعة كانت تختلف عن كل الحانات .. فهى هادئة فوق الربوة .. بعيدا عن صخب المدينة وكأنما أوجدتها الطبيعة فى هذا المكان .. لينعم بها الشعراء والفنانون .. وتصعد إليها التل فى طريق لولبى وتدخل من باب معرش ثم تدفع بابا آخر سحريا وتهبط ثلاث درجات .. إلى قاعة واسعة منخفضة السقف سميكة الجدران تتفرع منها ثلاث قاعات مستطيلة فى مثل جمال الأولى ..

وفى القاعة الرئيسية بار نصف دائرى .. وعليه يقف كبير السقاة تشن .. بقامته المنتصبة ووجهه البيضى .. وقد لبس صدارا أحمر .. وسروالا .. من نفس اللون .. وراح يحملق بعينين مضمومتين فى القاعة الساكنة وفى ربة الحانة مدام يات وهى سيدة بدينة سمينة الخدين فى الأربعين من عمرها ترتدى ثوبا أسود يصل إلى العنق .. وتنفق كل وقتها وهى جالسة هادئة لا تتحرك أمام البنك ..
ولكن عينيها لا تغفلان لحظة عن الزبائن والسقاة ..

وكانت جدران الحانة مزينة بالنقوش والزخارف الصينية وعلى صدر المنصة صورة لتنين هائل .. وعلى الرفوف الجانبية التماثيل الخزفية وأصداف المحار وصور زيتية رائعة لمعبد بوذى .. وتمثال دقيق الصنع لبوذا نفسه ..

وكان على أديم الأرض بساط أحمر يغوص فى سمكه القدم والمناضد .. والكراسى مكسوة بالقطيفة الحمراء أيضا وبلورات المصابيح مكسوة بالحرير الطبيعى فى لون العناب ..

وفى الصدر المواجه للمدخل صورة كبيرة لقرصان ضخم .. يحمل فتاة عارية بين ذراعيه .. ويسير بها على جسر السفينة .. متجها إلى المقصورة ..

وكان فى الحانة ثلاث فتيات من السقاة .. صينيات ناعمات البشرة صفراوات ولم يكن دميمات ولا جميلات .. ولكن مودتهن .. وابتساماتهن وثوبهن المشقوق عن الفخذين كان يرضى الزبائن ..

وفى الطرف الجانبى من القاعة باب صغير يؤدى إلى ممر متعرج يفضى إلى غرفة معتمة محجوبة عن الأنظار بستائر من المخمل ..
ووضعت على أرضها الحشيات اللينة من الريش والوسائد الناعمة ..

وفى هذه القاعة السحرية الخفيفة الضوء التى يحوم فى جوها البخور يدخن الرواد الأفيون فى صمت عميق ويستمعون إلى الموسيقى الهادئة ..

وكانت ربة الحانة ترعى هذا المكان السحرى بقلبها وعينيها .. وهى جالسة أمام البنك .. وترقب فى الوقت نفسه الفتيات يغسلن الأكواب .. ويمسحن الصحون بالمناشف ..

وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا .. وقد فتحت أبواب البنوك الكبيرة والمتاجر وبيوت المال فى هونج كونج .. وعادت الأقدام السريعة للرجال والنساء تهبط الكوبرى بعد أن تخرج من السفن القادمة من « كولون » .. وتتجه إلى قلب المدينة ..

وتحركت عربات الركشا الواقفة فى انتظارهم لتنقلهم إلى السوق داخل المدينة وإلى نزهة خلوية فى الضواحى وفى جولة على الربوة ..
وكان « لو » يقف بعربته الركشا على الجسر الثالث هناك فى مرسى البواخر يرقب الخارجين من السفن عن كثب .. ثم يحرك الركشا فى تؤدة إلى أن يجد الزبون فيدور به فى جولات سريعة فى شوارع كوين رود وشستر رود ..

وفى خلال جولاته يحادث الراكب بإنجليزية سليمة ليعرف وجهته ثم ينطلق به أخيرا .. إلى حانة البحار السبعة ..

وكان من طبع « لو » أن يجتذب الزبائن الذين يسعون وراء الأشياء الغريبة أو الذين يعذبهم الفضول ليكتشفوا الجديد .. أو الذين يحبون أن يشتموا رائحة العنبر .. وكل ما اشتهر به الشرق العجيب ..

وكان قد حمل إلى المكان عجوزا أوربيا فى نحو السبعين من عمره يدعى سميث قضى زمنا طويلا متنقلا فى البحار ثم جاء إلى هونج كونج ليعيش على هواه فى أحد فنادقها وكان يقضى النهار والليل فى الحانة ولا يكف عن الشراب وتدخين الأفيون ..

وكان قد شعر بوطأة الوحدة فى شيخوخته .. فأخذت الفتيات يؤنسن وحدته بالحديث والغناء والضرب على القيثارة وصاحبة الحان تدرك حاله كعازب فرغ من حياته .. وتخصه بعطفها ..

ولكن نظرته مع كل ما يحيط به من نساء وبهجة ظلت حزينة ..

وكان يخاف ويعاوده الخوف من الموت ويود أن يتزوج من صبية شرقية .. صينية أو يابانية أو هندية .. قبل أن ينفد أجله ..

* * *

وكانت الشمس قد أرسلت شعاعها الأصفر .. من خلال أوراق الأشجار .. ولكن سميث فى قبوه لم يكن يبصر شعاعها أبدا ..

وتهدج صوته وهو يقول للساقية :
ــ هل من سبيل يغنى عن الأفيون .. هل تتزوجيننى .. ياحلوة .. وسأجعل قلائد العقيق والماس والزمرد تغطى هذا الصدر الجميل ..
ثم بعد عشر دقائق كان يغط فى النوم على الأريكة ..

وسمع صياحا وجلبة فاستيقظ وكان ثلاثة من البحارة قد نفذوا إلى المكان وهم سكارى فجلسوا يشربون ويغنون .. ويجذبون إليهم الفتيات ليرقصن معهم .. ولم تكن من عادة البحارة أن يأتوا إلى هذا المكان أبدا ولم تكن ربة الحانة تحب وجودهم .. لأنهم يثيرون العراك والصخب .. والعراك يستدعى تدخل البوليس وهى لا تحب أن يدخل البوليس المكان .. وتود أن تظل الحانة على مستوى عال للخاصة والقلة المختارة من السائحين التى تعشق الهدوء قبل أى شىء آخر ..
واحتارت ماذا تفعل ..؟
وكان تشن يود أن يتدخل ولكنها منعته .. وظل فى مكانه ..

ورأى مستر سميث الحمرة على وجهها وكان قد خرج إلى القاعة على صوت البحارة فتقدم إليهم ليهدئهم بإنجليزيته الناعمة .. ولكنهم ازدادوا هياجا .. وأمسكوا به ليضربوه ..

وفى اللحظة التى تصور معها الرواد أن سقف الحانة سيسقط عليهم .. دخل « لو » .. وأمسك بالبحارة الثلاثة وقذف بهم إلى الخارج وهناك أوسعهم ضربا وبدت قوته كمارد جبار .. وهو يصارع الثلاثة ويطاردهم وأخيرا فروا مذعورين .. وكانت ربة الحانة تتوقع عودة البحارة الذين ضربوا ومعهم بحارة السفينة جميعا .. بعد ساعة على الأكثر لينضموا لرفاقهم ..

ولهذا طلبت من لو .. أن يبقى فظل قريبا من المكان .. ومنذ تلك اللحظة أصبح قريبا من قلبها .. وخصصت له القبو لينام فيه ..

* * *

وأسدلت الستائر المخملية على المكان كله وأطلق البخور وأضيئت المصابيح الصينية كأنها قناديل من الزيت فى صحائف من الدر .. وكان ضوؤها يضفى على المكان جوا من السحر الحالم وبرزت للمشاهد من وراء الطاقات الصغيرة أشجار السرو والتين والبرقوق .. وتجلت غصونها المتموجة فى ضوء الشمس الباهر ..

ووفد على المكان بعض من السائحين والسائحات وابتدأت الموسيقى تعزف ألحانا راقصة ..

وخرج الراقصون والرقصات إلى باحة مسقوفة بأوراق الشجر .. ودار الرقص .. وظلت الموسيقى تصدح بالأنغام الشجية .. وكأنها تنوح على ما حاق بالإنسان .. من عذاب عبر القرون ..

واختلطت رائحة العطر .. برائحة التبغ والبخور .. والأفيون وذلك الأريج المنبعث من الحديقة ..
ولم يحول سميث عينيه عن عين فتاة بيضاء جميلة أطلقت العنان لساقيها .. وكانت تضع ذراعها على كتف مرافقها وتنثنى فى رشاقة وهى ترقص ..

وكان يلمح أحيانا طرف قميصها التحتى وهى تتطاير من دورانها السريع .. واختلطت الأحاديث والضحكات بالأقدام .. فى المرقص ..
وكانت الساعة قد أشرفت على الواحدة بعد الظهر ..

وبدأت قاعة الرقص تموج بالراقصين قبل فترة الغداء وأخذت الفرقة الصينية تعزف موسيقى صينية خفيفة ..

وكان العازفون الثلاثة فى قمصانهم الحمراء الزاهية الواسعة الأكمام وعلى رءوسهم الطواقى الحمراء بالزيق الأبيض والأصفر ..
وينتثى الزبائن بما شربوا من الخمر .. وتحمر وجوههم ..

ولكن ما من واحد منهم يتحرك من مكانه .. وكان الهدوء يخيم على المكان .. والبخور والسحر الصينى وجو القاعة كله يجعلهم يجلسون ذاهلين عن أنفسهم ..

وساعات النهار التى تعقب فترة الغداء كانت تمر بطيئة متثاقلة وكانت ربة الحانة تغفو فى خلالها ساعة واحدة .. ثم تشير برأسها إلى الفتيات فيتحركن .. ويأخذن فى مسح الأوانى والأكواب والصحون وتلميع كل شىء .. ووضع الزهريات الخزفية فى مكانها .. وهصر الستر .. وادخال الشعاع السحرى فى عينى التنين ..

وكانت شمس أكتوبر الحارة يعقبها المطر الخفيف فى كثير من الحالات ولكن رواد الحانة كانوا لا يحسون بشىء من هذا كله . ففى هذا القبو المظلم .. المنقطع عن الحياة .. توجد دنيا أخرى بهيجة وحالمة ..

وخلال الوجبات .. كانت تقدم الأكلات الصينية .. الشوربة وفيها تسبح الكرشة .. ولحم الطيور والسمك والمحار .. والأوز .. المخلوط بلحم العجول .. ثم البط القادم من بكين ..
وفى خفة ورشاقة تروح الفتيات ويجئن حاملات الصحون .. وسيقانهن العارية تبدو من خلال ثيابهن المشقوقة من الجانبين كأنها تطلب المزيد من الحرية ..

ثم تتحرك فتاة وحيدة وتدور على الموائد حاملة على صدرها صندوق السجائر .. وتنادى بصوت رخيم ..
ــ سجائر .. شكولاتة ..

فإذا أشار اليها أحد الرواد .. انحنت عليه برأسها وقربت شفتيها لتلقط ما يقول ..
وتحرك يدا رخصة وتخرج علبة أنيقة مغلقة ..

ويلقى إليها بالدولارات من غير حساب فتنحنى عدة مرات وهى باسمة .. ثم تتحول إلى مائدة أخرى ..

وفى خلال الفترة التى بعد الظهيرة .. كان يهوم شىء أشبه بالنعاس على الحانة ..

وكان « لو » يريح الركشا تحت ظل الأشجار .. ويدخل الحانة ليشرب كأسا .. ويجلس إلى منضدة كأنها أعدت له وحده ولم يكن غيره يقربها ..

وكانت الفتاة تضع له الكأس صامتة دون أن تتحرك شفتاها بحرف .. ويرفعه فى جرعة واحدة .. وهو يرمق المدام صاحبة البار بعينين نديتين .. ويسترخى مرسلا بصره إلى السقف .. والى الرسومات على الجدران ..

والساقية تقطع عليه أحلامه مرة أخرى وتضع أمامه صحنا من الأرز المخلوط بلحم البقر .. فيحرك العصوين .. فى الحال .. وتبرز طباع الصينى الأصيل فى هذه الأكلة الشهية ..

وكان يرسل وهو يحرك فكيه تحية خالصة لربة الحان التى أرسلت له الطبق فوق الحساب ..

وتبدو فى هذه اللحظة سنتان من الذهب فى الصف العلوى من أسنانه وهما تلمعان .. ثم يطبق فمه على سيجارة وبعد أن يدخنها ويستريح قليلا .. ينطلق بالركشا كالسهم .. إلى الميناء ولم يكن هناك من يعدو فى مثل عدوه .. كان سريع العدو طويل العود أطول من تقع عليه العين فى هونج كونج .. وأشد الرجال ساعدا ..
وكان كل الناس يعرفونه ... ويكلفونه بأشياء ..
ــ هات لى جريدة جنوب الصين .. يالو وأنت راجع ...
ــ أرسل هذا فى بريد كولون يالو .. أرجوك ..
ــ أعط .. هذا لمستر هنرى .. يالو .. فى بنك الصين .
وكان صف عربات الركشا يقف قريبا من الميناء ..
وأصحابها يقطعون على المارة الطريق فى رذالة ويجبرونهم على الركوب .. ولكن « لو » .. يقف صامتا حتى يتقدم إليه الراكب .. فيتحرك بأدب .. ويسأله عن وجهته ..

وكان الذى يركب دون أن تكون له وجهه معينة يتجه به إلى الحانة بعد جولة قصيرة فى المدينة ..

ولم يكن من طباعه أن يشتط فى الأجر .. فالدولار فى يده كالثلاثة .. المهم أن يأتى براكب جديد ..

وكانت عربته إذا قارنتها بسواها من العربات أنيقة وكرسيها مريحا ومغطى بالقطيفة .. وكان أكثر السائحين يختارونها لأناقتها ولأن لو يعتبر بمثابة الحارس لهم فى جولاتهم فى غابات هونج كونج وأحراجها .. وشوارعها المتعرجة ودروبها الطويلة ..

* * *

وفى أمسية من أمسيات السبت وكان واقفا فى مكانه على رصيف الميناء .. لمح سيدة ورجلا أوربيين يهبطان سريعا من الكوبرى الخشبى ويخرجان إلى الرصيف ..

ومرا بجواره .. فحرك العربة ثم ردها إلى مكانها ... لما لاحظ أنهما مترددان فى الركوب .. ثم ركبت السيدة الركشا وهى تقول شيئا بالإنجليزية وتبعها الرجل ..

ودار بهما لو فى المدينة فى شارع شستررود وكوين رود .. وسرت السيدة من المحلات الأنيقة ومن اللافتات الصينية وبالحروف الكبيرة على الواجهات . وفى الجوانب وكانت المدينة مزدحمة بالمارة والناس يتحركون فى سرعة وخفة .. وبدأ الصينيون أمامها قصار الأجسام قصار الخطو .. وأعجبت بهم فى الزى الصينى أكثر من إعجابها بهم فى الزى الأوروبى ..

وأبدت رغبتها فى أن ترى الهضبة .. وصعد بهما لو إلى الترام الصاعد ..

وبعد ساعة رجعا من جولتيهما وهبطا من الترام فأخذهما « لو » على التو إلى الحانة وكان الليل قد هبط وأضيئت المصابيح .. ولهب أحمر يندفع من فوق الربوة .. وظلال الأشجار الطويلة تتراقص حول الركشا ..

وكان لهب الشعلة الأحمر يدور فى الميناء والركشا تسير فى طريقها ولاح فى الأفق وهج أضواء مشتعلة تلقى ظلالها المتراقصة على أعلى مكان من الربوة ..

وتطلع الراكبان إلى السفح حيث تسبح المدينة فى بحر من الزمرد .. كانت الأضواء تتراقص فى الماء .. وتتلوى على صفحة الخليج الهادئ ثم تمضى مذعورة كأنها حيات طويلة قد اشتعلت فى ذيلها النار ..
وكانت كل الألوان الزاهية .. تتألق من المصابيح على السطح وفى التلال ..
وكان المنظر يحير الألباب ..

وسألت السيدة هيلين سائق الركشا :
ــ ما اسمك ..؟
ــ لو ..
ــ قف بنا لحظة يالو .. ما أجمل المنظر ..
ــ إن هذا المنظر يبدو أكثر جمالا من كالون ..
ــ حقا ؟
ــ بالطبع يا سيدتى سترين من الشاطئ المواجه جمال هونح كونج كله يتألق أمامك .. والهضبة تتوهج كأنها عقد كبير من الماس ..
ونظر لو إلى قلادة الماس على صدر السيدة ..

وقالت وهى تحرك يدها على القلادة كأنها تتأكد من وجودها ... فقد حذروها منذ هبطت المدينة من النشالين ومن أن تتركها فى الفندق ..
ــ ماس .. تمهل يالو .. ما أجمل ما حولنا .. أى منظر ..
ولما وقفت الركشا على باب الحانة كانا قد سكرا من المنظر ..

* * *

وكان لو رجلا وديعا هادئا .. وقد تناول ما قدمه له السائح .. وهو يحنى رأسه وينظر بإعجاب إلى المرأة التى بلغت الغاية فى الرقة والجمال ..

وكان السائحان زوجين من أواسط أوروبا يطوفان بالعالم .. وحطا الرحال بهونج كونج على أن يقضيا فيها شهرا أو شهرين ثم يتجهان إلى الهند فى الشتاء ..

وكان الرجل مهذبا دمث الخلق سمينا بعض الشىء .. أحمر الخدين ...

ولما وجد الحانة هادئة سر منها .. وكان يود أن يتناول عشاء صينيا خالصا أكثر من رغبته فى الشراب ..

وكانت الحانة فى الواقع مبتغى العشاق .. عشاق الهدوء وعشاق الطعام الصينى .. ويقصدها الذين ينشدون الهدوء والسكينة ولذة الغيبوبة التى تصيب الحواس ..

وهونج كونج الميناء التى تموج بالسفن .. والتى تبدو شوارعها فى كل الساعات فى أشد حالات الزحام والحركة ..
كانت تنتهى حركتها تماما إذا صعدت التلال ..

وتبدو الحانة فى كل الأوقات هادئة لا تحس بشىء مما يجرى حولها ..
وكان الهدوء قد جذب السيدة أكثر مما جذب الرجل ..

ولما دلتهما الساقية الصينية على القاعة السحرية .. دخلا وجلسا على الحشيات .. ووضعت السيدة البيبة بين شفتيها ودخنت لأول مرة الأفيون .. وأحست بلذة عارمة ..
ولما خرجت فى آخر الليل كانت تود أن تبقى إلى الصباح .

* * *

وبعد أربعة أيام .. جاءت فى الليل وحدها .. لم يكن فى صحبتها الزوج ..

ودخلت القاعة السحرية .. وتعرف إليها شاب صينى .. فظل معها إلى بعد منتصف الليل .. ثم ركب معها سيارة إلى الميناء .. وهناك رآها « لو » وهى تعبر الخليج .. فى صحبة الشاب .. إلى كالون..

وكان الشاب يرمى من عبوره معها الخليج أن يرافقها إلى فندقها إذ لم يكن من اللائق أن يترك سيدة وحدها فى الليل .. ولكنه راوغ فى الطريق كالثعلب .. وأخذها عندما أحس بأنها منتشية ومسلوبة الإرادة من فعل الأفيون إلى غرفة فى فندق رخيص وقضى معها ساعة ..

ولما خرجت من الفندق تفقدت قلادتها فلم تجدها .. فأدركت أن الشاب سرقها ولوعها الحزن .. وكتمت الخبر .. عن زوجها ..


وفى الصباح التالى زاد ارتباكها ..

وتحيرت ماذا تفعل وظلت حزينة .. ثم قالت لزوجها إنها ذاهبة فى جولة وحدها لتتسوق بعض الأشياء ..

ولما عبرت الخليج وجدت لو فى مكانه على الرصيف .. وكانت تود أن تحدثه عن ضياع القلادة .. ولكنها لم تستطع ..

ولما نظر « لو » إلى صدرها عاريا ولاحظ اضطرابها وشحوب لونها .. خمن أن شيئا حدث لها مع الشاب ولكنه لم يستطع أن يتكلم ..

ولكن نظرات المرأة إليه أشاعت اللوعة فى نفسه فقد كانت تستغيث به فى صمت وعذاب قبل أن تشيع الفضيحة ويعرف زوجها الخبر .. ويعلم بسقطتها وأدرك بذكائه وتعرفه على خفايا المدينة كل ما حدث ..

* * *

ولم يشاهد لو فى الحانة ولا الميناء قرابة شهر انقطعت أخباره .. ثم ظهر فجأة كما غاب فجأة ..

وكان يجر عربة الركشا بذراع واحدة .. وظهرت القلادة على صدر الزوجة الحسناء ..

ولكن أحدا لم يعرف السر .. ولم يعرف أن لو هو الذى أعادها للسيدة الشابة بعد معركة رهيبة فى ظلام الليل .. فقد بسببها ذراعه ..
=================================
نشرت فى صحيفة أخبار اليوم فى 28/10/1961 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================




بائع الصحف
قصة محمود البدوى

ذهبت إلى « هونج كونج » فى الصيف الماضى فى رحلة بهيجة تثلج القلب على متن إحدى الطائرات النفاثة .. وكانت تشق الفضاء فى سرعة الصاروخ .. وكل من أعرفهم قد حذرنى من عربة « الركشا » ومن الادلاء فى مدينة الأعاجيب ..

ونزلت فى فندق صغير فى شبه جزيرة « كولون » لهدوئه وقربه من المطار وبين مدينة « كولون » وهونج كونج بوغاز تعبره البواخر فى نزهة بحرية منقطعة النظير نزهة بين أجمل مناظر الطبيعة وفى أبدع ما خلق اللّه وصنعت يد الإنسان وتجمع هذه البواخر فى ذهابها وإيابها خليطا من كل أجناس الأرض ندر أن يجتمع مثله فى مكان آخر ..

وهى مع كثرتها ودقة مواعيدها مزدحمة دوما بالركاب العابرين ويبلغ الزحام أشده قبل التاسعة صباحا وبعد الخامسة مساء .. حيث ينحدر سيل الموظفين الخارجين من البنوك والمحلات الكبيرة إلى الميناء حتى يسدون كل منافذ الكوبرى المعلق المفضى إلى الطريق ويتدافعون عليه بالمناكب من هول الزحام ..

والسائح النازل فى « كولون » لا يستغنى أبدا حيث جمال الطبيعة فى التلال الزمردية والهضاب الشهباء وحيث الذهبية العائمة فى سواحل « ابردين » وصيد السمك فى خليج « استانلى » ..

ولهذا كنت أعبر البوغاز فى كل صباح وأذهب إلى « هونج كونج » فأجلس فى مشرب من مشارب الشاى فى " كوين رود " قريبا من بنك الصين أتأمل حركة السيارات والمارة من كل بقاع العالم وأطالع الصحف والمجلات الإنجليزية كما أقرأ الجريدة المحلية .. التى تصدر فى هونج كونج باسم " جنوب الصين " .. وكنت أبتاع هذه الصحف من بائع صينى عجوز مقطوع الساق كان يتخذ له مكانا مختارا تحت الباكيه ..

ووقع فى تقديرى أنه خاض غمار الحرب العالمية الثانية .. عندما غزا اليابانيون المدينة واكتوى بنارها ففقد ساقه .. وكان الرجل يركز عصاه على جدار البنك .. ويجلس متنبها يقظاً لكل حركة فى الطريق .. وبجواره صف من ماسحى الأحذية وأمامه على الرصيف الآخر طابور من عربات " الركشا " التى تتحرك إلى قلب المدينة أوتنطلق إلى الهضبة ..

والفيت الرجل رغم العجز الذى أصابه ضاحك السن أبدا مرحا شديد الحيوية ويتحرك بعكازه كأنه يعدو على قدمين من فرط ما فيه من نشاط وصحة ..

كما أن جواره للبنوك جعله على دراية بالعملات الأجنبية فكان يبيع الصحف بالدولار الأمريكى والجنيه الإسترلينى والروبية الهندية والينات اليابانية .. والفرنكات السويسرية والفرنسية ..
ولم يكن يرفض أى عملة على الإطلاق ..

وبدا لى من شخصيته المهيبة أنه هو الذى يحرك عربات الركشا ويمسك خيوطها ..

وجعلتنى ساقه المقطوعة أعطف عليه فكنت أشترى منه الصحف والمجلات بدلا من شرائها من " كولون " .. كما فى كثير من الحالات أترك له الفكة الصغيرة وأمنحه علب السجائر المصرية إذ كان يدخن بنهم ..

ولم يكن من عادتى أن أركب الركشا ولا الترام لأنى أحب السير على قدمى فى المدينة .. لأعرف كل شىء فيها وأدخل فى منعرجاتها ودروبها .. وأشاهد المتاجر وأرقب حركة الناس عن كثب ..

وكانت تشوقنى حركة المدينة السريعة فى العربات والسيارات والناس ونشاط أهلها العديم النظير ..

* * *

وكان فى جيبى شىء جعلتنى الظروف ألا أتركه فى الفندق .. وأدور به أينما حللت إذ كنت أحمل عقدا من اللؤلؤ الخالص اشتريته لوالدتى من طوكيو ..

وخشيت لو تركته فى الفندق أن يستبدل بعقد زائف ولا أستطيع أن أميز بين الزائف والصحيح أبدا .. أو أن يسرق وهذا أسهل الأشياء حدوثا ..

ولشدة اهتمامى به وحرصى عليه ولصوقه بجيبى .. كثيرا ما كنت أنساه .. فى أحوال ومتعددة ، كما ينسى المسافر حقيبة نقوده فى سيارة أجرة أو فى عربة القطار فإذا تذكرته انخلع قلبى هلعا .. ثم أتحسسه وزيادة فى التأكيد أخرجه من جيبى بطابع الوسوسة لأنظر فيه ثم أعيده إلى مكانه .. وأنا أتلفت حولى خشية أن يرانى أحد النشالين ... فيتبعنى ..ولما كنت مشوقا لأن أصعد الهضبة فى الليل وأركب الترام الصاعد . فقد اخترت أول الليل لهذه الرحلة.. لأنى سمعت كثيرا عن حوادث السطو فى الغابة ..

وقضيت فى المدينة الجميلة أسبوعين وأنا أرى فى كل يوم منظرًا ساحرًا جديدًا .. وشيئا غريبا لاتقع على مثله العين فى أى مكان ..

وكان أكثر ما يسرنى أن أقف أمام الأعرج أتناول منه الصحف .. وأجاذبه الحديث وأنا شاعر بالصفاء وبمودة القلب .. وبالإخاء الإنسانى الفطرى الذى فى كل البشر ..

ولم أكن أدرى أين مضجعه .. أيسكن فى " كولون " أم فى ضواحى هونج كونج " .. ولكن فقره كان ظاهرا للعيان ويعيش بقوت يومه وما سمعته يشكو من شىء أبدا .. ولما علم أننى فلاح مصرى حثنى على أن أشاهد الريف فى القرى المحيطة " بهونج كونج " وأذهب إلى " لوو " .. لأرى الفلاح الصينى هناك كيف يحرث الأرض ويزرع الحب على ماء المطر ..

* * *

وذات ليلة .. وكانت الساعة قد بلغت التاسعة .. وحركة السابلة فى الطريق قد خفت قليلا .. واللافتات باللغة الصينية وبالحروف الكبيرة المضاءة بالنيون تغطى واجهات الحوانيت ..

والمطاعم الصغيرة تعرض فى المدخل ما عندها من صنوف الطعام ..

فرأيت صحاف الأرز الكبيرة والمرقة تسبح فيها الكرشة .. ولحوم العجول والطيور فى أطباق صينية واسعة ..

لاحظت خفة الحركة فى الطريق والرجال فى الحلل الأوربية أو الصينية والنساء فى الجيوب المشقوقة والبلوزة الحريرية الحمراء .. وكان اللون الأحمر يغلب على كل الألوان وجذب انتباهى لافتة صغيرة مضاءة باللون الأحمر .. فى مدخل طويل على جانبه صف من الدكاكين الصغيرة التى تبيع القداحات والعطور والمراوح وتماثيل الخزف والعاج صف منسق .. كأنما وضع تصميم هذه الحوانيت رسام بارع .. وكان نصف الحوانيت مضاء والنصف الآخر .. قد أغلق أبوابه ..

ووجدت نفسى تحت اللافتة وأمام ستار حريرى مضفر فدفعته ودخلت فى سكون فى حجرة شاحبة الضوء وكان البخور يعبق فى جو المكان وموسيقى خفيفة تصدح ..

ونقر أشبه بنقر الدف ولكنه يأتى من فوق .. وليس فى المكان ..

ووجدت نفسى بعد نصف دقيقة أتسمر على كرسى خشبى .. وأخرج ستة دولارات من عملة هونج كونج .. وأمد يدى لقارئة الكف .. الصينية العجوز .. وكان بجوارها فتاة تابعة لها .. ورجل يتحرك من وراء الستر هناك ولكنه لم يظهر ولم أر طلعته قط ... فى مدى النصف الساعة التى قضيتها فى المكان .. وقالت لى العجوز كلاما غامضا عن المستقبل والحياة .. فى جو كله سحر وغموض .. ولكننى استرحت إليه جدا ..

وكانت رائحة البخور تزداد حتى أننى أحسست بالاختناق ..
فنهضت فى ثقل وانسحبت إلى الخارج ..

ولما عدت إلى الطريق التى دخلت منها وجدت كل حوانيتها قد أغلقت والظلام يبسط رواقه .. فشعرت بالخوف .. وتحت باكية لمحت نصلا يلمع فى وجهى فجريت مفزوعا حتى بلغت الشارع الرئيسى وأنا ألهث ..

وسمعت صوتا .. وحركة أقدام سريعة خلفى وعراك لم يستمر طويلا ..

وخيل إلى أننى سمعت صوت الأعرج وحركة عكازه على الأرض ..
ولما تلفت لم أجد أى شخص ..

* * *

وفى ليلة من ليالى السبت وكنت قد تجولت طويلا فى « هونج كونج » عبرت البوغاز على باخرة حالمة وأنا شاعر بالتعب والنعاس ..
ولما بلغت الفندق تفقدت عقد اللؤلؤ فلم أجده ..

فرغم حرصى الشديد نشل منى بطريقة جهنمية .. وتألمت غاية الألم .. حتى إنه لم يغمض لى جفن فى تلك الليلة ..

وفى الصباح شاهد " الأعرج " ما على وجهى من حزن .. فتصور أنى مريض .. وسألنى عن حالى ..
ولما كان قلبى مثقلا بالغــم .. فقد رأيت أن من الخير لى أن أقص على الرجل الخبر لأنفس عن نفسى .. وأسأله إن كان من الأوفق أن أبلغ البوليس ..
ولما أخبرته تغير لونه وتألم ..
ثم قال :
ــ لا عليك .. إنه فداك ..
ــ أليس من الأحسن أن أبلغ البوليس .. ؟
ــ وما الذى يفعله .. فى مدينة كهذه تعج بالنشالين .. ؟ ربما كان العقد الآن فى جيب أحد المسافرين إلى نيودلهى أو بانكوك ..
ــ أتقصد أن النشال باعه .. ؟
ــ بالطبع .. وبأ سرع مما تتصور ..
وزاد هذا من حزنى وفقدت الأمل كلية ..

ومرت أربعة أيام وكلما ركبت الباخرة إلى « هونج كونج » وعبرت البوغاز .. ورأيت اللافتات فى كل مكان بالإنجليزية تحذر من النشالين زاد غيظى ..

ولما انتويت السفر يوم الخميس التالى .. فقد ودعت الأعرج .. فى مكانه تحت الباكية وعانقته ..

وفى صباح يوم السفر وأنا خارج من بهو الفندق وأهم بركوب السيارة إلى المطار .. وجدت الأعرج يتوكأ على عكازه .. كان فى انتظارى ..

وعجبت كيف عرف الفندق الذى أنزل فيه وما حدثته عنه قط .. ولكن عجبى الأكبر كان عندما مد لى يده بشىء مطوى فى علبة ..
وقال باسما :
ــ لقد جئت بهدية صغيرة وأرجو أن تقبلها ..

ولما لمحت نفس العلبة التى سرقت منى ارتجف قلبى ..
وتناولتها ... وفتحتها .. فوجدت عقد اللؤلؤ ....

واخضلت عيناى بالدمع وأنا أنظر إلى الرجل صامتا وما أستطيع أن أنبس بكلمة شكر وكان هو معتمدا على عكازه فى هدوء وعلى وجهه السكينة وكأنه ما فعل شيئا ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 23/4/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من هونج كونج "
من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
======================================




السفينة الذهبية
قصة محمود البدوى


بيتنا فى بورسعيد ، وعندما وقع الاعتداء علينا فى سنة 1956 كنت بعيدا بآلاف الأميال عن الأهل والوطن .. كنت هناك فى مدينة " هونج كونج " ..

وقرأت الخبر فى جريدة ( جنوب الصين ) وأنا أعض على النواجذ .. فأنا بعيد جدا عن جو المعركة ولا أستطيع أن أفعل شيئا من أجل وطنى .. وليس فى إمكانى أن أطلق رصاصة واحدة فى صدر الأعداء ..

وقدر علىَّ أن أكون سائحا يتنزه ووطنى تشتعل فيه النار .. فما أشد العذاب ..

ولكن الشرارة أصابتنى من بعيد فقد انقطع عنى المال ..
ولم يكن فى جيبى غير دولارات قليلة ، لا تعيشنى أكثر من عشرة أيام إذ كنت فى نهاية أكتوبر أنتظر المدد من بورسعيد لأرحل .. وهأنذا أصبحت بتصاريف القدر وحيدا شريدا فى هذه المدينة وما أعرف إنسانا فيها يمدنى بسنت واحد فكيف أعيش .. ؟؟

وفكرت فى تغيير الفندق الذى أقيم فيه فى الحال .. وكان يقع فى جزيرة ( كولون ) والبحث عن أرخص فندق فى " هونج كونج " إذ أن الفنادق فيها أرخص ..

وعبرت الخليج فعلا والساعة تتجاوز العاشرة صباحا .. وسرت فى شارع ( دى فو ) متمهلا متطلعا إلى اللافتات .. والناس فى حركة سريعة نشطة على الرصيف كأنهم سيلحقون آخر قطار ..

وظللت أسير حتى اقتربت من سوق الخضار وأصبحت اللافتات كلها مكتوبة باللغة الصينية وعجزت عن فهم حروفها ..

وكان الجو حارا وخانقا لشدة الرطوبة وأحسست بالعرق فى يدى على مقبض الحقيبة .. فوقفت ألتقط أنفاسى وأعرف مستقرى .. بعد أن تبينت أننى دخلت فى أزقة ملتوية أشبه بأزقة ( أبردين ) ..

وكان أصحاب الدكاكين يتصورننى بائعا جوالا .. فأخذوا يسألوننى فى كل خطوة عما أحمل .. فكنت أجيبهم بأنى مجرد عابر سبيل ..

وأخيرا وجدت لافتة مطموسة على باب ضيق .. ودخلت فى طرقة معتمة ملتوية .. وكلما تقدمت خطوة شعرت بالظلام يزداد كثافة .. مع أن الشمس كانت طالعة .. وأحسست بالخوف من شىء جعلنى أفتح عينى جيدا وأحس من فرط الفزع بضربات قلبى كأنها ضربات آلة قوية ..

وصور لى الخيال المحلق الفنادق الرهيبة التى تحدث عنها " ادجار الن بو " فى قصصه وتصورت هذا واحدا منها .. ظل قائما عبر السنين فى هذا المكان .. وازداد رعبى فوقفت تماما لأستدير وأعود ..

وهنا سمعت صوتا بالإنجليزية .. صوتا خافتا خيل إلىَّ أنه ينبعث من أعماق جب .. ولكنه كان على أى حال صوت إنسان وتبع الصوت خطوات بطيئة لينة فى اتجاهى ..

وكان أول شىء رأيته فى وجه الشخص الذى استقبلنى فمه المفتوح عن سنتين ذهبيتين .. ثم ملامح صينية خالصة .. واستقبلنى الرجل ببشاشة .. وإن كانت عيناه ظلتا لمدة نصف دقيقة مفتوحة وتنظر إلىَّ بعمق وكأنها تنظر لتعرف فى لحظات خصائصى كمخلوق بشرى ..

ومن حديثى القصير معه تبينت طيبة نفسه وكانت كل التصورات السابقة مجرد أوهام سبحت فى عقل مرعوب .. وفى دقائق أعاد إلىَّ السكينة المطلقة .. وأعطانى مفتاح غرفة رخيصة بسبعة دولارات هونج كونجى فى اليوم ولم يطلب دفع شىء مقدما ..

وكانت الغرفة فى الطابق الخامس ولا يوجد مصعد فى البناية ولكنى رضيت بها ولم تكن نافذتها الخلفية الوحيدة تطل على شىء بهيج .. على أن الغرفة على صغرها كانت بالغة الحد فى النظافة ..

وكان فى الجناح الذى أقيم فيه ست غرف على صف واحد .. ألفيت أبوابها كلها مغلقة ولا تدل على وجود سكان ..

ولم يكن الفندق مستعدا للطعام فكنت آكل فى المطاعم الشعبية الرخيصة المزدحمة بالعمال والحمالين وسائقى عربات الركشا وما كنت أفهم حرفا واحدا من حديثهم ومنهم من كان يرافقنى فى مائدة واحدة ..

ولكن وجوههم تبدو على اختلاف السحن متآلفة ويربطهم الرباط الذى يضم الفقراء والتعساء فى العالم ..

* * *

وكنت متلهفا على أخبار بلادى ولكنى أعيش فى مستعمرة بريطانية فكيف تصل إلى الحقيقة .. ؟؟

لم أكن أقرأ إلا جريدة ( جنوب الصين ) وكانت معظم برقياتها من رويتر ووكالة طوكيو للأنباء .. وعشت فى دوامة .. ولكننى ألفيت نفسى بعد عشرة أيام من الآلام المضنية أتحمل الموقف فى صلابة وأترك الأيام تجرى فى أعنتها ..

ولم أكن أقدر الهوان قط .. وظلت قاهرة المعز بمساجدها وكنائسها وقبابها ، وقلاعها .. وحصونها .. شامخة وعالية وجبارة .. ولن يقهرها أحد ..

ولم تهتز الصورة فى ذهنى أبدا .. بل ظلت متألقة وحية ..

وكنت أتحرك باعتدال وأحاول الاقتصاد فى كل خطوة .. وأبتعد عن جو الملاهى والمواخير وعن النساء ..

وخلال الساعات القاسية التى تحس فيها النفس بالموات .. كنت أذهب إلى ( كولون ) أو أتجول حول عربات الركشا التى تتقاتل على السائحين .. أو أذهب إلى الميناء وأقف على الرصيف أشاهد البواخر الضخمة وهى تفرغ حمولتها من الطرود الثقيلة أو تحمل بمثلها .. والعمال على الآلات الرافعة يبدون من بعيد كالعصافير ..
والميناء تتحرك كخلية النحل حركة جبارة ..

كان المنظر كله يشوقنى .. عرق العامل وزيت الآلات ودوى المحركات .. وصياح العمال وصفير البواخر .. كأن الدنيا لا تستريح ساعة ..
وكانت هذه التجولات تنسينى وحدتى ومتاعبى ..

* * *

وفى كل صباح كنت أحصى الدولارات التى فى جيبى قبل أن أخرج من غرفتى ..
وكان ذهنى يتفتق فى كل ساعة عن مخرج لحالتى ..

ففكرت أن أشتغل فى أحد البنوك وما أكثرها فى المدينة .. أو فى متجر وأنا أجيد الإنجليزية والفرنسية فإذا ضاقت بى سبل العيش سأشتغل ملاحا فى سفينة حتى أصل إلى ميناء عربى ..

* * *

وذات ليلة لمحت وأنا أدخل غرفتى رجلا طويلا يدير المفتاح فى الغرفة الملاصقة لى .. وكان أول ساكن أراه فى الجناح الذى أقيم فيه .. وأعطانى ظهره فلم أتبين ملامحه ..

* * *

ومرت أيام قليلة وبدأت أشعر بالفراغ والضيق .. ولم تستطع مباهج المدينة أن تمسح لوعتى .. وكتبت رسالة لأهلى لأعرف أحوالهم ولكننى لم أتلق ردا ، وأصبحت أحتبس فى غرفتى بعد أن كنت لا أطيق البقاء فيها ساعة ..

وبدأ الخوف من الجوع يعاودنى بشكل يثير الرعب .. فقد طرقت كل أبواب العمل فلم أوفق إلى شىء قط ، سدت الأبواب فى وجهى .. وغدت كل الوسائل التى فكرت فيها من قبل كمورد للرزق مجرد أحلام ذهبت مع الريح ..

* * *

وأصبح المال القليل الذى تبقى معى هو بمثابة حياة لى .. ولهذا حرصت على أن أحمله ولا أتركه فى غرفتى لأنى كنت أعرف من سفرى الطويل لصوص الفنادق ..

وقد جعلنى الاقتصاد فى النفقات أتعشى فى غرفتى حاملا معى فى كل ليلة أرخص الأطعمة فى السوق .. وبعد العشاء كنت أخرج إلى بهو الفندق لأشرب القهوة وأستمع إلى الموسيقى الصينية التى تذاع فى الراديو ..

وفى كل الحالات كنت أجد نفرا من النزلاء جالسين حول موائد متباعدة يشربون الخمر .. ولكنى لم أكن أختلط بأحد منهم .. وشاهدت جارى الذى رأيته من قبل وهو يدخل غرفته .. يجلس هناك فى الركن ويشرب وحده ..

وبدا لى من جلسته ، فارع الطول ، نحيفا وعروقه بارزة من عنقه وكانت صفحة وجهه إلى ناحيتى فبدت التجاعيد وخطوط السن .. وبشرته البيضاء الناعمة التى لوحتها الشمس كثيرا ..

وكانت عيناه ضيقتين وساكنتين ويظلهما هدب غزير أشهب كشعره كله ..

ومن ملامحه قدرت أنه أوروبى أو أمريكى لف الدنيا ثم حط رحاله فى هذه المدينة ..

وكان قليل الكلام مع الفتاة التى تقدم له الخمر .. وبدا من سكون جوارحه أنه شرب فى هذه الليلة كثيرا ..

وظل يشرب حتى انصرف النزلاء إلى حجراتهم .. وبقى وحده ..

وخرجت لأشترى علبة سجائر ولما عدت كان يصعد السلم أمامى إلى غرفته .. وظهر من حركات رجليه أنه لا يكاد يتماسك وكان يسقط فعلا فسندته بذراعى وظللت معه حتى أدخلته غرفته وشكرنى بحرارة على الباب ..

وأصبحنا نتلاقى بعد ذلك كثيرا .. فى الطريق .. وفى الميناء .. وعرف اسمى .. ولما سألنى عن جنسيتى قلت له إننى " تركى " .. وخشيت أن أقول له أننى مصرى لأننى حسبته إنجليزيا ونحن فى حالة حرب ..

ثم تبين لى أن الرجل لا يهمه من أكون وأنه فرغ من الدنيا ويعيش على هامش الحياة جواب آفاق ..

فقد رأى الهند .. والصين .. واليابان .. وأخيرا حط رحاله فى هونج كونج .. ولا يدرى إلى متى سيبقى ..

* * *

وفى مساء اليوم التالى بدا منشرحا مرحا وأخذ يفيض بمرحه على كل من يقابله فى البهو ..
وسألنى :
ــ هل أنت تاجر .. ؟
ــ أجل .. وجئت لأشترى صفقة من الحرير الصينى ..
ــ وهل تشترى الماس .. ؟
ــ إذا كان نادرا ..
ــ لدى قطعة نادرة من الماس لا تقدر بثمن .. هل تحب أن تراها .. ؟

وضحكت وأنا أحدق فى وجه الرجل الكهل وقد جرى فى عروقه دم الشباب وهو يتحدث عن الماس ..

ويسألنى متعجبا :
ــ لماذا تضحك .. ؟
ــ لأنك وقعت على أوعر أرض رن عليها حافر ..
ــ لا أفهم شيئا ..
ــ أعنى أنك وقعت على أفلس رجل فى الوجود ..

وأخذت أروى له قصتى .. وكيف جئت إلى هونج كونج .. وفوجئت بالحرب فى بلادى وتقطعت بى الأسباب ..
ــ لا تبتئس فأنت شاب تتحدث بأكثر من لغة وتستطيع أن تجد عملا .. فلا تفكر فى الموت جوعا ..
ولكنى كدت أموت من الجوع فعلا .. بعد أن سدت فى وجهى كل وجوه العمل ، وشعرت بالقنوط ، وكادت تقهرنى الحياة ..

ودخلت غرفتى مرتميا على الفراش وأنا أتصبب عرقا .. وفكرت فى الموت بدل الهوان وتمنيت المرض بالحمى لأموت ميتة طبيعية .. بدلا من الانتحار ..

ولكننى لم أمرض قط فى هذه الفترة المظلمة من حياتى رغم أننى كنت آكل أردأ الأطعمة ..

وظللت أفكر .. وأحدق فى سقف الغرفة .. وأتصور النزلاء الذين كانوا قبلى ومن سيأتى منهم بعدى .. أنهم سينامون على نفس السرير .. ومنهم الشريد والمحتال والطيب والشرير .. العبقرى الفذ والرجل الذى لا وزن له فى الحياة ولا قيمة ، سيرقدون على هذا السرير .. نفس السرير الذى يتغير ويستقبل فى كل يوم أو شهر نزيلا جديدا ..

وأحسست بالعرق غزيرا والحرارة خانقة .. فنهضت لآخذ حماما .. وخرجت إلى الطرقة المؤدية إلى دورة المياه ..

ولمحت وأنا راجع فى الغرفة الملاصقة لغرفة جارى من الناحية الشرقية .. وفى ضوئها الشاحب شابة صينية تجلس مسترخية على كنبة .. وقد جعلتها الرطوبة والحرارة لا تحس بوجودى ..
ولم أعرها اهتماما .. فما أكثر الفتيات فى هونج كونج ..

ثم أصبحت أراها كلما مررت فى الطرقة متخذة نفس الوضع وبابها مفتوح ..

ولعلها متضايقة من الجو القابض .. والرطوبة فى هذا الفصل من السنة .. لأن غرفتها صغيرة ولها نافذة خلفية تطل على مصنع للجلود .. وفوقه مكاتب الإدارة فأغلقت الفتاة النافذة حتى لا تشاهدهم ولا يشاهدونها فى مباذلها ..

وكانت لا تبرح غرفتها إلا قليلا .. وتقوم هى بتنظيفها بنفسها وترتيب فراشها ..

وشاهدتها ذات مرة راكعة تحت السرير وممسكة بالمجرفة .. ولما وقع بصرها علىّ احمر وجهها وغدا فى لون الأرجوان ..

* * *

وحملت بذلة جديدة وقمصانا ومنبها موسيقيا وساعة وكل ما قررت الاستغناء عنه من متاعى لأبيعه لتاجر صينى .. فى شارع ( تشين رود ) وأعطانى ثلاثمائة دولار هونج كونجى وسررت جدا وكان هذا المبلغ عندى يساوى ثلاثمائة جنيه استرلينى ووضعت المبلغ فى جيبى وركبت الباخرة إلى كولون لأشرب الشاى فى مشرب هادئ جميل كنت أتردد عليه عندما كنت ساكنا هناك ..

ولما اتخذت مقعدى رأيت الفتاة الصينية جارتى فى الفندق وكانت جالسة على مقعد فى الدرجة الثانية مثلى ولما بصرت بى ابتسمت وأحنت رأسها بحركة خفيفة ولا أدرى كيف عرفتنى وهى محبوسة فى غرفتها المظلمة دوما ..

* * *

وقضيت النهار كله فى كولون ، ولما عدت إلى الفندق فى المساء وجدت جارى ( البرت ) .. جالسا فى البهو .. وبجانبه القبعة التيلية التى يرتديها فى النهار ..

وأخذ يحدثنى عن المدن التى شاهدها منذ عشرات السنين .. وكأنه رآها بالأمس ، كان يحب الأسفار حتى غدت متعته الوحيدة ..

وسألنى فجأة ..
ــ هل تحب أن أريك الماسة .. ؟؟
وصعدنا إلى غرفته ..

وتناول محفظة جلدية أنيقة من الدولاب .. وأرانى ماسة مضلعة زرقاء .. أكبر من أن توضع فى خاتم .. ويمكن أن يزين بها صدر حسناء .. ليست ككل الحسان .. أو توضع على قمة الفصوص فى تاج امرأة .. امرأة ملكة على النساء جميعا ..

وأدارها فى يده .. فغابت الزرقة .. وأصبحت تشع كل ألوان قوس قزح مجتمعة .. وكلما حركها .. ازدادت فتنة ..
وفى كل وجه من وجوهها وهى تتحرك رأيت صور البشر .. بخيرهم وشرهم وآمالهم وأحلامهم ويأسهم وقنوطهم ..

وسألنى وهى لا تزال فى يده وعيناه تحدقان فيها :
ــ كم تقدر .. لهذه الماسة .. ؟
ــ لا أدرى .. فلست من تجار الماس وما لمسته يدى قط ..
ــ خمن ..
ــ مائة جنيه استرلينى ..

فضحك وقال :
ــ أنها تساوى أكثر من خمسة آلاف جنيه استرلينى ..
ــ ولماذا لا تضعها فى خزانة بنك .. ؟
ــ وماذا أفعل .. إذا غيروها بماسة زائفة .. أنت لا تعرف شيئا عن الماس ..
ــ ولماذا ترغب فى بيعها .. والاحتفاظ بها أحسن ..؟
ــ هذا صحيح .. ولكنى وحيد .. فقد فقدت أسرتى وتجارتى فى الحرب العالمية الثانية ..
وكانت الصدمة قاسية .. ولكن الأيام كفيلة بمسح الأحزان وانتهت الحرب ولم أفكر فى الزواج ..

وأشعل سيجارة وصمت .. كان يسترجع الذكريات .. ثم أضاف وقد تغيرت نبرات صوته ..
ــ ولما بلغت الشيخوخة صفيت أعمالى وأخذت أسيح فى العالم أجمع .. وقد رأيته كله .. حتى بلدك مصر رأيتها .. ومن طوكيو .. اشتريت هذه الماسة .. ولما حططت رحالى فى هونج كونج .. ورأيتها بهذا الجمال .. استقر قرارى على أن أبقى هنا ما شاءت لى الحياة ..
ــ لقد أحسنت الاختيار .. إنها مدينة جميلة حقا ..

قال فى صوت الحالم ..
ــ وفى هذه المدينة أخذت أفكر .. ما حاجتى إلى الماسة فى هذه السن .. ؟
سأستبدل بها شيئا جميلا أخذ على مشاعرى واستغرق كل تفكيرى .. سأبيع الماسة وأشترى بثمنها سفينة ذهبية ..
ــ سفينة ذهبية ..؟
ــ أجل ، هل ذهبت إلى ( أبردين ) وأكلت السمك فى السفينة العائمة .. ؟ ورأيت هؤلاء الناس الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء دون أن يشعر بهم إنسان .. ؟
ــ نعم ذهبت .. وشاهدتهم ..
ــ سأعيش فى السفينة الذهبية مثلهم أعيش وأموت فى الماء ..
ــ وهل عثرت على السفينة ..؟
ــ أجل .. إنها فى الخليج .. وسأشتريها بعد أيام قليلة وأحقق أحلامى ..

وكان قد طلب زجاجة من البراندى .. وابتدأ يشرب .. وقدم لى كأسا فاعتذرت .. وحييته وصعدت إلى غرفتى ..

ويظل البرت فى مكانه إلى ساعة نومه .. كان نادر الخروج فى الليل .. ومن الساعة التاسعة تراه فى البهو يشرب الخمر .. ويتحدث مع من يألفه من السيدات النزيلات فى الفندق .. أو اللواتى يأتين من الخارج فى ساعات الليل ..
ومع أنه جارى ولكننى لم أشاهد قط امرأة فى غرفته ..

ومرت الأيام .. وهدأت نفسى القلقة بعد بيع حاجاتى ووجود دولارات معى تكفينى عدة أيام ..

وسررت جدا لما رأيت فى جريدة ( جنوب الصين ) خبر وقف القتال فى بلادى وأن الأعداء أخذوا يرحلون عن بور سعيد .. وهزتنى الفرحة فكتبت رسالتين لوالدى أعرفه بحالى وأبدى له رغبتى فى العودة ..
ثم أخذت أتجول فى المدينة ..

* * *

واستيقظت فى صباح يوم من أيام ديسمبر على زعيق جارى ( البرت ) وجريت نحوه .. وأنا أتصور أن النار اشتعلت فى ملابسه ..
ووجدته جالسا فى غرفته يرتعش ووجهه فى لون الرماد .. وقد برزت تجاعيده .. وأصبحت عيناه فى لون الجمر ..

وكان متهالكا على الكرسى بالبيجامة .. وقميصه أنشق عن صدره الهزيل .. ورجلاه متدليتان كالمشلولتين ..

ولما دخلت لم يتحرك وظل فى مقعده ورفع وجهه برهة ورأيت الدموع فى عينيه وأطرق ليخفى دمعة ..
وعرفنى أن الماسة سرقت .. ولا يعرف السارق ..
فالغرفة يدخلها معظم الخدم فى الفندق ..

ودارت عيناى فى الغرفة .. تتفحص الدولاب والكنبة .. والطاولة .. والسرير .. ثم جلست بجانبه وأخذت أحادثه وأخفف عنه وقع السرقة بكل فنون الأحاديث ..

وكان الكرسى الذى أجلس عليه قريبا من السرير فلمحت على فراشه شعرتين طويلتين .. من شعر النساء .. وآثار جسم فى المكان المجاور له على المرتبة ..
ولم أشأ أن أحرجه وأسأله عن المرأة التى قضت الليلة معه ..

وقلت له :
ــ بلغ البوليس ..
ــ وهل هذا يجدى .. والخدم فى الفندق يتغيرون كثيرا .. وهناك النساء اللواتى يأتين من الخارج .. ولا يعرف الفندق عنهن شيئا .. وأكثر من واحدة منهن قضت الليل معى ..
وكان اعترافه مذهلا .. فلم ألاحظ عليه هذا .. وحسبته يكتفى بالحديث مع النساء ..

ولما علم كاتب الفندق بخبر السرقة جاء إليه وتجمع الخدم على الباب ..
وكانوا جميعا يطلبون إبلاغ البوليس ..
ولكن البرت رفض ..

* * *

وفى الليل لم يخرج إلى البهو كعادته .. وزرته فى غرفته .. ووجدته على حاله من الألم .. فأخرجت مائة دولار من جيبى وقدمتها له ..

فرفضها بشدة وسألنى :
ــ من أين هذا المال وأنت مفلس ..
وحدثته عن الأشياء التى بعتها ..

فظهر على وجهه الألم وقال :
ــ إن ما حدث قد حدث .. ولكن أرجو ألا تبيع شيئا آخر .. وفيما يتعلق بى فأنا معى من المال ما يكفينى والماسة كانت بالنسبة لى حلما .. ولكنه حلم ليل وذهب مع تباشير الصباح ..
وتركته .. بعد أن هدأت حاله قليلا ..

* * *

ومرت الأيام .. وسمعت نقرا خفيفا على باب غرفتى وأنا أتهيأ للنوم فنهضت لأفتح الباب ووجدت جارتى .. واقفة فى الضوء الشاحب .. مرتدية روبا حريريا مشجرا ثنته عند صدرها وتركت شعرها الأسود الطويل ينسدل وراء ظهرها متموجا شديد البريق ..

وقالت وكأنها ترانى لأول مرة :
ــ هل يمكن أن تعطينى جريدة ( جنوب الصين ) لحظات .. لقد رأيتها معك فى الصباح ..
ــ تفضلى ..
وأعطيتها الجريدة وانسابت وأنا لا أسمع صوت خفها ..

وعادت بعد نصف ساعة لترد لى الجريدة .. وقالت بصوت ناعم وإنجليزية سليمة :
ــ إن غرفتك جميلة وواسعة .. وليست كغرفتى الصغيرة .. الخانقة ..
ــ ولماذا لا تأخذين مثلها .. وهناك غرف خالية كثيرة ..
ــ ومن أين أدفع وأنا فقيرة .. إن غرفتى بخمسة دولارات .. وأنت تدفع ضعف ذلك ..
ــ سأدفع سبعة فقط ..
ــ لقد أكرمك ( منج ) لأن إقامتك طويلة ويعرف أنك مصرى .. أعطنى سيجارة ..

وأخذت تدخن .. وهى واقفة .. وبدت متوسطة الطول رشيقة القامة .. وبشرتها الناعمة تتأذى حتى من لمس الحرير الذى على جسمها ..

وقالت بعد صمت :
ــ هل رأيت جارنا النمسوى العجوز ( البرت ) .. إنه مسكين حقا .. كيف ضاعت منه الماسة .. هل يتصور شخص فى الدنيا أن عنده ماسة .. لعله .. يكذب ليستدر عطف النزلاء .. لقد رأيتك وأنت تقدم له الدولارات .. إنه محتال وأنا أعرف حيل هؤلاء العجائز ..
ــ لا تظنى بالرجل الظنون .. فهو صادق .. وقد رأيت الماسة بعينى ..
ــ ونادرة كما يقول ..
ــ أجل .. من الماس النادر ..

وعادت تتطلع إلى الغرفة .. ثم جلست وكانت السيجارة لا تزال مشتعلة فى يدها ..
ــ إن غرفتى خانقة .. هل تسمح لى بأن أقضى الليل معك ..
ــ آسف .. أنا ..
ــ ماذا .. ؟!
ــ مفلس ..
ــ مفلس .. وكيف قدمت الدولارات للنمسوى العجوز .. إذن ..
ــ هذا شىء آخر .. وما زلت مفلسا ..
وظلت تبتسم ويدها تعبث بطرف ثوبها .. ثم خرجت ..

* * *

وفى ليلة من ليالى الخميس ألفيت ( البرت ) فى البهو .. وكان متهلل الوجه يضاحك كل من يراه .. بنشاط ومرح وكأنه عاد إلى شبابه .. وأخبرنى أنه وجد الماسة أمس بجانب سريره لما دخل غرفته لينام ..
وابتهجت لهذا جدا ..

وفى يوم السبت الذى بعده دخلت مشربا للشاى فى شارع ( كوين رود ) وكانت الساعة لا تتجاوز الثامنة مساء فرأيت وأنا أكتب رسالة لوالدى .. جارتى فى الفندق جالسة إلى مائدة وحدها ولم أشاهدها وأنا داخل .. لأنها كانت منزوية فى ركن وحييتها ..

وجلست معها بعد أن فرغت من الرسالة .. وبعد حديث طويل قلت لها :
ــ هل ترافقينى غدا فى رحلة بالقطار .. ؟ إلى لو و ..
وسألت بخبث ..
ــ وهل معك نقود .. ؟
ــ أصبح معى ..
ــ كيف .. هل سرقت البرت العجوز .. ؟
ــ قد وجدت عملا ..
ــ حقا .. أين ..؟
ــ فى مكتب " وانج لى " للسياحة بشارع هليوود رود ذهب معى البرت إلى صاحب المكتب صباح الجمعة فشغلنى على التو ..
ــ وسيدفع لك أجرا مجزيا .. ؟
ــ بالطبع أجرا عاليا ولكن هذا لا يهم .. المهم أن أرافق السائحات ..

وظهر على وجهها الغيظ لحظات ولكنها كتمته ببراعة وابتسمت ..

ومرت الفتاة العاملة فى المشرب بجانبنا ترفع أقداح الشاى وكان شعرها أسود متموجا جميلا .. ولاحظت مرافقتى أننى أطيل النظر إليه ..

فقالت :
ــ شعرها جميل .. ؟
ــ إلى حد .. ولكننى وجدت شعرتين سوداوين أكثر جمالا على فراش ( البرت ) العجوز فى الصباح الذى اكتشف فيه ضياع الماسة فى نعومة شعرك وجماله وطوله ..

وحدقت فى وجهى باستغراب .. ثم انطلقت تضحك حتى اهتز صدرها ..

وقالت برقة :
ــ صحيح .. هل حدث هذا .. ؟
ــ أجل .. والشعرتان معى ..
ــ ولماذا تحتفظ بهما ..؟
ــ لأنهما تذكار جميل ..
ــ وهل عرفت صاحبتهما ..؟
ــ أجل .. فلا يوجد شعر فى هذا الجمال .. وهذا الطول .. غير شعر نزيلة واحدة فى الفندق ..

وصمتنا مدة طويلة لا ننطق بحرف .. وساعد على الصمت هدوء المشرب .. والستائر الحريرية المسدلة فى كل الزوايا .. والإضاءة الخفيفة والموسيقى الصينية .. الناعمة ..

وأخيرا حركت شفتيها وهى لا تنظر ناحيتى كأنها تحدث شخصا آخر ..
وقالت :
ــ تحدث أشياء فى نفس الإنسان لا يستطيع تفسيرها .. ولا تعليل جزئياتها الصغيرة ، وتراه يفعل الشىء وضده فى وقت واحد .. الخير .. والشر .. معا ويتغير ويغير نهجه فى الحياة لأبسط الأشياء التى تحدث .. أشياء بسيطة ولكنها تحركه وتجعله ينتفض ..

وعندما رأيتك تقدم النقود لالبرت العجوز وأنت على حالك من الإفلاس .. وتحتاج لكل سنت منها أصابتنى رعشة .. ولم أستطع التخلص من الأفكار التى ألحت على وظلت تلح وأخيرا فعلتها .. ولم أندم .. أنا سعيدة جدا ومن الفرحة أحس بخفقان قلبى ..
ــ إنك نبيلة .. وهذا كرم كبير منك .. فما كان أحد يعرف اليد التى امتدت وأخذت ولقد طويت الصفحة .. وكاد ( ألبرت ) ينسى ..

وأشعلت سيجارة أخرى وسبح الدخان الأزرق فى خيوط وتبعته ببصرى وسألتنى وهى تتكئ بكوعها على المائدة :
ــ وإذا وصلتك النقود من مصر .. سترحل وتترك الوظيفة .. ؟
ــ طبعا .. مع أن الوظيفة ممتعة للغاية ..
ــ ترحل .. وأنا لم ألمس حتى يدك أو أعرف اسمك ..؟
ــ اسمى جعفر .!
ــ وأنت بماذا أسموك .. بكل ما فيك من جمال .. ؟
ــ " يه ونج " .. وستضع " يه ونج " شعرها كله على وسادتك الليلة ..

وبارحنا المشرب وأخذنا نسير متمهلين فى اتجاه الميناء .. وقد بدت المدينة راقدة فى الليل على التلال وساكنة وصدرها يلمع بحبات الزمرد ..
ولا أحد يعرف ما يجرى فى جوفها من فعل البشر ..

================================
نشرت بمجموعة قصص لمحمود البدوى وتحمل عنوان القصة " السفينة الذهبية " فى عام 1971 وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================




الجــوع

قصة محمود البدوى

"دخلت مطعم " لينج " لأتغدى بعد" جولة طويلة فى شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع " دى فو " شريان المدينة الرئيسى .. واشتهر بأطباقه الشهية .

واخترت مائدة مفردة فى القاعة التى تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .

وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .

وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى فى النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجى كلية .

وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .

وجذب انتباهى رجل صينى فى حوالى الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .

وكان الشحوب الذى يتركه الجوع على وجه الإنسان لايزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..

وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .

وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .

وأخذ يأكل فى صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .

ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .

ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى فى نفس البناية .

وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك فى استرخاء وعيونهن لاتزال تشعر بالحاجة إلى النوم .

ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .

وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع فى عينيها .

وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .

ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .

ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .

وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند " البنك " لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .

وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .

فقد أراد الرجل الصينى " جواب الآفاق " الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .

وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .

وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .

وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .

وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .

وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .

وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .

وتسرب الخبر إلى العابرين فى الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .

وتألمت لحاله .. ولكننى لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..

وخيم الوجوم على من فى القاعة عندما دخل رجل البوليس .

وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التى كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين ..

وتقول وهى تشير بيدها :
ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .

وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين فى القاعة جميعا ..

وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..

وكبرت المرأة فى نظرى وكبرت حتى حجبت كل من فى القاعة .

وأدركت يقينا وأنا أنظر فى عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1071 فى 1551965 وأعيد نشرها بمجموعة " مساء الخميس 1966 وبمجموعة "قصص من هونج كونج " تقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2001
=================================

حَبات من الزمرد
قصة محمود البدوى


فندق « الباب الذهبى » فى « كولون » دلنى عليه صديقى ( تشن ) ..

وتشن شاب صينى مهذب التقيت به عرضا فى القطار القادم من « لوو » وأنا راجع من الصين الشعبية ولما علم أننى مصرى وحيد فى بلاد الصين تطوع أن يكون دليلى بشهامة عديمة النظير ..

وقد اختار لى هذا الفندق لقربه من المطار ولأنه يقع فى شارع جانبى بعيد عن ضجيج المواصلات فى المدينة الصاخبة ..

وقضيت أربعة أيام فى الفندق وأنا أشعر براحة المسافر الذى يعيش فى الفردوس ..

وفى اليوم التالى .. الخامس هبط علينا نفر من جنود الطيران الأمريكيين .. وكانوا قادمين من مانيلا .. فحولوا الفندق بصخبهم إلى جحيم .. فاضطررت أن أجمع حاجاتى لأرحل .. وفيما أنا أخرج قمصانى من درج « الشوفنير » عثرت على حبات من الزمرد الخالص وكانت متوسطة الحجم .. ومن أندر أنواعه على الإطلاق .. وبهرنى جمالها ودقة صنعها ..

وأول شىء خطر على بالى فى الحال أن أسلمها لإدارة الفندق لتتصرف فيها كما يحلو لها ، ولكن عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت من الفتيات العاملات فى هذا الجناح أن غرفتى كانت مؤجرة لشاب يدعى « كارتر » يعمل ملحقا ثقافيا فى قنصلية أجنبية وقضى فى الغرفة عامين كاملين وتركها لأنه نقل من هونج كونج ولم يشغلها بعده إنسان سواى ..

وأبقيت الحبات معى .. وأنا أجيل الأمر على كل الوجوه لأجد طريقة للاستدلال على صاحبها .. ثم دار فى خلدى أخيرا على أقرب الاحتمالات إلى الرجحان ، أن الحبات تخص سيدة قضت ليلة غرام مع هذا النزيل ثم نسيتها وذهبت .. ومنعها الخجل أو خشية الفضيحة أن تعود فتسأل عنها ..

وانتقلت إلى فندق « الميرامار » وهو قريب من البوغاز .. وحبات الزمرد معى وكنت أضعها فى جيبى حيثما ذهبت خشية أن تسرق لو تركت فى حجرتى بالفندق ..

وذات ليلة وأنا أتعشى فى مطعم « البحار السبعة » بشارع « كوين رود » فى هونج كونج جذبنى بهدوئه وقلة رواده .. رأيت سيدة أجنبية تتناول العشاء على مائدة مفردة .. وكانت تزين جيدها بعقد من الزمرد شبيه تماما فى حجم حباته ولونه وبريقه بالحبات التى وجدتها ..

وكان المكان هادئا وتنبعث من زاوية فيه موسيقى صينية خفيفة .. مما جعلنى أعلق نظرى بالسيدة وكانت أجمل من فى المطعم .. وكان جمالها ووداعتها وكونها وحيدة .. يشجعنى على محادثتها .. ولكن السبيل إلى التعارف كان شاقا وعلى الأخص أنه لم تتح لى أية فرصة لبلوغ قصدى .. فبارحت المطعم دون أن أبادلها كلمة واحدة ..

وحدث أن التقيت بهذه السيدة مرة أخرى ضحى يوم من أيام الثلاثاء فى بهو الفندق .. وكانت تتناول مفتاحها من لوحة المفاتيح فعرفت أنها تقيم معى فى نفس الفندق ونفس الجناح ..

ومنحتنى الظروف فرصة ذهبية لألتقى بها مرة ثالثة .. فى مكان أنسب للتعارف .. إذ جلسنا معا جنبا إلى جنب على الدكة الخشبية فى السفينة التى تعبر البوغاز .. وكانت تقرأ جريدة جنوب الصين فطيرها الهواء من يدها .. فجريت وأعدتها لها فشكرتنى بعذوبة وكانت ذاهبة مثلى إلى هونج كونج ..

وأخذنا نتحدث بالإنجليزية عن جمال المدينة .. وجمال هذه البواخر السريعة التى تنقل الجمهور عبر البوغاز من كولون إلى هونج كونج فى رحلة ممتعة تحت أجمل مناظر البر والبحر على الإطلاق ..

وقالت لى .. إنها ذاهبة إلى بنك الصين .. لتصرف بعض الشيكات السياحية .. فعبرت لها عن سرورى لمرافقتها فى هذه الجولة إذ لا غرض لى فى الواقع من الذهاب إلى هونج كونج أكثر من التجول ..

ولم نمكث فى البنك أكثر من سبع دقائق .. ثم خرجنا نضرب فى شوارع المدينة ..

وكانت تريد أن تبتاع بعض الأشياء من محلات « ين كراوفورد » فدخلنا المحل وتسوقت أشياء كثيرة اشتركنا فى حملها معا .. وحدثتنى بأنها أمريكية كزوجها ..

وسألتنى فى رقة :
ـ هل سمعت عن إنديانا .. ؟
فقلت لها :
ــ إنها الولاية التى أنجبت « إبراهام لنكولن » .. أعظم رجل فى تاريخ أمريكا .. بل طراز نادر فى الرجال عبر تاريخ البشرية ..
ــ هل تعتقد هذا .. ؟
ــ إنها الحقيقة .. !
ــ ولكن زوجى لم يتمثل بإبراهام أنه يصطاد السمك الآن فى (أبردين) ..
ــ هواية ممتعة ..
ــ أو تعتقد هذا .. ؟ إنها تستغرق حواسه تصرفه عن كل شىء آخر .. تصور أنه لم يشاهد شيئا فى « هونج كونج » بعد .. ولنا هنا قرابة اسبوعين .. وإذا كان هذا هو غرضه من السفر .. فلماذا تحملنا المشقة وقطعنا آلاف الأميال كان يستطيع الصيد فى إنديانا ..
ــ ولكنك على « نقيضه » تتنزهين ولم تضيعى ساعة واحدة دون مشاهدة شىء جديد ..
ــ أجل .. وماذا كنت أفعل غير ذلك .. ؟!

ورأيت فى عينيها الخضراوين بسمة جميلة .. وكانت حبات الزمرد على صدرها .. والحبات الشبيهة بها فى جيبى ..

وكنت أود أن أخرج ما فى جيبى لأقارب بين العقدين .. وأسرد لها القصة كلها .. ولكن استحييت ..

ومشينا حتى رصيف البواخر .. ثم ودعتها وقفلت عائدا إلى المدينة ..

وكنت متشوقا إلى ملاقاة زوجها .. فرأيته فى الصباح الباكر .. واقفا بجانبها أمام المكتب المعد للاستقبال .. وكان يملى برقية .. وبيده ( الشص ) وعلى كتفه « الجراب » .. وكان بملابس الصيد الكاملة .. النعل والشورت والجاكتة ذات الجيوب المنتفخة ..

وكان مرسل اللحية وقد ترك شعره ينمو على عارضيه بغزارة .. وقدرت سنه فى حدود الأربعين .. وبدا لى متناهيا فى الطيبة .. وهى تقدمه لى برقة .. وصافحنى « شارل » بحرارة وحدثته « جوان » بأنى رافقتها إلى البنك الصينى .. وسهلت لها الأمر فى البنك كما صاحبتها وهى تتسوق بعض حاجاتها .. وحملت لها الأشياء .. حتى الميناء وانحنى لى الرجل بود الفلاح الطيب القلب .. وصافحنا وذهب إلى صيده ..

وشيعت « جوان » زوجها وهى ضاحكة .. وأخذت تحدثنى عن عمله .. وأنه يملك مزرعة وحظيرة للأبقار .. وأنهما فى بحبوحة من العيش ومنذ أربع سنوات وهما يسيحان فى مطلع كل شتاء .. إلى كل بلاد العالم ..

وتركتها بعد ساعة وأنا أفكر فى عرض هذه الحبات على جواهرى فى المدينة لأعرف قيمتها ..

ومشيت أتفرس فى واجهات الحوانيت .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا والأرصفة تموج بالرائحين والغادين .. وحركة المرور على أشدها والجو صحوا والشمس ساطعة .. ولم تكن هناك أكثر من لفحة برد خفيفة ..

وأخيرا اخترت متجرا صغيرا فى شارع « دى فو » .. واجتزت أكثر من باب لأصل إلى داخل المحل .. حيث وقف رجل ربعة يتفحصنى بعينين نفاذتين ..

وحدثته بالإنجليزية عن رغبتى وأنا أضع حبات الزمرد أمامه على المنضدة .. فنظر إليها مليا بدون اكتراث وهو يوجه إلى نظرة جامدة ..

ثم أخرج المجهر وجعل يتفحصها حبة حبة وقال فى إنجليزية سليمة ..
ــ إنها زمرد خالص ..
ــ وكم حبة تنقصها لتكون عقدا .. ؟
ــ خمس حبات فقط ..
ــ وبكم الخمس .. ؟

وحرك أصابعه على آلة فيها بلى .. ثم قال بهدوء :
ــ بمائة دولار ..
ــ دولار ( هونج كونجى ) ..؟
ــ نعم ..
ــ أليس هذا كثيرا .. ؟
ــ هذا هو سعر السوق ..
ــ لقد انفرط العقد من زوجتى وهى خارجة من السينما .. وضاعت منها الحبات الناقصة .. أرجو أن تقدر هذه الظروف ..
ــ اسأل عن السعر فى الخارج .. وستعرف كم أنا أكرمتك ..
ــ لا فائدة .. ؟
ــ آسف هذا آخر سعر ..
ــ وإذا بعت لك هذه الحبات فبكم تشتريها .. ؟
ــ أشتريها بألفين من الدولارات ..
ــ فقط .. ؟
ــ فقط ..
ــ سأشاور زوجتى .. وأعود ..
ــ كما تشاء ..

وخرجت وحدى ومشيت فى شارع ضيق .. وسمعت أقداما خفيفة تتعقبنى .. ثم رأيت شابا يدخل من باب جانبى .. ولم أعره انتباها وخرجت إلى الطريق الرئيسى والحبات فى جيبى ..

وكانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد الظهر .. فتغديت وجبة سمك .. وخرجت أتمشى فى المدينة ولمحت دار من دور السينما فيلما يعرض لسلفانا مانجانو .. وكان الفيلم مثيرا فأحببت أن أراه كاملا قبل أن يعمل فيه مقص الرقيب فى أى بلد آخر ..

وقطعت تذكرة فى ( البلكون ) وكانت السينما قد اشتغلت ويبدو أن العرض مستمر .. وأدخلنى العامل وأجلسنى فى صف من الصفوف الخلفية ..

فجلست فى الظلام وأنا أمر بالسكون العميق فلا نأمة ولا همسة ولا حركة من مخلوق حى .. وبدا لى جليا أن الرواد مشغولون بحلاوة ( سيلفانا مانجانو ) ومتابعة الفليم عن أى شىء آخر ..

ولكن تبين لى بعد أن أخذت عيناى على الظلام أننى الجالس الوحيد فى كراسى ( البلكون ) كلها .. ثم ظهر شبح وحيد .. فى الصف الثالث .. وكان متطرفا إلى أقصى اليمين ..

وكانت السينما طويلة طولا لاحد له .. وقليلة الاتساع فى العرض .. فبدت لى فى هذا الظلام الرهيب كالنفق الموحش .. ولولا أن سيلفانا كانت تضحك وتتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. لخرجت مفزوعا من فرط الرعب ..

ولكن سيلفانا لم تمنعنى من التوتر والإحساس بالخوف .. إذ شعرت بأننى المخلوق الوحيد الذى يتنفس فى المقصورة .. والآخر الجالس هناك شبح .. وليس إنسانا وكان وجوده وصمته يزيدنى رعبا ..

وبحركة عفوية أخرجت سيجارة من جيبى وأشعلتها .. وقبل أن أستمرئ مذاقها رأيت شبحا يقف على رأسى ويقول بصوت فيه غلظة :
ــ التدخين ممنوع ..
ــ آسف لقد كنت ناسيا .. هل أستطيع أن أدخنها فى الخارج .. ؟
ــ تفضل ..

وأضاء لى بنور البطارية الطريق فى الظلام .. ووقفت فى البهو الخارجى .. أدخن وأفكر فى مبارحة السينما .. وقد وجدتها فرصة لأهرب ..

واتخذت طريقى إلى الخارج فعلا .. وشعرت وأنا أهبط السلالم بأقدام تتحرك ورائى ..

وفى الشارع رأيت وجه الشاب الذى كان يلاحقنى .. فى متجر الجواهر وخارجه .. وجعلتنى هذه المطاردة أحافظ على الحبات بكل حواسى وأنا أتحرك فى الطريق ..

وفى صباح يوم التقيت « بجوان » .. فى أحد شوارع « كاولون » الجانبية بعيدا عن الميناء .. وكانت تقف على باب حانوت ولما لمحتنى أسرعت نحوى ..

وقالت بسرعة :
ــ أرجو أن تصحبنى فى جولة قصيرة .. أريد .. أن أشترى شيئا .. وهم يرفعون السعر أضعافا مضاعفة إذا كانت السيدة وحدها ..
ــ أنا طوع أمرك ..

ونظرت إلى صدرها .. فوجدته عاريا .. ليس فيه عقد الزمرد ..
فسألتها بدافع من الفضول :
ــ أراك تركت العقد اليوم .. فى الفندق ..
ــ لا .. لقد سرق منى ..
ــ سرق .. ؟!
ــ أجل ولا أدرى هل نزع منى وأنا أصعد جسر البواخر .. أم فى الشارع أم فى السينما .. إن النشالين فى هونج كونج .. ليس لهم ضريب فى العالم كله ..
ــ أدركت هذا منذ الأسبوع الأول ولهذا أحافظ على جيوبى .. وهل ستشترين غيره .. ؟
ــ أجل .. الآن .. وإلا ظن بى زوجى الظنون .. فإنه لا يصدق أبدا أنه نشل ..

واحمر وجهها .. أكثر وأكثر .. وأشفقت عليها .. وتحسست بيدى مكان حبات الزمرد التى فى جيبى ..

وقلت لها وبى رغبة قوية لأن أعطيها هذه الحبات بعد أن استكمل لها الحبات الخمس الناقصة ..
ــ أعرف متجرا فى هونج كونج .. دعك من متاجر « كولون » .. وسنذهب إليه غدا فى أى وقت تشائين .. ونبتاع لك العقد من هناك .. فهذا أضمن وأدعى إلى الاطمئنان ..
ــ أو تعرف صاحب المتجر .. ؟
ــ أجل ذهبت إليه مرة ..
ــ وأسعاره معقولة ..
ــ إلى حد كبير ..
ــ حسن .. كم أشكرك .. لأنك ستنقذنى من موقف محرج للغاية ..
واشترت بعض الحاجات ورافقتها إلى الفندق ..

وعبرت البوغاز إلى هونج كونج واشتريت الحبات التى تنقص العقد .. بحوالى مائة دولار .. ونثر الجواهرى الفصوص كلها ثم كون منها عقدا جميلا .. فوضعته فى جيبى وفى عزمى أن أعطيه « لجوان » فى الصباح .. كهدية مفاجئة لها .. بدل العقد الذى سرق منها ..

واسترحت فى مشرب إلى الساعة الخامسة مساء .. ثم أحسست بالرغبة إلى أن أذهب إلى « ابردين » .. فركبت سيارة إلى هناك ..

ووقفت على الرصيف .. ومئات الزوارق تتهادى فى عرض الماء .. وآلاف منها راسية فى صفوف منتظمة على الساحل .. وعلى البيوت المواجهة يلمع الغسيل الأبيض فى ظلام الليل ..

وكان العشى قد دخل وأضيئت المصابيح الصغيرة فى الزوارق والسفن .. وبدت الميناء كلها كحبات من النجوم تناثرت على أرض من الزئبق ..

ورأيت النساء الصينيات .. يتعلقن بالسائحين ليحملوهم على النزول إلى زوارقهن .. كل شابة تقبل على نفر منهم وتشير إلى زورقها .. وبعد نزول الجميع فى الزوارق .. بصرت بزورق منفرد .. يقف وحده بعيدا وشابة صينية فى مؤخرته .. جلست وحدها .. وكانت لا تغرى أحدا بالركوب فى زورقها .. بأية إشارة أو حركة .. وكان على وجهها تعبير من الصمت والأسى دفعانى لأن أتقدم نحو زورقها ..

وهبطت الزورق حتى دون أن أسألها إن كانت على استعداد لأن تبحر بى ..

وظلت فى مكانها نصف دقيقة وهى لا تحرك ساكنا بعد أن توسطت الزورق .. ثم جذبت الحبل الذى يربط الزورق .. وأمسكت بالمجداف .. وبعد أن خرجنا من صف الزوارق .. وأصبحنا وحدنا فى عرض الماء .. نظرت إليها والى طول قامتها ورشاقة حركاتها .. وكانت ملساء العود .. طويلة على عكس الصينيات وتضع على شعرها الأسود منديلا .. وتلبس جونلة وصديرا أزرق .. وفى قدميها حذاء خفيف يساعدها على الحركة والتنقل من مكان إلى مكان ..

وعندما بعدنا عن مكان الزوارق والرصيف .. والذهبية التى يتناول فيها السائحون السمك المصطاد حديثا .. وكل ما فى المكان من حركة وصخب .. بدا الخليج ساكن الموج وبيوت الفقراء على الساحل فقيرة شاحبة ..

وقلت للفتاة :
ــ استريحى .. واتركى المجداف .. فإنى أحب أن يتهادى الزورق على صفحة اليم ..

فتركت المجداف .. وجلست عند الدفة وهى تنظر إلى بعيد .. وتأملت وجهها وشعرها وقوامها كله .. فى جلستها المنثنية .. كانت جميلة تقاطيع الوجه .. وفى عينيها الناعستين اللتين تزيدها فتنة وكأن أسنانها صف من اللؤلؤ .. يلتمع فى ليل لم يطلع فيه قمر ..

وكانت مستديرة الوجه وإذا نظرت إليها من جانب .. ظهر حاجباها الغزيران وخط الهدب .. وشحمة الأذن الصغيرة وقد تخطتها سوالف الشعر الأسود ..

وسمعت وأنا أتأملها وأتأمل الليل والنجوم تحادث شخصا بالصينية .. فارتجفت إذ كنا فى وسط الماء .. ولم أشاهد شخصا غيرها فى الزورق ..

ثم تبينت فتاة صغيرة فى القاع .. خارجة تفرك عينيها وكانت نائمة ثم استيقظت ..

وسألتها :
ــ أهذه بنتك ..؟
ــ أجل ..
ــ وأين أبوها .. ؟
ــ مات منذ ست سنوات ..
ــ هنا .. ؟
ــ أجل .. هنا فى « ابردين » .. مات ودفن فى الماء ..

وسألتها :
ــ وأنت .. هل تشتغلين بالصيد ..؟
ــ إننى أكتفى بنقل السياح .. إلى الذهبية .!
ــ وتربحين من عملك هذا ..؟
ــ بعضهم يعطى كثيرا .. وبعضهم يعطى قليلا وإنى راضية ..
ــ وأنت .. هل تعمل هنا فى هونج كونج .. ؟
ــ إننى سائح .. ؟
ــ ما هو اسمك .. ؟
ــ إبراهيم ..
ــ وحيدا .. ؟
ــ نعم ..
ــ أو ليس معك زوجتك .. ؟
ــ لم أتزوج بعد ..
ــ وهل شاهدت كل الأماكن الجميلة فى « هونج كونج » « وكولون » ..
ــ بعضها .. وأحب أن أشاهد الباقى .. ولكن ينقصنى رفيق من المدينة ..
ــ ألا تعرف أحدا .. ؟
ــ كلا .. هلا ترافقيننى ..
ــ وهذه ..؟ أتركها لمن ..؟ إننى لا أستطيع أن أترك الماء ساعة واحدة ..!
ــ يحزننى ذلك ..

ونظرت إلى ما حولى .. وقلت لها .. وأنا أود أن أبعد بالزورق وأبعد إلى قلب المحيط ..

وسألتها :
ــ ما اسمك .. ؟
ــ ... ..
ــ هل تسمحين لى بأن أجدف ..
ــ أتعرف ..؟
ــ إننى فلاح .. وقريتى على النيل ..

وأمسكت بالمجداف ..
واتجهت بالزورق إلى الشمال وهى تواجهنى بنظراتها فى ثبات .. وكانت فتاتها جالسة فى المقدمة صامتة .. ولا أدرى أتعرف الصغيرة الإنجليزية أم لا .. لأن أمها كانت تحادثها بالصينية التى لم أكن أفهم منها حرفا ..

وبعد أن قطعت مرحلة طويلة فى التجديف .. ألقيت بالمجداف .. وجلست بجانبها ..

وسألتنى فى عذوبة :
ــ أتعبت ..؟
ــ كلا .. ولكن أود أن أتأمل هذا الجمال ..

وقلت مستطردا .. وأنا شاعر بنشوة ..
ــ رأيت فى هذه الرحلة أجمل فتاتين فى العالم أجمع .. واحدة فى « يوهان » والثانية فى « ابردين » ..
ــ فى « ابردين » .. من هى ..؟
ــ أنت ..!
ونكست رأسها واحمر وجهها ..

وأضفت مستطردا :
ــ وإذا سألتنى .. أيهما الأكثر جمالا والأكثر فتنة .. أقول لك التى فى « ابردين » ..
فرفعت رأسها وقالت ضاحكة بعذوبة ..
ــ أنا لم أسأل ..
ــ ولكننى أجبت .. على السؤال على أى حال ..

واقتربت منى وقالت برقة .. وهى تميل علىّ بوجهها ..
ــ هل تقول هذا الكلام .. لكل فتاة .. ؟
ــ لا لا .. ما قلته لسواك قط ..
ومسحت على ذراعى ..
ــ ولكنى ما سمعته قبلك من إنسان ..
والتصقت بى ..

فقلت هامسا ..
ــ الفتاة تنظر إلينا ..
ــ إنها عمياء ..

وكأنى قد لسعنى سوط .. فابعدتها عنى فى رفق ونكست رأسى وأنا أحس بدوامة الحياة ..

ولم تستطع .. أن تدرك ما طرأ على مشاعرى من تحول على الفور فصمتت ..

ورفعت رأسى .. ورأيت حبات الزمرد متناثرة هناك فى هذا المكان .. على الأرض .. وفى الماء .. وفى كل رقعة فى العالم ولكن يغطيها تراب الفقر .. فلا تراه عينى ..

وبرق فى ذهنى خاطر بوحى الساعة .. فاقتربت من الفتاة الصغيرة ومسحت على شعرها .. وأخرجت حبات الزمرد من جيبى ووضعتها فى حجرها ..

وكانت أمها تنظر إلىّ فى ذهول .. والزورق يتهادى .. ولا أحد يحركه .. وحبات الزمرد مازالت تبرق فى حجر الفتاة وأصابعها الصغيرة تلمسها فى حنان .. وكنت أحس أن عينيها المنطفئتين قد بدا يلوح فيهما شعاع من النور ..
=================================
نشرت القصة بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " مساء الخميس " سنة 1966 وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================

=====

جَــذوة فى الرماد
قصة محمود البدوى


حدث فى صباح يوم من أيام الخميس وأنا أتجول وحدى بحى الستى فى هونج كونج وكنت قد اخترقت شارع كوين رود .. باحثا فى واجهات الحوانيت عن آلة تصوير نادرة كلفنى بها صديقى أحمد ـ قبل أن أبرح القاهرة ـ أن أحسست بألم حاد فى أسنانى لم أستطع احتماله ..

وكنت قد شعرت بمثل هذه الأوجاع وأنا فى بانكوك .. ولكنها كانت تأتى لفترة قصيرة .. ثم تمضى .. وأنساها فى خلال المباهج المثيرة التى أراها .. فى الرحلة .. ولكن فى هذه المرة أحسست بها تمزق لثتى وأحسست مثل طعن الإبر الحادة فى فكى الأسفل .. وفكرت أن أتصل بالفندق تليفونيا .. وأعرف منه عنوان طبيب أسنان ..

ولكننى لمحت أجزخانة فى الشارع فدخلتها .. وسألت الرجل عن طبيب أسنان فدلنى على طبيب فى الشارع المجاور ..

وصعدت إلى الطابق الثالث .. فى عمارة ضخمة .. وأحسست وأنا أقرع الجرس بأن الألم قد زال .. فكرت فى أن أعود لولا أن رجلا قصيرا قبيح الوجه فتح لى الباب فى هذه اللحظة وانحنى لى دون أن ينبس .. وقادنى إلى حيث توجد سكرتيرة الطبيب وكانت شابة ترتدى ملابس متأنقة فأحنت رأسها وابتسمت ..

وسألتها بالإنجليزية عن الطبيب وأنا أضع يدى على خدى ..
فسألت برقة :
ــ هل معك ميعاد .. ؟
ــ أبدا .. إنى شعرت بالألم الساعة ..
ــ سنجعل الميعاد فى صباح الاثنين الساعة الحادية عشرة ..
ــ إننى سائح .. وقد أسافر .. قبل ذلك ..
ــ إذن سنجعله .. غدا ..
ــ ألا يمكن الآن .. ؟
ــ الآن .. لا يمكن أبدا ..
ــ إننى أتألم .. انقلينى إلى المستشفى .. أنا غريب .. أرجوك ..
فصوبت إلىّ نظراتها لمدة نصف دقيقة ..

ثم قالت بصوتها الخالى من كل العواطف :
ــ لحظة من فضلك ..
وغابت عنى .. دقيقتين .. وفى أثناء ذلك عاودنى الألم بشدة .. وأحسست بفكى ينخلع ..

وعادت السكرتيرة .. وقالت مبتسمة :
ــ ستدخل بعد قليل ..
ــ شكرا ..
وتركتنى وحدى .. وأخذت أقلب بصرى فيما حولى .. لم أر فى القاعة مريضا سواى .. ولم يكن فى العيادة سوى هذه السكرتيرة .. والخادم .. الصينى الذى كان يقف كالأبله بجوار الباب الخارجى .. وكانت هناك ساعة تدق .. كل ربع ساعة .. وخلاف هذه الدقات لم أسمع أى حركة على الإطلاق ..

وكانت أرضية الحجرة مغطاة بالمشمع .. والحيطان عارية من الصور .. ولكن الستائر الحريرية على النافذة .. وعلى الباب .. والمفارش المزركشة على المساند .. وعلى المناضد ..

وطال جلوسى .. ولم يأت إلىّ أحد ولم أسمع حسا .. وخفت حدة الألم .. وكنت أود أن أنسل إلى الخارج .. فإن هذا الأبله الذى فتح لى الباب لا يمكن أن يعرف إن كنت قد دخلت على الطبيب أم لم أدخل ..

وفى أثناء هذه الخواطر .. دخلت علىّ ممرضة جديدة لم أرها من قبل وقادتنى إلى غرفة الفحص ..

ودخلت فوجدت سيدة فى منتصف العمر ترتدى معطفا من النيلون الأبيض وتضع على عينيها منظارا .. وتصورتها ممرضة أيضا .. ولكن لما أجلستنى أمامها على المكتب وأخذت تسألنى عن علتى أدركت أنها الطبيبة المختصة .. ولم أكن أتوقع أن أدخل على طبيبة صينية فى هونج كونج أبدا ..

وكانت جامدة الوجه وهى تفحص أسنانى .. وكنت أود أن أعطيها كل ما فى جيبى من عملات مختلفة لتبتسم .. وأرى لون أسنانها .. ولكنها لم تخفف من جهامة ملامحها قط ..

وعلى الرغم من هذه الجهامة البادية فقد كانت يدها رقيقة .. ولقد تحملت بصبر عظيم كل حدة أعصابى .. وفزعى من مجرد حركتها الخفيفة على اللثة ..

وسألتنى :
ــ لماذا تبدو .. عصبيا .. ؟
ــ ليس لى ذنب .. فى هذا .. قد أكون ورثت هذه الأعصاب ..
ــ أجل .. قد تكون ..
وكانت تتحدث الإنجليزية .. بطلاقة ..

ولما قلت لها .. بأننى كنت أتوقع أى شىء .. إلا أن أجد طبيبة فى هذا الشارع ..
قالت :
ــ لماذا .. ؟ هل هو شارع مهجور .. ؟
ــ أقصد .. سيدة ..
ــ لماذا .. ألا توجد عندكم طبيبات ..؟
ــ عندنا .. ولكنهن قليلات جدا .. والبنات يرغبن فى الكليات الأخرى ..
ــ لدينا كلية للطب .. وبها كثير من البنات .. وأنا درست الطب فى لندن .. وكان زوجى طبيبا أيضا ..
ــ هذا رائع ..

وسألتنى :
ــ لماذا أهملت .. أسنانك هكذا .. ؟
وشعرت بالخجل .. ولكننى قلت :
ــ بالطبع .. لم أكن أتصور أننى أهملتها ..
ــ لقد تركت هذه الطبقة الجيرية تتحجر فأنا الآن أكسر أحجارا ..
وفزعت .. ونظرت إلى عينيها ..

وأضافت هى بتؤدة :
ــ قلت .. لمس تشن .. بأنك مسافر .. متى السفر .. ؟
ــ سأبقى .. حتى ينتهى العلاج ..
ــ هذا حسن ..
ولانت ملامح وجهها قليلا ..

كانت رقيقة الطباع حقا .. وكان صوتها عذبا .. وكانت متوسطة الطول جميلة الوجه فى السابعة أو الثامنة والثلاثين من عمرها .. ويبدو الشباب بكل قوته على وجهها .. وكانت الضمة التى فى جانبى جفنيها هى أشد الأشياء فتنة ..

وسألتها بعد أن انتهت من عملها ..
ــ هل يمكن أن أعرف مصاريف العلاج .. ؟
ــ هل أنت طالب ..؟
ــ لا .. إننى مجرد سائح ..
ــ ستحدد لك سكرتيرتى المبلغ .. وتعرف منها مواعيد الزيارة ..
وشكرتها ..

وتركتنى .. ونفذت من باب آخر .. وكانت قد خلعت نظارتها .. وبدت متعبة .. ولكن وجهها بعد أن خلعت المنظار ازداد نضارة وشبابا ..

* * *

وفى صباح السبت .. دخلت عيادة الدكتورة يانج .. مرة أخرى وقادنى خادمها الصينى إلى الداخل .. وجلست على الكرسى ذى المساند .. وأخذت الطبيبة تزيل بأناملها الرقيقة .. الطبقة الجيرية .. من أسنانى العليا .. وكانت رغم كل رقتها تدمى أسنانى فأشعر بإنسانيتها الرقيقة .. وهى تمسح هذه الدماء .. بالقطن الناعم المعقم .. ثم تغسل الجروح بالمطهر ..

وكانت الجلسة الواحدة .. تستغرق نصف ساعة كاملة ورغم الألم الذى كنت أعانيه من مجلسها فإنى لم أكن أشعر بمرور الوقت .. ولم أكن أدرى أكان ذلك لوجهها الساكن أم لأنى لمست فيها صفات إنسانية لم أرها من قبل فى إنسانة مشغولة بالعمل .. أم لرقة حديثها ولأنى أدركت أنها تخصنى بجانب من وقتها ..

وكانت الأوجاع قد قلت نسبيا .. ولكننى لم آسف وأنا أقضى وقتا من الصباح فى التردد على عيادة طبيبة فى مدينة عامرة فى كل ساعة بالمباهج والمتع ..

وكانت الدكتورة يانج قد خبرت كل صفاتى فى خلال الأيام العشرة التى قضيتها وأنا أتردد عليها .. كما أننى عرفت كل طباعها .. تقريبا.. فهى متفرغة لعملها فى دقة متناهية ونشاط لا يوصف .. ويكتسى وجهها بصرامة .. لا أعرف سببها .. ولكنها فى عملها متفانية فى الرقة .. وقد تبسطت معى فى الحديث .. لأنى غريب .. وقد عرفت منها أن زوجها الطبيب الذى حدثتنى عنه من قبل التقت به أثناء عملها فى أحد المستشفيات .. وأحبها ولما طلب يدها لم ترفض .. ومات .. بعد عشرة قصيرة .. فى أثناء غارة اليابان على هونج كونج فى الحرب الأخيرة وبقيت هى تكافح وحدها .. وقالت لى إنها كانت تحبه لأنه كان يحترمها ويحوطها بحنان دافق ..

ولقد أدركت أن جذور الرجل .. رغم مضى هذه السنين الطويلة .. لا تزال متأصلة فيها وذكراه لا تزال باقية .. ولهذا أحبت عملها وتفانت فيه ..

ولقد قضيت ثلاثة أسابيع .. وأنا أتردد على هذه السيدة .. وأجلس تحت مصباحها البللورى .. وأقع تحت نظراتها .. العادية .. ونظرات المجهر ..

ولقد لمست فيها كل الصفات النبيلة التى أحبها فى المرأة .. فقد عاملتنى بإنسانية زائدة ولما تبينت فقرى .. لم تأخذ إلا ربع الأجر ..

وكان المعروف عن نظام عيادتها أنه لا يلتقى عندها مريض بمريض .. لأن كل واحد يأتى فى الساعة المحددة له .. ولاحظت أنها غيرت موعدى فجعلته فى المساء بدل الصباح .. وجعلتنى آخر واحد لتحادثنى أكثر وأكثر .. ولقد شعرت بأنها تخصنى .. بشىء غير عادى من رعايتها .. ومن نظراتها .. ومن حنانها ..

وفى مساء يوم .. وكنت آخر مريض فى جدولها كالعادة .. أبديت لها رغبتى فى أن تدلنى على محل أشترى منه معطفا لوالدتى ..

فسألتنى وهى تصوب إلىّ نظراتها المتألقة :
ــ كم عمرها .. ؟
ــ أنها فى الثامنة والثلاثين .. مثلك .. وفى مثل طولك ..
وكانت حماقة منى أن أحدثها عن سنها .. فإن وجهها امتقع قليلا .. ثم عادت .. وابتسمت وقالت بصوت أكثر رقة ..
ــ إذن أرافقك إلى المحل .. لتقيس المعطف علىَّ ..

وقالت وهى تخلع مئزر العمل ..
ــ متى تحب أن تذهب .. ؟
ــ الآن .. إذا لم يكن لديك مانع ..

ودخلنا متجر لين كروفورد .. فى شارع دى فو .. حادثت السيدة يانج .. العاملة بالصينية فعرضت علينا أجمل ما لديها من المعاطف .. وارتدت المدام .. المعطف .. الذى وقع عليه اختيارنا .. وأقبلت وأدبرت به .. فى الممشى .. ثم دخلت به أمام المرايا البللورية ورأته من أمام ومن خلف ..

ولقد أحسست بها فى هذه اللحظة أكثر جمالا .. وفتنة .. من كل الساعات التى رأيتها فيها .. كانت حلوة آسرة .. فى المعطف السنجابى .. المتناهى فى الروعة ..

ولقد شعرت فى هذه الساعة بقلبى يتحرك فى أعماقى .. وأدركت أن يدها .. لم تكن تلمس فمى وأسنانى .. ولثتى .. وإنما كانت تلمس قلبى وأنا لا أحس بها ولا أشعر .. وكنت أود أن أحرك يدى .. وألمس كتفها .. وصدرها من فوق المعطف .. ولكنى رددت نفسى عن هذه الرغبة .. وأنا أنظر إليها بوله ..

وسألتنى :
ــ هل يروقك .. ؟
ــ طبعا .. وإنه سيحمل تذكارا جميلا ..
ــ أى تذكار .. ؟
ــ سأذكر .. أنك لبسته .. وأنه ضم جسمك ..
فاحمر وجهها .. وتحركت إلى الطاولة ..

ولما أخذت البائعة .. تلف المعطف .. سألتنى عن العنوان الذى ترسله إليه فقلت لها :
ــ فندق الجولدن جات ..

فابتسمت المدام .. ولكنها لم تنبس .. وكنت أعرف أن هذا الفندق ينزل فيه بعض الفتيات الأمريكيات .. العاملات فى هونج كونج .. فهل تصورت أننى اخترت هذا الفندق لهذا السبب ..؟ احمر وجهى وكنت أود أن أقول لها إنى لا أختلط بأحد .. ولكننى وجدت أن من الخير أن أصمت مثل صمتها ..

ولفحتنا موجة برد قارسة .. ونحن نسير فى جوار إحدى العمارات الكبيرة ..

فقلت لها :
ــ هل تقبلين منى دعوة إلى فنجان من الشاى .. ؟
ــ إنها .. بلدى .. وأنا .. التى يجب أن أدعوك ..
ــ أرجوك أن تقبلى دعوتى أولا ..

ودخلنا مشربا صغيرا .. وجلسنا متجاورين على كرسى صغير من الجلد وأحسست بها أكثر قربا .. وأكثر حنانا ..

وكانت هناك موسيقى هادئة تنبعث من جرامافون .. وفتاة من جانب قاعة الشاى .. تغنى بالصينية فى صوت هادئ حزين .. وكانت الفتاة جميلة .. ولكننى كنت متجها بكليتى إلى المدام .. فجلسنا نتحدث وكأننا نتناجى لمدة ساعة ونحن لا نحس الوقت ..

ولقد أحسست وأنا فى القاهرة .. بعاطفة الحب مع فتيات فى مثل سنى .. ولكنه كان حبا عارضا سريعا .. كنت أنساه كلية بعد شهر .. أو أقل من شهر .. ولكن هذه السيدة سيطرت على مشاعرى تماما .. ولقد قابلتها بقلب خال من المشاعر .. فتحولت كل مشاعرى إليها .. وكنت أحب فى الواقع أن تطول مدة علاجى .. إلى نهاية شهر ديسمبر وكنت أستطيع أن أحل مشكلة النقود .. بأن اقترض من تاجر باكستانى فى هونج كونج وكان يتعامل مع أخى عبد الحى .. فى الإسكندرية .. وبينهما حساب متصل .. وأنا لم أكن أعمل شيئا ذا بال يجعلنى أتعجل العودة .. فمنذ فرغت من دراستى الجامعية وأنا أخير نفسى الاستمرار فى الدراسة للحصول على الدكتوراه .. أو أن أساعد أخى فى تجارته ..
ولم أكن أفكر فى وظيفة الحكومة أبدا ..

وكانت حالتى الصحية فى الحقيقة تجعلنى أحب هذه الرحلة .. وكنت فى الواقع .. قد أنجزت فى هونج كونج مهمة جليلة القدر لأخى .. فاستطعت أن أحرك بعض نقوده المتجمدة فى بنوك هونج كونج .. وأن أحصل على كثير من نقوده التى كانت فى حكم الضياع ..

* * *

ولا أدرى هل أحست الدكتورة يانج بقلبى .. ونحن ندخل الأسبوع الرابع من أول لقاء لنا .. وكانت هونج كونج نفسها .. قد ازدادت فى نظرى جمالا وإشراقا .. وكنت قد قطعتها طولا .. وعرضا .. ورأيت كل مرتفعاتها .. وكل تلالها .. الزمردية .. وكل المباهج التى فيها وكل أنوارها الساطعة .. وبقى علىّ أن أشاهد الريف فى الصين .. وكنت أحن إلى ذلك حنينا لا يدركه العقل ..
ولما حدثت مدام يانج ..

قالت :
ــ إن لى كوخا فى الريف بالقرب من لوو .. وكنت أذهب إليه وأستريح .. ولكنه الآن شبه مهجور ..
ــ ولماذا لا نذهب إلى هناك لمدة ساعة .. لآخذ فكرة عن الريف .. ؟
ــ إذن سنذهب .. فى صباح السبت المقبل ..

وطرت من الفرح .. وخرجنا من العيادة نودع خادمها الأبلة .. وذهبنا إلى مطعم مشهور بالطعام الصينى فى شستر رود .. فتعشينا عشاء شهيا ، ثم جلسنا فى قاعة للشاى هادئة نشرب الشاى ونستمع للموسيقى .. ولقد كانت تبعد بى دائما عن كل الأماكن المزدحمة .. كانت فى حاجة إلى الهدوء والراحة ..

* * *

ولما التقينا صباح السبت فى فناء محطة هونج كونج لنركب القطار .. وجدت أن الخادم الأبله يرافقها وكان يحمل حقيبة كبيرة ..

وكنت أقدر أنه جاء ليودعها على المحطة .. ولكنه ركب معنا القطار ..

وبعد أربعين دقيقة .. من المزارع الناضرة .. والمناظر الطبيعية الفاتنة بلغنا محطة .. لوو ..

* * *

وتجولنا قليلا فى المدينة .. ثم ركبنا سيارة أجرة انطلقت بنا بين المزارع الجميلة حتى بلغنا الكوخ .. وكان عبارة عن حجرة واحدة كبيرة من الخشب وكان مطليا باللون الأحمر وسقفه محدودبا .. وعلى الواجهة رسوم من الخزف ..
وشاقنى الكوخ والمزارع التى على امتداد البصر منه ..

وكانت أشجار الخوخ والورد والتفاح تغطى الأرض .. وقريبة منا .. والبرسيم .. هو الزراعة الأساسية فى المنطقة وسررت من تقسيم الأرض الهندسى ومن الجداول الصغيرة .. والآبار المتقاربة .. والفلاحات .. يحملن الدلوين على العصا الطويلة .. وكل دلو فى جانب كالميزان .. وكن جميلات مشرقات .. وعلى رؤوسهن القبعات العريضة من الخوص ..

ووقفت مع شابة منهن أتحدث بالإشارة .. وكانت السيدة يانج .. قد دخلت مع خادمها الكوخ .. ليهيئ لنا مجلسا ويعد لنا الغداء ..
ولما عادت وجدتنى جالسا بجوار الفلاحة الصينية ..

فسألتنى :
ــ بأى لغة تحادثها ..؟
ــ بالإشارة ..
ــ هيا لنتجول .. إنك لم تأت إلى هنا لتحادث الفلاحات .. وتجولنا .. وبعد ساعة تغدينا داخل الكوخ .. ثم خرجنا لنتجول جولة طويلة .. وبعد أن تعبنا جلسنا نتحدث تحت شجرة من شجر التفاح .. ثم أخذنا المطر ونحن فى الطريق إلى الكوخ وغرقنا تحت سيل منه .. ولم نكن نرتدى معاطف .. وعندما وصلنا إلى الكوخ كنا مبتلين تماما ..

وضحكنا لمنظرنا وأشرت عليها بأن ندخل ونجفف ثيابنا .. على النار .. التى أشعلها الخادم فى الداخل ..
ولكنها طلبت منى أن أدخل أيضا ..

فقلت لها :
ــ ادخلى أنت .. أولا .. وجففى ثيابك ..
ــ وأنت كيف تظل هنا .. تحت الأمطار .. ؟
ودخلت وسحبتنى من يدى .. وهى تحادث الخادم وعملا ستارا فى جانب من الغرفة وأصبح المكان معدا لها ..
ودخلت وراء الستار لتخلع ثيابها..
وتركنا الخادم ليعد لنا الشاى ..

وخلعت أنا سترتى .. وقميصى ونشرتهما على كرسى .. بجوار النار .. وخرجت هى بقميصها .. واقتربت من النار .. وكانت الرياح تصفر فى الخارج .. والأمطار تتساقط بغزارة والظلام قد أخذ يزحف .. وكانت النار التى فى المدفأة .. هى التى تنير الكوخ ..

وجلست السيدة يانج مسترخية بجانب النار .. وانا بجوارها .. ورأيتها فى هذه الساعة .. كعذراء فى سن العشرين تستشف المجهول من خلال اللهب ..

وكانت مسترخية ومغمضة عينيها .. ويسقط اللهب الشاحب .. على الخد والجبين .. والشعر .. فيذهبه .. ويكسوه بلون العسجد ..

ودخل علينا الخادم بالشاى .. ووضع أمامنا الكوبين ..وفى قعرهما الشاى الأخضر .. ثم الإبريق الذى كان لا يزال ينش منه البخار ..

وسألتنى .. قبل أن تصب الماء المغلى ..
ــ إنك تود سكر ..؟
ــ لا .. سأشربه .. مثلك ..

وكانت متغطية .. بالبطانية .. لتخفى عنى قميصها ..وأحسبه كان على لحمها .. الطرى .. ورأيت استدارة كتفيها .. وعنقها العاجى .. وشعرها الأسود .. الذى زاده اللهب .. لمعانا وفتنة ..

وكانت عيناها تبحثان عنى فى النار .. وعن أسرارى وأسرارها .. وأسرار الحياة .. وأسرار الوجود كله .. وكنت أفكر مثلها .. فى الشىء الذى جمعنى بها .. وجعلها تأتى إلى هنا لتنفرد بى فى خلوة حالمة .. وأنا الغريب عنها .. المار فى سماء حياتها كما يمر الطيف ..

ولم يكن هناك أحد بجانب الكوخ .. أو قريبا منه .. كان على ربوة .. منعزلة ..

ولولا أنها كانت جامدة وقد أماتت السنون كل عواطف الأنوثة التى فيها لتصورت أنها اختارت هذا االمكان .. لتجدد عواطفها وذكريات شبابها ..

ودخل الليل .. ولم ينقطع المطر ورأينا أن نقضى الليل فى الكوخ .. ولم يكن بقى معنا طعام ولا شراب .. وأحسسنا بالجوع الشديد .. وبعد حديث ومشاورة .. رأت أن ترسل الخادم إلى لوو .. ليأتى لنا بزجاجة نبيذ وبعض الطعام .. والخشب للنار .. ولو أن المشوار طويل .. ويستغرق ساعتين ولكنه خير من أن ننام على الطوى فى هذا البرد الشديد ..

ومع أن خادمها كان مؤدبا .. جدا .. ولكننى شعرت بعد أن تركنا بالراحة .. وأصبحت السيدة يانج بجوارى وحدها .. وتحت لمساتى .. ورغباتى .. ولكننى لم أقرب منها ..

وكنت أود أن أسألها :
ــ ألم تحبى قط بعد زوجك ..؟
ولكننى وجدت السؤال لا معنى له .. فى مثل هذه الساعة .. لأنها لا يمكن أن تجاوب بصراحة .. وكانت قد التفت كالقوقعة ..

وكنت أنظر إلى اللهب .. الذى أخذ يتضاءل .. فى النار .. حتى كادت الشرارات أن تخمد ..

وتحركت واقتربت من الموقد وبحثت عن جذوة .. فوجدتها لا تزال مشتعلة .. ووضعت عليها قطعتين من الخشب وحركت النار .. فاشتعل المكان وتوهج .. ووجدتها ترقبنى بقوة وأنا أفعل هذا ..
وكان وجهها ساكنا ..
وأنفاسها تتردد بهدوء ..

والواقع أننى كنت أبحث عن جذوة فيها هى .. لأحركها .. كما حركت هذه النار ولكن لم أكن أدرى أين أضع أصابعى .. ؟
ورأتنى أتحرك وأتجه إلى الباب ..

فسألتنى :
- إلى أين .. ؟
- إنى أنظر إلى المطر وإلى الليل .. فى سماء الصين ..
- ألا يوجد عندكم مطر ..؟
- يوجد .. ولكن ليس بهذا القدر .. إن ما عندنا يعتبر رذاذا .. كنت أنام فى الحقول والأمطار ساقطة .. فلا تبتل ثيابى ..
ــ هل أنت ريفى .. ؟
ــ أجل .. وقضيت صباى كله فى الريف ..
ــ ولهذا تبدو قويا ..

ونظرت إلى عينيها .. وكانت أكثر اتقادا .. من عينى ..وحركت يدى .. على ذراعها وكانت البطانية لا تزال تغطى صدرها ..

وسألتها :
ــ هل تشعرين بالبرد ..؟
ــ لا .. وإنما أشعر بحاجة .. إلى فنجان من الشاى ..
ــ هل بقى شاى .. ؟
ــ أظن ..
ــ ووضعت الماء فى النار ..
وشعرت بها خجلى .. وهى تزحف ملتفة .. بالدثار ..

فتحركت إلى الباب .. واتجه نظرى إلى الخارج .. وعندما تلفت وجدتها .. عارية .. هناك وراء الستار .. ولم أكن أدرى أتريد أن تجفف الملابس الباقية .. أم ترتدى الملابس التى جفت .. ؟

وتحولت عنها إلى النار .. وكان وهجها .. يغشى عينى .. ورأيت اللهب الأحمر .. يشب ويخبو .. فألقيت بقطع من الخشب .. وتناولت الماء الذى فى الإبريق .. وكان ينش وحملت إليها الفنجان ..

وكانت قد ارتدت الجونلة .. التحتية .. وأخذت تضع الصدار .. وبدا صدرها تحت نظراتى وتحت ضوء النار ولهبها ..

ومدت يدها تمسك بالصدار .. فناولته لها .. ونظرت إلى طويلا .. وظللت ممسكا بيدها ونظراتى إلى عينيها .. وكانتا أكثر اتقادا .. من عينى .. وحركت يدى .. على ذراعها .. وسقط الصدار على الأرض ..
ــ إنك دافئة ..

ولم ترد وظلت صامتة وشددتها إلى صدرى .. وجذبتنى إلى الفراش وكنت أقبل عينيها وشفتيها وصدرها .. وكل ما يقع تحت شفتى وانطفأت النار التى فى المدفأة .. ولكن جذوتها كانت قد اشتعلت فينا .. وسقطت علينا البطانية التى كانت تستعملها كستار .. فجذبتها فوقنا ..

* * *

وتنبهت مدام يانج مذعورة على صرخة حادة خرجت منى .. فقد أحسست فجأة بسكين حادة تمزق ظهرى .. ولما نظرت المدام .. من خلال الظلام .. رأت خادمها .. يجرى منحدرا عن الربوة بسرعة الريح .. وكان قد وضع الشىء الذى حمله من السوق بجوار الباب ..

وسألت المدام .. وهى تغسل جرحى ..
ــ إلى أين هو ذاهب .. ؟
ــ سيعبر القنطرة .. ويذهب إلى الجانب الآخر ..
ــ ولا يعود .. ؟
ــ أبدا ..
ــ منذ متى وهو فى خدمتك ..؟
ــ إن له حوالى عشرين سنة .. فى بيتنا ..
ــ إنه جذوة .. مثل هذه الجذوة التى ترينها فى هذا الرماد .. جذوة مشتعلة .. ولكنك لم تحسى بها .. وتلك هى الغفلة الأزلية .. فى المرأة .. وفى طبيعة الكثير من البشر ..
ــ اسكت .. إن الكلام يؤذيك .. ويجعل الجرح .. ينز ..
ــ وهل سأشفى ..
ــ بالطبع ..
ــ الطعنة .. لم تكن قاتلة .. ؟
ــ أبدا .. إنها سكين صدئة وجدها فى المطبخ ..
ــ أحس بأنى سأعيش .. ولكن إن مت .. اجعلى رأسى هكذا على صدرك ..
ــ اسكت ..

واحتضنتنى .. أكثر .. وأحسست بشفتيها تبحثان عن الجرح ..

================================
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " 23/2/1959 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================


اللــؤلــؤ
قصة محمود البدوى


هونج كونج ميناء حرة .. وفى سوقها كل ما ينتج فى العالم .. والساعات والجواهر واللؤلؤ هى أشهر الأشياء التى تباع فى الحوانيت .. هذا ما عرفته من الدليل ..

وعندما سرت فى حى شستر رود فى قلب المدينة مستعرضا الحوانيت .. كنت أفكر فى شراء عقد من اللؤلؤ .. أهديه لوالدتى .. عندما أعود إلى القاهرة فتفرح به .. فى مرضها .. وأكفر به عن كل سيئاتى لها .. طوال هذه السنين .. وأرد لها بعض ما كنت أغتصبه منها من نقود .. لأنطلق وراء الشيطان ..

وعندما تموت سأسترد العقد .. وأبقيه للظروف .. فهو كنز وفى استطاعتى إذا بعته أن أكسب منه مئات الجنيهات ..

وعندما دخلت محل يونج أكبر تجار الجواهر فى هونج كونج .. رأيت اللآلئ لأول مرة فى حياتى .. ولمستها بأصابعى العارية .. كنت أراها من قبل عن بعد على صدور النساء الأنيقات فى حفلات الأوبرا .. أو أراها مصورة فى الصحف .. أما الآن فقد لمستها ..

وضعت البائعة عقد اللؤلؤ على صدرها وزهت به .. وعرفت منها اللآلئ المصنوعة واللآلئ الطبيعية .. ولم أستطع لا بالنظرة المجردة ولا حتى بالمجهر أن أميز أى فرق ..
واشتريت عقدا صغيرا من اللؤلؤ الطبيعى ودفعت فيه تسعة آلاف دولار ..

وفرحت به .. ووضعته فى حقيبة صغيرة .. وأغلقت عليه الدولاب فى الفندق .. كشئ عزيز المنال ..

وكنت دائما أفكر فيه .. وجعلنى التفكير .. أدخل محلا آخر فى حى المتاجر الشهير فى شارع دىفو .. لأعرف السعر .. فقد تصورت أن الرجل اشتط علىّ فى الثمن ..

ولما عرض علىّ التاجر الثانى بعض ما عنده من لآلئ جعلنى .. أشك فى كل شىء .. فقد فهمت منه .. أن هناك لؤلؤا يزرع فى أعماق البحار .. كما تزرع أشجار المانجو والتفاح فى الأرض ويظل فى أعماق البحار من ثمانى إلى عشر سنوات .. وهذا اللؤلؤ المزروع لا فرق بينه وبين اللؤلؤ الطبيعى على الإطلاق .. وخرجت من عنده وأنا ألعن القدر الذى جعلنى أفكر فى شراء شىء ليس لدىّ أدنى خبرة فيه ..

ثم شغلت بجمال المدينة .. ومافيها من بهجة ولم أعد أفكر فى الأمر كما كنت أفكر فيه من قبل ..

وكنت أقيم فى فندق السهم الذهبى .. بشبه جزيرة « كولون » .. ولكننى كنت أذهب فى بكرة الصباح إلى هونج كونج .. وأشاهد هذه المدينة الراقدة على سفح التل وهى تبدأ الحياة .. وبعد أن أعبر الخليج وأخرج من الميناء .. أشترى جريدة جنوب الصين .. من بائعة هناك على الرصيف .. وكانت كما بدت لى أرملة .. فى الخامسة والثلاثين من عمرها .. ترتدى رداء صينيا .. من قطعتين .. وكان يجلس بجوارها غلام فى الخامسة عشرة من عمره يمسح الأحذية .. وكنت أمسح عنده حذائى كل صباح .. وأعطيه نصف دولار فى كل مرة .. فيسر به كثيرا ..

وكنت أقلب فى الجريدة فى الفترة التى أمسح فيها الحذاء ثم أتركها للمرأة وأنا ماش بعد أن أكون قد نقدتها الثمن .. فكانت تسر جدا من هذا العمل .. وتحاول فى كل يومين أو ثلاثة أن تعطينى مجلة التايم .. أو مجلة لوك فى مقابل الجريدة التى أردها إليها .. ولكننى كنت أرفض ..

وكان الغلام عندما يشعر أننى فى حاجة إلى تاكسى ..يقفز أربع قفزات فى الهواء إلى الموقف ويأتى بواحد منها فى لمح الطرف .. وكنت أعجب لهذه السرعة الخاطفة ..

وبعد أن أتجول فى المدينة كنت أستريح فى مشرب على الطريق أستعرض من وراء الستر المسدلة العابرين فى الطريق .. وكانت النساء بجيوبهن المشقوقة .. ومشيتهن اللينة هن أكثر الأشياء استلفاتا للأنظار ..

وكانت المدينة بعد الساعة التاسعة والنصف .. وبعد أن تفتح جميع الحوانيت والمتاجر والبنوك تصبح كخلية النحل ..

ولم أكن أنتقى مكانا معينا .. كنت أجلس كما اتفق فى أى مكان أستطيع أن أشاهد منه متعة أكثر ووجوها اكثر إشراقا ونضارة ..

ولكنى كنت أتغدى فى مكان معين فى « كولون » ولقد اخترته لأنه مطعم صغير هادىء .. ولأنه كان يقدم أجود الأطعمة.. بأرخص الأسعار .. ولأننى كنت أرى فيه مجتمعا من النساء والرجال من كل الأجناس ندر أن أراهم فى مكان آخر .. كان كأنه مطعم دولى .. وكان يأتى إليه كثير من الأوربيات والأمريكيات العاملات فى هونج كونج .. وفوق هذا فقد كانت مديرة المطعم حسناء ..

وكنت أختار مائدة قريبة منها .. لأمتع نظرى بجمالها .. وكنت أذهب لأتغدى فى الساعة الواحدة تماما .. وأمكث هناك من الواحدة .. إلى الثالثة بعد الظهر .. أشرب القهوة .. وأطالع الصحف وأتطلع إلى الوجوه .. وكنت أحاول فى الفترة التى يخلو فيها المطعم من الآكلين ويخف الرواد ويتحول إلى قاعة للشاى .. أن أنفرد بالحديث مع المديرة الحسناء .. ولكنها كانت تصدنى بجفاء لا يوصف .. ولقد جعلنى هذا الجفاء أتعلق بها أكثر .. وأكثر ..

وكانت تجيد الإنجليزية .. ومع أنها صينية وولدت فى هونج كونج ولكن ملامحها لم تكن صينية خالصة .. وكنت أقدر أن والدها أجنبى قطعا .. وإذا لم تكن أمها تزوجت بإنجليزى .. فقد أتت بها عن طريق غير شرعى ..

وكان شعرها أسود غزيرا .. وشفتاها غليظتين ..حمراوين .. حمرة قانية .. كانتا تلمعان أبدا .. كأنما سقيتا الشهد منذ لحظات ..

وكانت فتحة عينيها آسرة وفى تقاطيع جسمها وبشرتها .. كل النعومة والفتنة والبياض الذى تتيه به أجمل النساء وكانت إقامتى الطويلة فى المطعم تجعلنى أذهب .. إلى دورة المياه .. لأغسل وجهى قبل أن تنقطع المياه من « كولون » فقد كانت . تنقطع ساعات معينة من النهار .. ولأنى كنت استأنف تجوالى فى المدينة ولا أذهب إلى الفندق وكنت وأنا هابط إلى دورة المياه .. وكانت فى الدور الأسفل .. ألتقى بعمال المطبخ ..

وكان هناك رجل صينى فىالثلاثين من عمره .. كئيب السحنة .. لم يكن وجهه ترتاح له العين ..

وكنت أرى هذا الرجل يصعد إلى الدور العلوى بعد أن تغير المفارش التىعلى الموائد ويجلس بجوار مس تشن .. يشرب الشاى ويتحدث مدة طويلة .. ثم يعود ويهبط كما كان ..

وكان وجهه مدورا وعيناه منفوختين وفى خده الأيمن آثار جروح .. كان كأنه ضرب بمشرط حاد .. فى أكثر من موضع .. ومع أنه كان واحدا من الذين يجيدون التحدث بالإنجليزية فى المحل .. ولكننى كنت لا أسأله عن شىء ..

وكان هذا المطعم الصغير يوجد على غراره كثير من المطاعم فى حى الجولدن جات ، ويوجد هناك كثير من الفتيات الجميلات يخدمن ويبعن الشيكولاتة .. والسجائر للزبائن .. ولكننى فتنت بمس تشن من أول نظرة .. وكانت قدماى تقودنى إلى مطعمها دون أن أشعر .. كنت كالمأخوذ فى الواقع ..

وفى خلال الأسبوع الأول أدركت أنها سيطرت على مشاعرى تماما ..

وكانت تجلس صامتة على البنك قليلة الكلام .. قليلة الحركة .. فى دلال طبيعى .. وكان هذا الدلال .. يسحرنى ..

وكنت أسمعها تحادث الإنجليزيات اللواتى يأتين إلى المطعم ليأكلن ويشربن الشاى بلغة رشيقة .. وتبدأ ابتسامتها الحلوة فى هذه اللحظة ..

وكنت كلما تقدمت لمحادثتها أشعر بعينيها تقولان لى :
ــ لا تضيع وقتى .. بحديث ملفوف ، أنا أعرف غرضك ..
وكنت أتعذب .. وأعود إلى المائدة وأنا أغلى من الغيظ ولكننى كنت أكتم عواطفى .. وفى كل يوم يمر أزداد تعلقا بها .. ولم أكن أنقطع عن الذهاب إلى المطعم أبدا .. وكان الغداء ينتهى عادة فى الساعة الثانية بعد الظهر ويخف الرواد ولكننى كنت أبقى .. أكتب بعض الرسائل أو أتلهى بعمل أى شىء .. وعيناى لا تتركانها أبدا ..

وفى حوالى الساعة الثالثة .. كانت تتحرك من وراء الطاولة .. بعد أن تجمع النقود فى حقيبتها .. وتنزل إلى الدور الأرضى ..

وفى تلك اللحظة كنت أشاهد ساقيها واستدارة فخذيها .. وكل تقاسيم جسمها فى الرداء الضيق ..
ولم تكن ترتدى الرداء الصينى المشقوق الجيوب أبدا .. ثم تخرج من الطابق الأرضى وهى فى أبدع زينة وتحيى الخدم وتنصرف ..

وتبعتها مرة فلاحظت أنها تسكن فى بيت قريب من المطعم ..
وكان فى مدخل البيت دكان صغير فدخلته أتفرج على بعض القداحات حتى تصعد هى .. وعندما بصرت بى وأنا أتبعها ظلت نظراتها جامدة ..

ولقد حاولت بشتى الوسائل .. وبكل مالدى من تجارب أن أذيب هذا الجمود .. ولكننى لم أوفق أبدا .. كانت تنظر إلى دائما .. كشىء لا ترتاح عيناها إلى طلعته .. ولقد جعلتنى أنظر إلى وجهى فى المرآة أكثر من مرة لاحاول أن أعرف ما ينفرها منى .. وأدركت أخيرا أنه ربما يكون الندب الحاد الذى فى الجبهة .. أو العينين الضيقتين .. كعين الصينيين أنفسهم فهى مع كونها صينية ولكنها لا تحب من يشبه بنى جنسها ..

وذهبت إليها مرة ومعى ورقة بخمسة آلاف دولار .. لأفكها ..
فقالت بصوت ساكن :
ــ ليس لدى فكة .. انظر ..
وقلبت الدرج وأرتنى أكثر من عشرين ورقة كبيرة .. وهى تغمزبعينيها استخفافا .. فقد تصورت أننى أريها الورقة .. لأدلل لها على ثرائى ..

ولقد زادنى هذا غيظا .. لتفاهة تفكيرها .. وكنت أود أن أصفعها .. ولكننى كتمت غيظى ..

وذات مرة رأيتها تضع عقدا من اللؤلؤ على صدرها فى حجم العقد الذى اشتريته .. فسألتها :
ــ ألك خبرة باللآلئ .؟ لقد اشتريت عقدا .. مثل هذا وأخشى أن يكون مصنوعا ..
ــ هل هو معك ؟
ــ لا .. إنه فى الفندق ..
ــ هاته غدا لنراه ..

وفى اليوم التالى .. أحضرت العقد .. ونظرت إليه طويلا بإعجاب .. وقالت :
ــ أظنه طبيعيا .. لؤلؤ خالص ..
ــ وكيف ميزته ..؟
ــ إنه ثقيل .. وفصوصه .. غير منتظمة .. به العيوب التى توجد فى اللؤلؤ الطبيعى ..

وسرت كثيرا .. وسألتنى :
ــ لمن اشتريته ..؟
ــ لوالدتى ..
ــ كنت أظنه لعشيقتك ..
ــ ليس لى عشيقات ..
ــ أبدا ؟..
ــ أبدا ....
ــ مظهرك يدل على أن لك عشيقة فى كل ميناء ..
ــ كالبحارة ..
ــ تماما ..

ومددت يدى بالعقد .. إليها .. وفوجئت بالعرض وقالت برقة :
ــ أشكرك ..
ــ لماذا .؟ تفضلى .. يمكننى أن أشترى غيره ..
ــ ليس له مكان فى صدرى .. إن صدرى مشغول ..كما ترى ..

وطويت العقد فى جيبى وأنا مسرور بهذه النتيجة .. رغم رفضها العقد.. وبعد ساعة نزلت إلى الطابق الأرضى .. فوجدتها هناك أمام المرآة تتزين ..

وكانت قد خلعت كل عذارها .. وبدا صدرها كله عاريا وهى تمشط شعرها .. ورأتنى وأنا أنظر إليها بقوة .. ولكنها تجاهلت نظراتى .. واستمرت فى زينتها كأنها لا ترانى ..

ولما خرجت من الباب الخارجى حيتنى لأول مرة بهزة من رأسها ..

وفى اليوم التالى .. بقيت فى المطعم حتى وقت تناول الشاى فى الساعة الخامسة .. وعرضت عليها نزهة فى أى مكان تختاره ..

فسألت :
ــ أين .. ؟
ــ نذهب إلى هونج كونج .. ونتعشى فى المطعم الفرنسى ..
ــ أشكرك .. إنك ترى أنى مشغولة جدا .. ليس لدى وقت ..
ــ ولكن أرجو أن تصحبينى فى جولة ولو قصيرة ..
ــ دعنى أفكر فى الأمر إلى الغد ..
وفى الغد قبلت أن تذهب إلى السينما فى هونج كونج ..

وعندما صعدنا من الباخرة .. وجدت المرأة الصينية التى تبيع مجلة مصورة وكان بجوارها الغلام .. ولكننى لم أستطع مسح الحذاء ومعى مس تشن .. فأعطيت الولد دولارا وفرح به كثيرا ..

وكان الفيلم أمريكيا وآفا جاردنر تهز المشاعر .. فأمسكت بيد مس تشن ولكنها سحبت يدها من يدى بسرعة وقالت هامسة :
ــ أرجوك إننا فى هونج كونج .. ولسنا فى لندن أو باريس ..
فتركت يدها .. وجلست صامتا حتى أضيئت الأنوار ..

وأصبحنا نتقابل كثيرا فى الفترة التى تستريح فيها فى الظهر .. فنذهب فى أى جولة نهارية ..

وحدث فى يوم من أيام الأربعاء .. وكنت قد ذهبت من الصباح أشاهد حى الصيادين فى ابردين .. أن عدت إلى المطعم بعد الساعة الرابعة .. فلم أجدها على البنك .. فتصورتها ذهبت إلى بيتها لتستريح .. ولكننى لما نزلت إلى الدور الأرضى .. أغسل وجهى سمعت همسا .. ثم رأيتها فى المطبخ تعانق ذلك الرجل الصينى القبيح الوجه وتأكل شفتيه وقد غفلت عن كل شىء حولها .. وأسرعت صاعدا حتى لا ترانى .. ثم تناولت زجاجة صغيرة من البيرة وخرجت مسرعا من المطعم .. قبل أن تصعد هى ..

وفى اليوم التالى ذهبت عندها لأتغدى .. فتركت البنك وجاءت إلى مائدتى .. على غير عادتها ..

وسألتنى فى دلال :
ــ لم نرك .. أمس .. يا سيد جعفر .. ؟
ــ كنت فى آبردين ..
ــ بصحبة بعض الفتيات طبعا ..
ــ كنت وحدى ..
ــ هذا غير معقول ..
ــ لماذا تتصورين دائما .. أنى كازانوفا ..
ــ لأنى أعرف الرجل من عينيه ..
ــ دعك من هذا الكلام .. لماذا لا تذهبين معى الليلة إلى مرقص فى هونج كونج .. ؟
ــ غدا يمكن أن أذهب معك إلى مكان أجمل من المرقص ..
ــ أين ؟
ــ سنصعد الهضبة معا .. ونركب الترام الجبلى .. ونرى المدينة الحالمة .. فى الليل ..

ثم رأتنى أخرج العقد اللؤلؤى من جيبى الخارجى .. وأضعه فى الجيب الداخلى فسألتنى ..
ــ لماذا تحمله معك .. هل لازلت تشك فيه وتود أن تعرضه على بعض الخبراء .. ؟
فضحكت ..
ــ أبدا .. يحدث كثيرا أن أنسى الدولاب .. فى غرفتى مفتوحا والأحسن أن أحمله معى دائما كما أحمل كل نقودى ..
ــ هذا أحسن .. فقط حاذر من النشالين ..
وتركتها .. وأنا فى غاية السرور ..

والتقينا فى مساء اليوم التالى بعد أن أغلق المطعم أبوابه ..
وعبرنا الخليج .. وكانت الباخرة تصفر وقالت لى هامسة .. ونحن نصعد سلم الميناء الخشبى :
ــ احترس من النشالين .. لأنهم يكثرون فى الموانى ..

فشددت على يدها شاكرا عواطف قلبها .. ورأيت فى مفترق الطرق .. الغلام ماسح الأحذية هناك .. على الرصيف .. وبجواره أمه .. فأعطيته دولارين .. وأدركت المرأة الصينية وغلامها سعادتى فى تلك اللحظة وتبعانى ببصرهما .. وأنا أركب تاكسى مع مس تشن .. إلى محطة .. الترام الجبلى ..

وبعد ثلاث محطات نزلنا ومشينا بين الأشجار .. وأعطتنى هناك شفتيها فى الظلام أكثر من مرة .. وذقت لذة الشهد الخالص من كل مرارة ..

ثم استدرنا مع الطريق الهابط بين الأشجار .. وهناك بصرت شبح الطاهى القبيح الوجه الذى يعمل فى مطعمها ..

ولما اقتربت من الشبح اختفى ثم استبعدت وجوده فى هذه االمنطقة وأبعدته عن ذهنى بعد عشر خطوات .. وقلت لمس تشن وأنا نشوان ..
ــ لماذا لا نقضى الليل معا .. ؟
ــ أوه هذا .. ولكن أين .. ؟
ــ فى الفندق ..
ــ سنذهب إلى مكان أكثر أمانا فى هونج كونج لأنى لا أستطيع أن أقضى الليل معك فى كولون ..
وكدت أطير من السعادة ..

ونزلنا من الهضبة .. ودخلنا فى شارع صغير قليل الضوء .. وكنت بجوارها صامتا حالما بالمتعة التى لا يحصل على مثلها انسان ثم تقدمتنى لترينى الطريق ..

وفجأة حدث شىء كالصاعقة .. رأيت حبلا .. يلتف على عنقى .. ويجذبنى من الخلف .. فسقطت على الأرض وسمعت وأنا أسقط صرخة .. حادة ..

ولم أكن أنا الذى أصرخ .. كان الذى يصرخ شخص غيرى .
وأحسست بالحبل يفلت من عنقى .. ويدا تمسك بى فتنهضنى .. ولما تبينته بعد أن رجعت إلى أنفاسى ألفيته الغلام ما سح الأحذية .. وكان قد شد عنق الرجل الكئيب إلى جذع شجرة .
وكانت مس تشن قد ابتلعها الظلام .. وعربة مغلقة تقبل مصفرة وتلحس بأنوارها القوية أرض الشارع المرصوف ..
وكانت هذه العربة هى الشىء الوحيد الذى يدل على الحياة .. فى هذه المنطقة وكان عقد اللؤلؤ قد سقط من جيبى .. وتناثرت حباته على الأرض ..

فنظرت إليه فى غير اكتراث .. لم يكن يعنينى ان يكون زائفا أو طبيعيا الآن .. فقد لمست اللؤلؤ الحقيقى .. فى الإنسان ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 8/9/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================

الركشـــا
قصة محمود البدوى

اشتريت من محل هويت وبز بشارع دى فو .. بهونج كونج قميصا أمريكيا من الذى يغسل ويلبس دون أن يكون فى حاجة إلى مكواة . وفرحت به مع غلو ثمنه .. لأنه سينفعنى منفعة ملموسة فى سفرى الطويل ..

ولكن فرحتى لم تتم .. فعندما رجعت إلى الفندق وفتحت اللفافة التى تناولتها من المحل لم أجد فيها القميص ووجدت بدله بيجامة حريرية نسائية .. فابتسمت لتصاريف القدر ..

فماذا أصنع ببيجامة نسائية فى هونج كونج .. كانت البيجامة أنيقة ومن النوع الغالى وتساوى ثمن القميص وتزيد .. ولكن ماذا أصنع بها ..

فكرت فى أن أهديها .. لفتاة يابانية فى طوكيو ... أو أن أقدمها لأى سائحة ألتقى بها فى الفندق .. أو أن أبقيها معى فأهديها لواحدة من قريباتى فى القاهرة ..

وقد جعلنى الخاطر الأخير أنشرها .. لأعرف مقاسها .. وأخصص الفتاة التى تناسبها .. فسقطت منها على المرتبة علبة بودرة ذهبية .. كانت مطوية بين ثناياها .. وكانت العلبة دقيقة الصنع ومطعمة بالصدف ..

ودفعنى هذا إلى أن أحمل اللفافة إلى المحل فى عصر اليوم نفسه ..

وأسفت الفتاة العاملة لما حدث .. وقالت لى إن السيدة صاحبة البيجامة اتصلت بها بالتليفون .. وتركت اسمها ورقم الغرفة التى تشغلها فى الفندق ..

فطلبت من الفتاة أن تتصل بها تليفونيا بالفندق وتحدثها عن رغبتى فى أن أحمل إليها البيجامة بنفسى .. لأنى أعرف موقع الفندق ..

واتصلت بها .. وكانت السيدة تود أن تجىء إلى المتجر ولكننى أعفيتها من هذا المشوار ..

وخرجت من المتجر .. وعبرت الخليج واتخذت طريقى .. إلى فندق ميرامار بشارع كيمبرلى رود بكولون ..

وركبت المصعد .. وسألت الغلام .. الذى كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة عن السيدة كريستينا بالغرفة رقم 86 .. فقادنى إليها .. وسط مظهر من مظاهر الفخامة والأناقة اللتين تتميز بهما فنادق كولون ..

وضغطت على جرس الباب .. وفتحت لى شابة طويلة العود .. ونظرت بعينين زرقاوين إلى كيس الورق .. الذى فى يدى ..

وقلت لها بالإنجليزية :
ــ أرغب فى مقابلة الآنسة كريستينا ..
ــ إننى كريستينا ..
ــ لقد جئت لك بالبيجامة
ومددت يدى بالكيس .. وكنت أود أن أذهب ..
ــ شكرا .. تفضل .. حتى أجىء لك بالقميص ..

وأدخلتنى إلى صالون صغير .. ملحق بغرفتها .. واعتذرت لها عن الخطأ الذى حدث بسببى .. لأننى تناولت لفافتها من فوق الطاولة وأنا أحسبها لفافتى ..

فقالت بدماثة وهى تطيل النظر إلىّ بعينيها الواسعتين ..
ــ إن هذا الخطأ .. أتاح لنا فرصة لنلتقى بشاب هندى .. ونحن فى طريقنا أنا وزوجى إلى بومباى ..
ــ لست هنديا ..
ــ حقا .؟
ــ إننى مصرى .. وقد رأيت بومباى .. ويمكننى أن أحدثك عنها ..
ــ جميل .. هل تشرب قهوة .. أو أطلب لك بعض العصير المثلج .. اليوم شديد الحرارة ..
واخترت العصير .. لأن الحرارة كانت شديدة حقا ..

وكانت السيدة كريستينا ترتدى فستانا أبيض خفيفا ..من قطعة واحدة .. قصير الأكمام .. ومفتوحا عند الصدر .. يتناسب مع هذه الحرارة .. وكانت مقصوصة الشعر .. ينسجم ثوبها على جسمها ويبرز تقاطيعه ..

وبعد أن شربت العصير .. دخل علينا رجل سمين من الباب دون استئذان فخمنت أنه زوجها ..

وابتدرته قائلة :
ــ ألبرت .. إن السيد مصرى .. وقد زار بومباى .. وسيحدثنا عنها ..
فقال ألبرت ..
ــ حقا ..؟

ووضع آلة تصوير ــ كان يحملها ــ جانبا .. ونظر إلىّ فى ابتسام .. وكان سمينا وعمره ضعف عمر زوجته .. ويبدو من شكله وهندامه وحديثه أنه رحالة ويحب عشرة الناس .
وكانت كريستينا أكثر حيوية وحركة منه .. وأكثر تعطشا لمعرفة الغريب ..

ولاحظتها جيدا .. وهى رائحة وغادية فى الغرفة .. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها .. طويلة العود .. وكانت بشرتها ناصعة البياض نقية .. ولاحظت أن أنامل يدها وهى تقدم لى كوب العصير طويلة مع دقتها ورقتها .. وأن الأظافر طويلة أكثر مما رأيت فى أنامل الحسناوات ..

ولما نظرت إلى ساقيها بإمعان رأيت شعرا خفيفا كالذى بدا فى سيقان بلقيس .. عندما كشفت عن ساقيها .. منذ آلاف السنين .. وهى تخوض فى عرشها ..

وسألتنى برقة وهى تنظر إلىّ بقوة ..
ــ هل تسافر على خطوط شركة اسكندنافيا .. مثلنا .. أحسبنى رأيتك فى بانكوك .. هل رأيت الحر .. الذى هناك ..؟
ــ إن الحر فى بومباى .. ضعف هذا مائة مرة ..
ــ أوه .. إذن ستشوى جلودنا هناك ..
وأيدت هذا بحركة من يدها على ثوبها .. كأنما تود أن تخلعه ..

وكنت أقدر أنها دانمركية .. أو هولندية .. ثم عرفت أنها سويدية وزوجها هولندى وأنهما فى سياحة طويلة مثلى إلى الشرق الأقصى ..

وبعد حديث عن هونج كونج .. وبومباى .. تناولت منها القميص وأنا أشكرها بشدة وحييتهما وانصرفت ..

والتقيت بهذه السيدة مرة أخرى بعد أسبوع وكان معها زوجها .. فى ردهة بنك شنغاهاى .. بهونج كونج ..

وفاض وجهها بالبشر لما رأتنى وقالت ..
ــ هالو .. السيد مختار ..
ــ هالو .. مدام كريستينا .. هالو مسيو ألبرت .. لازال اسمى فى الذاكرة .
ــ بالطبع ..
وخرجنا من البنك معا ..

وركبنا الباخرة .. وعبرنا الخليج وبعد أن نزلنا على رصيف شبه الجزيرة .. عزمت عليهما بفنجال الشاى فى « المزرعة » فقبلا ..
وبعد أن شرب ألبرت الشاى .. واستراح قليلا .. أبدى رغبته فى أن يذهب إلى شركة السياحة ليحجز تذكرة له ولزوجته .. إلى مانيلا ..

وقال لزوجته ..
ــ يمكنك أن تنتظرينى هنا .. إذا كان المشوار يضايقك ..
فقالت ..
ــ سنتلاقى فى الفندق على الغداء ... ربما تجولت فى المدينة ..
وسلم علينا وانصرف .. ولاحظت أنه يحمل آلتين للتصوير ..
فحدثت زوجته عن هذا ..
فقالت باسمة ..
ــ إنه مغرم بالتصوير .. واحدة جديدة لايكا .. اشتراها أمس من هونج كونج .. والأخرى قديمة .. أحسبه سيذهب إلى الخليج ليصور .. قبل ذهابه إلى شركة السياحة .. وربما لا يذهب إلى الشركة وينساها فى غمرة ما يلتقط من صور ..
ــ إلى هذا الحد .. هو مغرم ..؟
ــ إلى هذا الجنون ..

وجلسنا نتحدث ولاحظت أنها تجيد الإنجليزية .. وتتحدث قليلا بالفرنسية والألمانية .. وأنها تكثر من التدخين .. وألقت بالسيجارة الرابعة .. أو الخامسة فى الطفاية ..

وقالت وهى تثبت عينيها على وجهى بابتسام :
ــ يمكننا أن نتمشى .. قليلا فى المدينة .. إذا لم يكن لديك موعد ..
ــ بكل سرور ..
ونهضنا معا .. وأخذنا نتجول فى مدينة « كولون » ..

وكانت عربة الركشا .. تعترضنا بعد كل خطوة .. لنركب فيها .. ويلح الرجل الذى يجرها رغم رفضنا ..

وأخيرا قلت لكريستينا ..
ــ هل تركبين فى جولة قصيرة ..؟

فركبت فرحة .. وركبت بجوارها .. وشعرت بسعادة لا توصف رغم أنى كنت متحفظا جدا .. وهى بجوارى فلم ألتصق بها فى عربة الركشا الضيقة .. وكان المجال يدعو إلى الالتصاق ..

وكانت العربات .. والسيارات تمر بنا عن قرب حتى تكاد تلتصق بنا ..
وكانت كريستينا تضحك لهذا وسألتنى ..
ــ هل رأيت لندن ..؟
ــ أبدا ..
ــ إن ترامها .. وسياراتها مثل هذه ..
ــ والخلاف الوحيد .. أنه لا توجد ركشا هناك ..
ــ أجل .. نسيت هذا ..

ومر علينا أطفال .. خارجون من المدرسة .. فتوقفت حركة المرور كلها حتى عبروا الشارع .. وقالت كريستينا بقلب منشرح ..
ــ ما أجمل ثيابهم .! وأنضر وجوههم ..!

وظلت تتبعهم ببصرها بلذة .. وكأنها تتمنى أن تلتقط واحدا منهم وتجلسه معنا فى العربة ..

وبعد جولة طويلة .. نقدت السائق أجره ومشيت مع كريستينا حتى باب فندقها وقبل أن نفترق دونت اسم الفندق الذى أنزل فيه وعرفت رقم غرفتى ..

وحوالى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى .. حدثنى زوجها فى التليفون .. وقال لى إنه يسعده هو وكريستينا لو أرافقهما فى جولة فى الترام الجبلى ..

ومع أنى زرت هذه المنطقة السياحية من قبل أكثر من مرة ولكن قبلت الدعوة ..

وكان ألبرت يلبس قميصا .. قصير الأكمام .. على بنطلون من التيل الأخضر .. ومعه آلتا التصوير وكريستينا تلبس صديرا أبيض وجونلة قصيرة إلى الركبة وليس بيدها حقيبة .. وقد جعلنى هذا أنظر إلى أظافرها أكثر وأكثر وأفزعنى طولها على ضوء المصباح أكثر من أى مرة شاهدتها فيها ..

وصعدنا إلى الهضبة .. ثم انحدرنا إلى خليج استانلى .. ولم نذهب إلى ابردين لأننا أحسسنا بالجوع .. وكان يتحتم علينا أن نتغدى فى هونج كونج .. لأن ساعة الغداء فاتتنا فى فنادقنا بكولون .. فتغدينا فى مطعم صينى حافل بالأطباق المختلفة ..

ولما خرجنا إلى الشارع شاهدت على الرصيف المقابل اعلانا عن قصة « فيرن » حول العالم فى ثمانين يوما .. وكانت قلوبنا تواقة إلى هذا الفيلم فدخلنا .. مع أن الساعة كانت الواحدة والنصف بعد الظهر ومضى من العرض نصف ساعة ..

وأجلس الزوج المهذب كريستينا بينى وبينه .. وأخذنا نتابع الرواية على الشاشة ونحاول أن نفهم الحوادث التى سبقتنا .. ثم طال جلوسنا وطال صمتنا .. لأن الرواية طويلة ..

وفجأة أحسست بكريستينا تميل على أذنى وتهمس :
ــ أريد أن أدخن سيجارة ..

فنظرت إليها فى الظلام ولم أجاوب على رغبتها إلا بابتسامة بلهاء .. ورأيتها تميل على أذن زوجها ..

ورأينا أن نترك نحن الثلاثة الشاشة لندخن سيجارة فى خارج الصالة ثم نعود إليها ..

وعندما تحركنا فى الممر .. كانت كريستينا تمشى أمامى .. ولم أر فى الظلام من جسمها غير ساقيها العاريتين .. وبدا لى فى هذه المرة أنها أزالت من فوقهما الشعر الخفيف النابت ..

وقفنا نحن الثلاثة فى بهو السينما الخارجى ندخن بنهم .. والظاهر أن منظرنا كان لافتا للنظر .. فقد رأيت شخصا يرقبنا بعينى صقر .. على الرصيف المقابل ..
وقبل أن ندخل وثب نحونا .. قطع الشارع فى وثبتين .. وأصبح بجوارى ..
وقال هامسا بالإنجليزية :
ــ هل تريد أن تشاهد رقصا مثيرا .. وتدخن الأفيون .؟
ونظرت إلى صف أسنانه الذهبية وقلت سريعا ..
ــ لا .. اذهب ..
ــ إنه مثير .. ولن تدفع كثيرا ..
ــ لا .. اذهب .. اذهب ..
وكانت كريستينا تنظر إلينا وقد انفرجت ثناياها ..
وسألنى ألبرت :

ــ ما الذى يطلبه ..؟
ــ يدعونا .. إلى رقص صينى ..

وتحول الرجل إليه .. وأخذ يحادثه هامسا .. وسألنى ألبرت :
ــ ولماذا لا نذهب ..؟
ونظرت إلى كريستينا واحمر وجهى .. وقال ألبرت :
ــ إنها تسر جدا .. من هذه المناظر ..
وسألت كريستينا ..
ــ أى مناظر ..؟ إننى فى كل الأحوال معكما .. أينما تذهبان ..
وضحكنا.. واتفقنا على أن نقابل الرجل الصينى ذا الأسنان الذهبية ـ عند رصيف البواخر فى الساعة التاسعة ليلا ..
وعدنا إلى صالة السينما مرة أخرى ..

* * *

وفى الساعة التاسعة وجدنا الرجل فى انتظارنا .. وكانت كريستينا متأنقة فى ملبسها ومتعطرة .. كأنها ذاهبة إلى حفلة سواريه فى الأوبرا .. أما زوجها فكان كما تركته فى الساعة الخامسة لم يغير قميصه ..

وركبنا عربتين من عربات الركشا .. إلى المرقص الخفى عن العيون .. وركبت كريستينا معى فى هذه المرة أيضا .. وكان يمكن أن أركب ومعى الدليل ولكن ألبرت جذبه إلى عربته بلباقة .. وسرنا فى شوارع ضيقة ومظلمة وأنا أتوقع بعد كل خطوة شرا .. وأقدر أنها مصيدة .. وكنت أسمع عن كل حوادث هونج كونج التى تقع فى الظلام .. ولكن وجود كريستينا بجوارى فى العربة كان يطمئننى .. وجعلنى أشعر بقوة تجعلنى قادرا على مواجهة كل احتمال ..

وفجأة دخلنا فى تيه من الشوارع الصاعدة والهابطة .. ثم اخترقنا صفا من الأشجار المتعانقة المتشابكة ..

وقالت كريستينا .. وقد رأيتها تضع يدها على خدها : أنها تشعر بأنها محمومة .. من الغروب .. وكان يجب أن تستريح فى الفندق .. بدل هذه الحماقة ..

وكان واجبى كجنتلمان أن أمسك بيدها .. وأجس مبلغ حرارتها ولكننى لم أفعل ونظرت إلى أظافرها مرة أخرى ..ورأيت أن المسافة بينى وبين ثوبها الذى على فخذها .. أكثر من سبعة سنتيمترات فجعلتهما عشرة ..

وقبل أن نصل إلى الشارع الذى فيه المرقص .. ! توقفت الركشا .. ونزلنا ..

ومشينا وراء الدليل .. حتى توقف وراء باب صغير .. وقرع الجرس .. وأطل رأس صغير من كوة .. ثم فتح لنا الباب ..

وانحدرنا عدة سلالم ثم اجتزنا دهليزا معتما .. أفضى بنا إلى قاعة فسيحة صفت فيها ست مناضد على الجوانب والأركان .. وكانت الإضاءة خفيفة .. والقناديل معلقة من السقف .. والدخان يعبق المكان .. والجو كله شرقى حالم ..

ولم يكن هناك رقص .. ولا ضربة دف .. وكان السكون يخيم رغم وجود أربعة من الصينيين فى ركن من المكان .. وكانوا يدخنون وأمامهم فتاة شاقة ثوبها وجالسة على حشية أمامهم تنظر إليهم فى صمت ..

ولما جلسنا إلى مائدة واحدة مستطيلة .. سمعنا صوت آلة أشبه بالقيثارة .. وغناء صينيا من نغمة واحدة .. وكان يقطر حزنا ..

وتقدم منا الساقى الصينى فسألنا بالإنجليزية عما نشرب .. واخترنا النبيذ ..
ووضع أمامنا .. الكؤوس ..

وبعد قليل أقبلت نحونا فتاة صينية حلوة .. وقدمت لكل واحد منا .. شيئا أكبر من البيبة .. ولم أكن دخنت الأفيون قط .. ولا أعرف كيف يدخن ..

وعلمتنى الفتاة الصينية .. وعلمت كريستينا وألبرت .. ودخنا كثيرا ودخنت قليلا .. كنت أتظاهر بمجاراتهما .. فى السباق ..

وضحكنا وشربنا .. حتى قرب الليل من منتصفه .. وعندما بدأ الرقص العارى لم نشاهده باهتمام وشوق .. كانت جفوننا ثقيلة .. والدخان يغشى أبصارنا ..

* * *

وعندما رافقت كريستينا وألبرت فى آخر الليل إلى فندقهما .. كان ألبرت يتماسك .. وخفت أن يسقط من زوجته فى الممر .. فرافقته إلى غرفته.. واضطررت أن أحمله معها .. إلى سريره .. وخلعت كريستينا له حذاءه .. وغيرت قميصه ثم طرحته على الفراش ..
وقلت لها بعد أن عادت إلى الصالون ..
ــ إنه مجرد تعب .. وسيفيده النوم .. فاطمئنى عليه .. ونهضت ..
فسألتنى وعيناها تلمعان ..
ــ هل أنت ذاهب ..؟
ــ أجل .. إننى أكثر منه تعبا ..
ــ أرجوك أن تبقى قليلا .. إننى خائفة .. وفندقك قريب .. تستطيع أن تصله فى خمس دقائق ..

فجلست أمامها .. أنظر إلى عينيها ورأيتهما .. أشد بريقا من قبل وأكثر فتنة ..

ودخلت على زوجها ثم عادت .. فوجدتنى واقفا .. أحرك ستر النافذة الحريرى وأنظر من فرجة صغيرة إلى الطريق ..

فوقفت بجوارى لحظات .. ولم أشعر بها وهى تلتصق بى .. وشددتها إلى صدرى بقوة ودخلنا وراء الستار ..

* * *

والمرأة التى كنت أبتعد عنها فى عربة الركشا .. وتبتعد عنى بمقدار عشرة سنتيمترات .. أصبحت تغرس أظافرها فى لحمى ولا أحس بها من فرط الأفيون .. ولا تحس هى بما تفعل لما غشى عقلها وحسها من ضباب ..

والشىء الوحيد الذى تنبهت إليه فى غمرة عواطفنا أننى أحسست بالباب المغلق على البرت .. يفتح ثم يغلق ثانية ..

ولما دخلت عليه بعد قليل وجدته نائما .. كما تركناه .. وليس هناك ما يدل على أنه تحرك أو حتى تململ .. فنفيت خاطر الباب عن رأسى ..

وفى الصباح التالى تحدثت مع ألبرت فى التليفون واطمأننت على صحته وشكرنى على تعبى وسهرى بجوار فراشه ..

وحدثته بأننى مسافر إلى طوكيو فى الصباح التالى .. فجاء هو وكريستينا إلى غرفتى فى الفندق ليودعانى ..

وكنت أرتب حقائبى .. وساعدنى هو وزوجته فى وضع الأشياء المبعثرة التى تسوقتها فى الحقائب .. وحزمنا الحقائب الثلاث ثم نزلنا إلى الطريق نقضى آخر ليلة فى هونج كونج معا ..

واتفقنا على أن نلتقى فى بومباى فى الخامس والعشرين من ديسمبر ونقضى عيد الميلاد فى فندق ( تاج محل ) ..

* * *

وفى الطريق من هونج كونج إلى طوكيو .. لم أكن أفكر إلا فى كريستينا .. وفى الجليد الذى تحول إلى شعلة من اللهب ..

وفى مطار طوكيو .. وقفت وراء الطاولة المستديرة .. وراء حقائبى .. وسألنى الكشاف ..
ــ هل معك .. سجائر .. هل معك ويسكى ..؟
ــ أبدا ..
ــ هل معك نقود .. من أى نوع .. أى عملة ..؟
ــ إن معى شيكات سياحية فقط .. وقد بينتها فى الإقرار ..
ــ ولا توجد نقود من أى نوع ؟
ــ إطلاقا ...
ــ تسمح تفتح الحقائب ..

وفتحت الحقائب الثلاث .. وأنا أنظر إليه بثبات .. وفجأة ارتجف قلبى .. وسال العرق من خدى .. فقد أخرج من حقيبة من الحقائب رزمة من الينات اليابانية ... وعقوبة هذا ليست المصادرة فقط ولكنها الحبس .. وبرزت أمامى صورة ألبرت فى الحال وهو يساعدنى فى غرفتى بالفندق .. وأدركت أنه عرف كيف ينتقم .. بدهاء وصبر ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================

الركشـــا
قصة محمود البدوى


اشتريت من محل هويت وبز بشارع دى فو .. بهونج كونج قميصا أمريكيا من الذى يغسل ويلبس دون أن يكون فى حاجة إلى مكواة . وفرحت به مع غلو ثمنه .. لأنه سينفعنى منفعة ملموسة فى سفرى الطويل ..

ولكن فرحتى لم تتم .. فعندما رجعت إلى الفندق وفتحت اللفافة التى تناولتها من المحل لم أجد فيها القميص ووجدت بدله بيجامة حريرية نسائية .. فابتسمت لتصاريف القدر ..

فماذا أصنع ببيجامة نسائية فى هونج كونج .. كانت البيجامة أنيقة ومن النوع الغالى وتساوى ثمن القميص وتزيد .. ولكن ماذا أصنع بها ..

فكرت فى أن أهديها .. لفتاة يابانية فى طوكيو ... أو أن أقدمها لأى سائحة ألتقى بها فى الفندق .. أو أن أبقيها معى فأهديها لواحدة من قريباتى فى القاهرة ..

وقد جعلنى الخاطر الأخير أنشرها .. لأعرف مقاسها .. وأخصص الفتاة التى تناسبها .. فسقطت منها على المرتبة علبة بودرة ذهبية .. كانت مطوية بين ثناياها .. وكانت العلبة دقيقة الصنع ومطعمة بالصدف ..

ودفعنى هذا إلى أن أحمل اللفافة إلى المحل فى عصر اليوم نفسه ..

وأسفت الفتاة العاملة لما حدث .. وقالت لى إن السيدة صاحبة البيجامة اتصلت بها بالتليفون .. وتركت اسمها ورقم الغرفة التى تشغلها فى الفندق ..

فطلبت من الفتاة أن تتصل بها تليفونيا بالفندق وتحدثها عن رغبتى فى أن أحمل إليها البيجامة بنفسى .. لأنى أعرف موقع الفندق ..

واتصلت بها .. وكانت السيدة تود أن تجىء إلى المتجر ولكننى أعفيتها من هذا المشوار ..

وخرجت من المتجر .. وعبرت الخليج واتخذت طريقى .. إلى فندق ميرامار بشارع كيمبرلى رود بكولون ..

وركبت المصعد .. وسألت الغلام .. الذى كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة عن السيدة كريستينا بالغرفة رقم 86 .. فقادنى إليها .. وسط مظهر من مظاهر الفخامة والأناقة اللتين تتميز بهما فنادق كولون ..

وضغطت على جرس الباب .. وفتحت لى شابة طويلة العود .. ونظرت بعينين زرقاوين إلى كيس الورق .. الذى فى يدى ..

وقلت لها بالإنجليزية :
ــ أرغب فى مقابلة الآنسة كريستينا ..
ــ إننى كريستينا ..
ــ لقد جئت لك بالبيجامة
ومددت يدى بالكيس .. وكنت أود أن أذهب ..
ــ شكرا .. تفضل .. حتى أجىء لك بالقميص ..

وأدخلتنى إلى صالون صغير .. ملحق بغرفتها .. واعتذرت لها عن الخطأ الذى حدث بسببى .. لأننى تناولت لفافتها من فوق الطاولة وأنا أحسبها لفافتى ..

فقالت بدماثة وهى تطيل النظر إلىّ بعينيها الواسعتين ..
ــ إن هذا الخطأ .. أتاح لنا فرصة لنلتقى بشاب هندى .. ونحن فى طريقنا أنا وزوجى إلى بومباى ..
ــ لست هنديا ..
ــ حقا .؟
ــ إننى مصرى .. وقد رأيت بومباى .. ويمكننى أن أحدثك عنها ..
ــ جميل .. هل تشرب قهوة .. أو أطلب لك بعض العصير المثلج .. اليوم شديد الحرارة ..
واخترت العصير .. لأن الحرارة كانت شديدة حقا ..

وكانت السيدة كريستينا ترتدى فستانا أبيض خفيفا ..من قطعة واحدة .. قصير الأكمام .. ومفتوحا عند الصدر .. يتناسب مع هذه الحرارة .. وكانت مقصوصة الشعر .. ينسجم ثوبها على جسمها ويبرز تقاطيعه ..

وبعد أن شربت العصير .. دخل علينا رجل سمين من الباب دون استئذان فخمنت أنه زوجها ..

وابتدرته قائلة :
ــ ألبرت .. إن السيد مصرى .. وقد زار بومباى .. وسيحدثنا عنها ..
فقال ألبرت ..
ــ حقا ..؟

ووضع آلة تصوير ــ كان يحملها ــ جانبا .. ونظر إلىّ فى ابتسام .. وكان سمينا وعمره ضعف عمر زوجته .. ويبدو من شكله وهندامه وحديثه أنه رحالة ويحب عشرة الناس .
وكانت كريستينا أكثر حيوية وحركة منه .. وأكثر تعطشا لمعرفة الغريب ..

ولاحظتها جيدا .. وهى رائحة وغادية فى الغرفة .. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها .. طويلة العود .. وكانت بشرتها ناصعة البياض نقية .. ولاحظت أن أنامل يدها وهى تقدم لى كوب العصير طويلة مع دقتها ورقتها .. وأن الأظافر طويلة أكثر مما رأيت فى أنامل الحسناوات ..

ولما نظرت إلى ساقيها بإمعان رأيت شعرا خفيفا كالذى بدا فى سيقان بلقيس .. عندما كشفت عن ساقيها .. منذ آلاف السنين .. وهى تخوض فى عرشها ..

وسألتنى برقة وهى تنظر إلىّ بقوة ..
ــ هل تسافر على خطوط شركة اسكندنافيا .. مثلنا .. أحسبنى رأيتك فى بانكوك .. هل رأيت الحر .. الذى هناك ..؟
ــ إن الحر فى بومباى .. ضعف هذا مائة مرة ..
ــ أوه .. إذن ستشوى جلودنا هناك ..
وأيدت هذا بحركة من يدها على ثوبها .. كأنما تود أن تخلعه ..

وكنت أقدر أنها دانمركية .. أو هولندية .. ثم عرفت أنها سويدية وزوجها هولندى وأنهما فى سياحة طويلة مثلى إلى الشرق الأقصى ..

وبعد حديث عن هونج كونج .. وبومباى .. تناولت منها القميص وأنا أشكرها بشدة وحييتهما وانصرفت ..

والتقيت بهذه السيدة مرة أخرى بعد أسبوع وكان معها زوجها .. فى ردهة بنك شنغاهاى .. بهونج كونج ..

وفاض وجهها بالبشر لما رأتنى وقالت ..
ــ هالو .. السيد مختار ..
ــ هالو .. مدام كريستينا .. هالو مسيو ألبرت .. لازال اسمى فى الذاكرة .
ــ بالطبع ..
وخرجنا من البنك معا ..

وركبنا الباخرة .. وعبرنا الخليج وبعد أن نزلنا على رصيف شبه الجزيرة .. عزمت عليهما بفنجال الشاى فى « المزرعة » فقبلا ..
وبعد أن شرب ألبرت الشاى .. واستراح قليلا .. أبدى رغبته فى أن يذهب إلى شركة السياحة ليحجز تذكرة له ولزوجته .. إلى مانيلا ..

وقال لزوجته ..
ــ يمكنك أن تنتظرينى هنا .. إذا كان المشوار يضايقك ..
فقالت ..
ــ سنتلاقى فى الفندق على الغداء ... ربما تجولت فى المدينة ..
وسلم علينا وانصرف .. ولاحظت أنه يحمل آلتين للتصوير ..
فحدثت زوجته عن هذا ..
فقالت باسمة ..
ــ إنه مغرم بالتصوير .. واحدة جديدة لايكا .. اشتراها أمس من هونج كونج .. والأخرى قديمة .. أحسبه سيذهب إلى الخليج ليصور .. قبل ذهابه إلى شركة السياحة .. وربما لا يذهب إلى الشركة وينساها فى غمرة ما يلتقط من صور ..
ــ إلى هذا الحد .. هو مغرم ..؟
ــ إلى هذا الجنون ..

وجلسنا نتحدث ولاحظت أنها تجيد الإنجليزية .. وتتحدث قليلا بالفرنسية والألمانية .. وأنها تكثر من التدخين .. وألقت بالسيجارة الرابعة .. أو الخامسة فى الطفاية ..

وقالت وهى تثبت عينيها على وجهى بابتسام :
ــ يمكننا أن نتمشى .. قليلا فى المدينة .. إذا لم يكن لديك موعد ..
ــ بكل سرور ..
ونهضنا معا .. وأخذنا نتجول فى مدينة « كولون » ..

وكانت عربة الركشا .. تعترضنا بعد كل خطوة .. لنركب فيها .. ويلح الرجل الذى يجرها رغم رفضنا ..

وأخيرا قلت لكريستينا ..
ــ هل تركبين فى جولة قصيرة ..؟

فركبت فرحة .. وركبت بجوارها .. وشعرت بسعادة لا توصف رغم أنى كنت متحفظا جدا .. وهى بجوارى فلم ألتصق بها فى عربة الركشا الضيقة .. وكان المجال يدعو إلى الالتصاق ..

وكانت العربات .. والسيارات تمر بنا عن قرب حتى تكاد تلتصق بنا ..
وكانت كريستينا تضحك لهذا وسألتنى ..
ــ هل رأيت لندن ..؟
ــ أبدا ..
ــ إن ترامها .. وسياراتها مثل هذه ..
ــ والخلاف الوحيد .. أنه لا توجد ركشا هناك ..
ــ أجل .. نسيت هذا ..

ومر علينا أطفال .. خارجون من المدرسة .. فتوقفت حركة المرور كلها حتى عبروا الشارع .. وقالت كريستينا بقلب منشرح ..
ــ ما أجمل ثيابهم .! وأنضر وجوههم ..!

وظلت تتبعهم ببصرها بلذة .. وكأنها تتمنى أن تلتقط واحدا منهم وتجلسه معنا فى العربة ..

وبعد جولة طويلة .. نقدت السائق أجره ومشيت مع كريستينا حتى باب فندقها وقبل أن نفترق دونت اسم الفندق الذى أنزل فيه وعرفت رقم غرفتى ..

وحوالى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى .. حدثنى زوجها فى التليفون .. وقال لى إنه يسعده هو وكريستينا لو أرافقهما فى جولة فى الترام الجبلى ..

ومع أنى زرت هذه المنطقة السياحية من قبل أكثر من مرة ولكن قبلت الدعوة ..

وكان ألبرت يلبس قميصا .. قصير الأكمام .. على بنطلون من التيل الأخضر .. ومعه آلتا التصوير وكريستينا تلبس صديرا أبيض وجونلة قصيرة إلى الركبة وليس بيدها حقيبة .. وقد جعلنى هذا أنظر إلى أظافرها أكثر وأكثر وأفزعنى طولها على ضوء المصباح أكثر من أى مرة شاهدتها فيها ..

وصعدنا إلى الهضبة .. ثم انحدرنا إلى خليج استانلى .. ولم نذهب إلى ابردين لأننا أحسسنا بالجوع .. وكان يتحتم علينا أن نتغدى فى هونج كونج .. لأن ساعة الغداء فاتتنا فى فنادقنا بكولون .. فتغدينا فى مطعم صينى حافل بالأطباق المختلفة ..

ولما خرجنا إلى الشارع شاهدت على الرصيف المقابل اعلانا عن قصة « فيرن » حول العالم فى ثمانين يوما .. وكانت قلوبنا تواقة إلى هذا الفيلم فدخلنا .. مع أن الساعة كانت الواحدة والنصف بعد الظهر ومضى من العرض نصف ساعة ..

وأجلس الزوج المهذب كريستينا بينى وبينه .. وأخذنا نتابع الرواية على الشاشة ونحاول أن نفهم الحوادث التى سبقتنا .. ثم طال جلوسنا وطال صمتنا .. لأن الرواية طويلة ..

وفجأة أحسست بكريستينا تميل على أذنى وتهمس :
ــ أريد أن أدخن سيجارة ..

فنظرت إليها فى الظلام ولم أجاوب على رغبتها إلا بابتسامة بلهاء .. ورأيتها تميل على أذن زوجها ..

ورأينا أن نترك نحن الثلاثة الشاشة لندخن سيجارة فى خارج الصالة ثم نعود إليها ..

وعندما تحركنا فى الممر .. كانت كريستينا تمشى أمامى .. ولم أر فى الظلام من جسمها غير ساقيها العاريتين .. وبدا لى فى هذه المرة أنها أزالت من فوقهما الشعر الخفيف النابت ..

وقفنا نحن الثلاثة فى بهو السينما الخارجى ندخن بنهم .. والظاهر أن منظرنا كان لافتا للنظر .. فقد رأيت شخصا يرقبنا بعينى صقر .. على الرصيف المقابل ..
وقبل أن ندخل وثب نحونا .. قطع الشارع فى وثبتين .. وأصبح بجوارى ..
وقال هامسا بالإنجليزية :
ــ هل تريد أن تشاهد رقصا مثيرا .. وتدخن الأفيون .؟
ونظرت إلى صف أسنانه الذهبية وقلت سريعا ..
ــ لا .. اذهب ..
ــ إنه مثير .. ولن تدفع كثيرا ..
ــ لا .. اذهب .. اذهب ..
وكانت كريستينا تنظر إلينا وقد انفرجت ثناياها ..
وسألنى ألبرت :

ــ ما الذى يطلبه ..؟
ــ يدعونا .. إلى رقص صينى ..

وتحول الرجل إليه .. وأخذ يحادثه هامسا .. وسألنى ألبرت :
ــ ولماذا لا نذهب ..؟
ونظرت إلى كريستينا واحمر وجهى .. وقال ألبرت :
ــ إنها تسر جدا .. من هذه المناظر ..
وسألت كريستينا ..
ــ أى مناظر ..؟ إننى فى كل الأحوال معكما .. أينما تذهبان ..
وضحكنا.. واتفقنا على أن نقابل الرجل الصينى ذا الأسنان الذهبية ـ عند رصيف البواخر فى الساعة التاسعة ليلا ..
وعدنا إلى صالة السينما مرة أخرى ..

* * *

وفى الساعة التاسعة وجدنا الرجل فى انتظارنا .. وكانت كريستينا متأنقة فى ملبسها ومتعطرة .. كأنها ذاهبة إلى حفلة سواريه فى الأوبرا .. أما زوجها فكان كما تركته فى الساعة الخامسة لم يغير قميصه ..

وركبنا عربتين من عربات الركشا .. إلى المرقص الخفى عن العيون .. وركبت كريستينا معى فى هذه المرة أيضا .. وكان يمكن أن أركب ومعى الدليل ولكن ألبرت جذبه إلى عربته بلباقة .. وسرنا فى شوارع ضيقة ومظلمة وأنا أتوقع بعد كل خطوة شرا .. وأقدر أنها مصيدة .. وكنت أسمع عن كل حوادث هونج كونج التى تقع فى الظلام .. ولكن وجود كريستينا بجوارى فى العربة كان يطمئننى .. وجعلنى أشعر بقوة تجعلنى قادرا على مواجهة كل احتمال ..

وفجأة دخلنا فى تيه من الشوارع الصاعدة والهابطة .. ثم اخترقنا صفا من الأشجار المتعانقة المتشابكة ..

وقالت كريستينا .. وقد رأيتها تضع يدها على خدها : أنها تشعر بأنها محمومة .. من الغروب .. وكان يجب أن تستريح فى الفندق .. بدل هذه الحماقة ..

وكان واجبى كجنتلمان أن أمسك بيدها .. وأجس مبلغ حرارتها ولكننى لم أفعل ونظرت إلى أظافرها مرة أخرى ..ورأيت أن المسافة بينى وبين ثوبها الذى على فخذها .. أكثر من سبعة سنتيمترات فجعلتهما عشرة ..

وقبل أن نصل إلى الشارع الذى فيه المرقص .. ! توقفت الركشا .. ونزلنا ..

ومشينا وراء الدليل .. حتى توقف وراء باب صغير .. وقرع الجرس .. وأطل رأس صغير من كوة .. ثم فتح لنا الباب ..

وانحدرنا عدة سلالم ثم اجتزنا دهليزا معتما .. أفضى بنا إلى قاعة فسيحة صفت فيها ست مناضد على الجوانب والأركان .. وكانت الإضاءة خفيفة .. والقناديل معلقة من السقف .. والدخان يعبق المكان .. والجو كله شرقى حالم ..

ولم يكن هناك رقص .. ولا ضربة دف .. وكان السكون يخيم رغم وجود أربعة من الصينيين فى ركن من المكان .. وكانوا يدخنون وأمامهم فتاة شاقة ثوبها وجالسة على حشية أمامهم تنظر إليهم فى صمت ..

ولما جلسنا إلى مائدة واحدة مستطيلة .. سمعنا صوت آلة أشبه بالقيثارة .. وغناء صينيا من نغمة واحدة .. وكان يقطر حزنا ..

وتقدم منا الساقى الصينى فسألنا بالإنجليزية عما نشرب .. واخترنا النبيذ ..
ووضع أمامنا .. الكؤوس ..

وبعد قليل أقبلت نحونا فتاة صينية حلوة .. وقدمت لكل واحد منا .. شيئا أكبر من البيبة .. ولم أكن دخنت الأفيون قط .. ولا أعرف كيف يدخن ..

وعلمتنى الفتاة الصينية .. وعلمت كريستينا وألبرت .. ودخنا كثيرا ودخنت قليلا .. كنت أتظاهر بمجاراتهما .. فى السباق ..

وضحكنا وشربنا .. حتى قرب الليل من منتصفه .. وعندما بدأ الرقص العارى لم نشاهده باهتمام وشوق .. كانت جفوننا ثقيلة .. والدخان يغشى أبصارنا ..

* * *

وعندما رافقت كريستينا وألبرت فى آخر الليل إلى فندقهما .. كان ألبرت يتماسك .. وخفت أن يسقط من زوجته فى الممر .. فرافقته إلى غرفته.. واضطررت أن أحمله معها .. إلى سريره .. وخلعت كريستينا له حذاءه .. وغيرت قميصه ثم طرحته على الفراش ..
وقلت لها بعد أن عادت إلى الصالون ..
ــ إنه مجرد تعب .. وسيفيده النوم .. فاطمئنى عليه .. ونهضت ..
فسألتنى وعيناها تلمعان ..
ــ هل أنت ذاهب ..؟
ــ أجل .. إننى أكثر منه تعبا ..
ــ أرجوك أن تبقى قليلا .. إننى خائفة .. وفندقك قريب .. تستطيع أن تصله فى خمس دقائق ..

فجلست أمامها .. أنظر إلى عينيها ورأيتهما .. أشد بريقا من قبل وأكثر فتنة ..

ودخلت على زوجها ثم عادت .. فوجدتنى واقفا .. أحرك ستر النافذة الحريرى وأنظر من فرجة صغيرة إلى الطريق ..

فوقفت بجوارى لحظات .. ولم أشعر بها وهى تلتصق بى .. وشددتها إلى صدرى بقوة ودخلنا وراء الستار ..

* * *

والمرأة التى كنت أبتعد عنها فى عربة الركشا .. وتبتعد عنى بمقدار عشرة سنتيمترات .. أصبحت تغرس أظافرها فى لحمى ولا أحس بها من فرط الأفيون .. ولا تحس هى بما تفعل لما غشى عقلها وحسها من ضباب ..

والشىء الوحيد الذى تنبهت إليه فى غمرة عواطفنا أننى أحسست بالباب المغلق على البرت .. يفتح ثم يغلق ثانية ..

ولما دخلت عليه بعد قليل وجدته نائما .. كما تركناه .. وليس هناك ما يدل على أنه تحرك أو حتى تململ .. فنفيت خاطر الباب عن رأسى ..

وفى الصباح التالى تحدثت مع ألبرت فى التليفون واطمأننت على صحته وشكرنى على تعبى وسهرى بجوار فراشه ..

وحدثته بأننى مسافر إلى طوكيو فى الصباح التالى .. فجاء هو وكريستينا إلى غرفتى فى الفندق ليودعانى ..

وكنت أرتب حقائبى .. وساعدنى هو وزوجته فى وضع الأشياء المبعثرة التى تسوقتها فى الحقائب .. وحزمنا الحقائب الثلاث ثم نزلنا إلى الطريق نقضى آخر ليلة فى هونج كونج معا ..

واتفقنا على أن نلتقى فى بومباى فى الخامس والعشرين من ديسمبر ونقضى عيد الميلاد فى فندق ( تاج محل ) ..

* * *

وفى الطريق من هونج كونج إلى طوكيو .. لم أكن أفكر إلا فى كريستينا .. وفى الجليد الذى تحول إلى شعلة من اللهب ..

وفى مطار طوكيو .. وقفت وراء الطاولة المستديرة .. وراء حقائبى .. وسألنى الكشاف ..
ــ هل معك .. سجائر .. هل معك ويسكى ..؟
ــ أبدا ..
ــ هل معك نقود .. من أى نوع .. أى عملة ..؟
ــ إن معى شيكات سياحية فقط .. وقد بينتها فى الإقرار ..
ــ ولا توجد نقود من أى نوع ؟
ــ إطلاقا ...
ــ تسمح تفتح الحقائب ..

وفتحت الحقائب الثلاث .. وأنا أنظر إليه بثبات .. وفجأة ارتجف قلبى .. وسال العرق من خدى .. فقد أخرج من حقيبة من الحقائب رزمة من الينات اليابانية ... وعقوبة هذا ليست المصادرة فقط ولكنها الحبس .. وبرزت أمامى صورة ألبرت فى الحال وهو يساعدنى فى غرفتى بالفندق .. وأدركت أنه عرف كيف ينتقم .. بدهاء وصبر ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================

التـنيـن

قصة محمود البدوى


استيقظ رشاد قبل شروق الشمس .. على صوت العصافير وهى تغرد فى حديقة الفندق ..

ولما نهض من الفراش ونظر من النافذة وجد البحيرة أمامه ساكنة ..

ورأى شابة صينية فى سترة مضمومة وبنطلون أزرق قد أخذت تكنس الطريق الساحلى .. وتجمع أوراق الشجر المتساقطة .. وكان هناك ثلاث سيارات كبيرة .. واقفة فى مدخل الفندق .. والعصافير تطير من فنن إلى فنن .. وهى تسقسق معبرة عن فرحتها بشروق الشمس ..

وظهر الشبان والشابات راكبين الدراجات فى الطريق .. وسقطت خيوط الشمس على سقوف البيوت الخزفية .. وفروع الأشجار العالية .. وسرت الحرارة فى مدينة هانتشو .. وأخذت تستيقظ من رقادها .. فبدت الحركة فى البيوت والشوارع ..

وأخذت الزوارق الصغيرة التى فى البحيرة تتحرك .. وظهرت فتاة تقود زورقا منها إلى الشاطىء .. وكانت واضعة على رأسها قبعة عريضة من الخوص .. وبدا شعرها الأسود الطويل وراء ظهرها وهى تحرك المجداف .. كأنها حورية من جنيات البحر .. ورآها رشاد تبتسم فى ندى الصباح عندما صافحت قلبها حرارة الشمس .. فأخذ يرقبها لحظات .. ثم انثنى عن النافذة ودخل الحمام .. فاغتسل وارتدى بدلته .. وكانت قد بقيت نصف ساعة على ميعاد الإفطار .. فخرج إلى شرفة الفندق الكبير المطلة على البحيرة .. وجلس يتمتع بالمناظر الساحرة التى حوله وأخرج سيجارة وأشعلها .. وهفا إلى سمعه صوت النـزلاء فى الغرف المجاورة .. وأخذ بعضهم يخرج إلى الشرفة مثله .. وكان الجو منعشا .. والصباح خاليا من الطل .. ولاحظ أن باب الشرفة ليس به زجاج كما كان يتصور وإنما هو سلك رفيع محبوك .. كالنسيج .. وأدرك أن الشتاء غير قاس .. وأن الثلج لايثلج المدينة ..

وشعر بالوحدة .. ومرارتها على نفسه .. فتململ فى كرسيه .. ثم نهض .. واعتمد بيديه على سياج الشرفة الحديدية .. وكانت الزوارق كلها قد أخذت تتهادى فى عرض البحيرة .. وسمع صوتا ناعما خلفه .. فتلفت فلم يجد صاحبته وأدرك أنها فى داخل الغرفة المجاورة .. وتحرك بضع خطوات ليقترب من باب الشرفة ولكنه عندما اقتـرب جدا .. ورأى الفراش واللحاف الحريرى المطوى .. خجل من نفســه وتراجــع .. إلى مكانه سريعا .. وأشعل سيجارة أخرى ..

وكانت الساعة قد أخذت تدق الثامنة .. فمشى إلى قاعة الطعام .. ورأى النـزلاء جالسين إلى الموائد .. فى حلقة مستديرة .. ورأى فيهم بعض الروسيين .. والألمان الذين التقى بهم من قبل فى مدينة بكين ..

وجلس إلى طرف مائدة صغيرة وحده .. وطلب من الخادم عصيدة ساخنة وسمكا مشويا .. وفنجانا من الشاى ..

وقدمـت له الفتــاة العصيدة مع زجاجة من عصير الليمون ..

وكانت الفتاة جميلة المحيا نظيفة الثوب .. وساءه أنها لاتعرف غير اللغة الصينية ، فقد كان يود أن يتحدث مع أى إنسان ..

وبعد أن شرب الشاى .. نزل إلى الدور الأول فى الفندق .. واتصل تليفونيا بالمصحة ..

ثم ركب السيارة إلى هناك ..

وبلغ المصحة فى الساعة العاشرة .. وصعد إلى الطابق الثانى .. ودخل على زوجته .. وكانت سعاد فى الفراش .. ووجهها إلى النافذة .. ولما أحست به استقبلته صامتة ..

وأخذها بين ذراعيه ..
ـ ما أجملك اليوم ..
فلم تفتح فمها ورأى فى عينيها الدمع المتحيـر .. فتأثر ولكنه كتم عواطفه ..

وسألته بعد مدة ..
ـ اتصلت بالسفارة ..؟
ـ أجل .. وسأبقى هنا إلى يوم الخميس ..
ـ وتتركنى وحدى .. فى هذه المدينة ..؟
ـ لست بالصغيرة يا سعاد .. ولسنا فى نـزهة أو أجازة صيف .. وبعد اسبوعين ستشفين تماما .. وسأجىء لآخذك ..
ـ لماذا لم تأخذ إجازة أخرى من المعهد ..؟
ـ لقد أخذت إجازات كثيرة هذا العام .. وكانوا مثال الشهامة .. والمروءة .. وأحب أن أكون حساسا .. ولا أثقل عليهم بالطلبات .. وقد قبلوا علاجك فى هذه المصحة بربع الأجر .. وفى هذا الكفاية ..
ـ الحمد لله .. كنا نحمل هم هذه المصاريف .. لقد سببت لك الارتباك المالى والتعب النفسى .. يا رشاد ..
ـ لاتقولى هذا الكلام .. المهم هو أن ترجعى إلى صحتك ..

كيف حال الصداع ؟
ـ زال والحمد لله ..
ـ والنوم ..؟
ـ أنام الآن طول الليل ..
ـ حسن .. النـوم هو أهم شىء .. لأنه سيعيد اليك أعصابك ..

ودخل الدكتور لى .. الغرفة وخلفه ممرضة .. فحيا بأدب .. ونظر إلى سعاد .. وإلى رشاد مبتسما .. وسأل سعاد بالإنجليزية ..
ـ هل ينقصك شىء .. هل هناك شكوى ..؟
ـ أشكرك .. إن العناية بى فوق زيادة المستزيد .

وظل الطبيب يحادثها لحظات .. ويحث سعاد على أن تخرج إلى الحديقة وتتجول فى قاعات المصحة .. حتى لاتشعر بالسأم والملال .. ثم خرج ..

وقال رشاد لسعاد بعد أن خرج الطبيب ..
ـ لماذا لاتخرجين إلى الشرفة .. الجو دافىء ..
ـ إنى خارجة .. من جلسة كهرباء ..
ـ وتعبانه ..؟
ـ تخدير بسيط يجلب النعاس .. ولكنى سأبقى صاحية .. من أجلك ..
ـ إن الرقة هى أجمل صفاتك .. وقد زادت الرقة صفاء فى الصين .
ـ صحيح .. ولهذا تود أن تبقى ثلاثة سنوات أخرى ..
ـ بالطبع ..

ودخلت عليها الممرضة تحمل بعض الدواء .. وكانت فى ثوب أزرق جميل .. ووجهها أكثر نضارة من ثوبها .. وكانت الرقة والجمال فى كل حركاتها ..

وقالت سعاد لزوجها :
ـ جميلة ..
ـ تقصدين لطيفة ..
ـ جميلة .. قلها ولاتخف ..

وضحك ..

وبعد الظهر خرج بها إلى الشرفة ..

وكانت المصحة على ربوة عالية .. تحيط بها مناظر طبيعية خلابة .. وكانت التلال حولها مكسوة بالسندس .. والأشجار العالية تزيد من روعة المكان .. والبحيرة على مسافة قريبة .. والهدوء شاملا .. والسكون عميقا .. فلاتحس حركة .. ولا تسمع شيئا يثير الأعصاب ..

وكانت سعاد قد استرخت فى الشمس .. وراحت فى سبات .. ونظر اليها رشاد وهى نائمة فى وداعة كالطفل .. وأدركه الأسى لحالها ..

***

وكانا قد قدما إلى مدينة البحيرات منذ شهر لينعما بأجازة قصيرة فى فترة الأعياد فى الصين ..

وكانت وحدها فى غرفة الفندق عندما حمل اليها الخادم برقية من بكين فيها نعى والدها .. سقطت به الطائرة وهو عائد إلى القاهرة .. من بيروت ..

ولم تقو أعصابها على تحمل الصدمة .. وسقطت بالبرقية على الأرض ..

ولما أفاقت كان لسانها قد أصابه الشلل .. وذاكرتها قد ذهبت عنها .. ولم تعد تعرف شيئا .. فنقلوها إلى هذه المصحة ..

وكان رشاد قد قضى شهرا كاملا فى عذاب لايوصف .. وتلفت أعصابه .. وكان يخشى .. أن تموت وينقلها فى صنــدوق إلى الطائرة .. كان مجرد تصور المنظر يفطر فؤاده ..

ونال منه الحزن .. ثم فكر فى رحمة الله .. ورآها تتحسن .. ورأى المرضى فى المصحة .. أحسن حالا منه .. فشعر بالأمل الكبير يعاوده .. ونفى عن ذهنه فكرة الموت ..

***

ولما فتحت سعاد عينيها وهى جالسة فى الشرفة صحبها إلى غرفتها وظل معها حتى تغدت واستراحت ثم تركها .. وعاد إلى المدينة ..

وكان من عادته أن يتجول فى المدينة .. ثم يركب الأتوبيس إلى الفندق وبعد العشاء يجلس فى البهو .. يطالع الصحف والمجلات .. أو يكتب رسائل إلى أهله فى القاهرة .. أو إلى مقر عمله فى بكين ..

وبعد الساعة التاسعة .. ينام إذا أحس بالنوم .. أو يظل ساهرا يطالع .. حتى يشعر بالنعاس ..

وذات ليلة ذهب إلى المسرح .. وعاد بعد نصف الليل .. وصعد درجات الفندق ومشى فى البهو الطويل .. وكانت الإضاءة فى البهو قد خفتت .. وخيم السكون ورأى وهو يقترب من باب غرفته .. سيدة واقفة على الباب الذى بجواره تعالج الأكرة فاستعصت عليها وأخذت تتلفت حائرة .. باحثة عن الخادم لينقذها ..

فتقدم إليها .. وكانت هذه الحالة قد اعترضته عندما جاء إلى الفندق أول ليلة وعرف من الخادم كيف يدير الأكرة .. وأدار الأكرة .. وفتح الباب .. وعلمها الطريقة فابتسمت وانحنت له شاكرة ودخلت .. وردت الباب وراءها ..

ودخل غرفته وأشعل النور .. واستراح قليلا .. على الكرسى الطويل ذى المساند الحريرية ثم فتح باب الشرفة .. وخرج إلى الشرفة .. وفى يده سيجارة .. ووجد السيدة التى فتح لها الباب منذ لحظات هناك .. فى الشرفة وفى يدها سيجارة مثله .. ولما أحست به دخلت سريعا إلى غرفتها ..

وبقى فى مكانه .. وهو يشعر بشعور غامض .. لم يتبين منه أسر من وجود انثى معه فى جناح واحد أو استاء .. ولكنه بقى فى مكانه أكثر من ساعة على أمل أن تخرج مرة أخرى إلى الشرفة ولكنها لم تخرج ..

***

وفى الصباح عاد إلى زوجته فى المصحة ووجدها شاردة وتكاد لاتعرفه .. فخرج حزينا .. ومشى على غير وجهة فى المدينة ..

وفى الليل ذهب إلى السينما .. ولما عاد إلى الفندق كان الجو ممتعا فخرج إلى الشرفة .. ووجد جارته فيها ..

وقال معتذرا بالإنجليزية وقد شعر بالارتبـاك ..
ـ فى هذا الصف .. شرفة واحدة لكل غرفتين ..
ـ نعم لاحظت هذا ..
ـ هل يضايقك وجودى .. ؟
ـ لماذا بالعكس لقد وجدت من أحادثه ..
ـ أعجبتك هانتشو ..
ـ رائعة .. إنها فوق كل تصورات الخيال ..
ـ إنها مدينة مشهورة بجمال المناظر الطبيعية ..
ـ سمعت عنها كثيرا وأنا فى برلين .. ومن سنة 1948 وأنا أرغب فى زيارة الصين ، لقد تحقق الحلم بعد عشر سنوات ..
ـ هذا رائع .. ويدل على المثابرة ..

وقالت ببساطة :
ـ كان لابد لى أن أقتصد المبلغ الذى يساعدنى على الرحلة ..

ونظر اليها فى سكون .. كان كما قدر فى الثانية والثلاثين .. من عمرها .. أنيقة طويلة العود ..

وكانت معتمدة على سياج الشرفة الحديدى .. وعيناها إلى البحيــرة والدخان الأزرق .. يعلو عن جبينها فى خيوط ..

وقالت :
ـ ما أجمل البحيرة ؟
ـ إنها توحى بالشعر وهنـاك شاعر صينى عاش فى وسط البحيرة حتى مات .. وكل من يجىء إلى هنا يهبط عليه الوحى .. ويصبح شاعرا ..
ـ حتى أنت ..
ـ حتى أنا ..
ـ ولكننا .. لسنا الآن فى عصر الشعراء .. اننا فى عصر القنابل الصاروخية ..
ـ ولكن هذا .. لايغنى عن الشعر .. والأحلام .. إن الحقائق المجردة تميت ..
ـ هذا صحيح .. وجميل أن أجد من أحادثه بالإنجليزية هنا .. انهم لايحبون الحديث بها ..
ـ هل ستبقين هنا طويلا ..؟
ـ ربما اسبوعا .. اننى أراسل صحيفة المانية .. وسأكتب كتـابا عن الصين ..
ـ ورأيت شنغهاى ..
ـ سأراها .. وأنت هل تعمل هنا ..
ـ لا إننى أعمل فى بكين ..
ـ تعيش فى الصين .. إذن ..
ـ جئت منذ ثلاث سنوات ..
ـ واستطبت الحياة فيها ..
ـ إن برد بكين قارس .. ولكن أين هى مدينة الأحلام ..
ـ يمكن أن توجد فى القمر .. عندما تغزو الفضاء ..
ـ ربما .. يتحقق هذا الحلم .. لقد أطلق الروس اليوم قمرهم الصناعى الثانى ..

***

ونظر اليها .. ربما تكون أصغر سنا من مظهرها .. فإنها لاتزال شابة .. رغم خيوط الشعر البيضاء .. ورغم الأسى على الشفة ..

وسألت :
ـ أخشى أن أكون قد حملتك على السهر .. أرجو المعذرة .. لقد انقضى نصف الليل ..

وانحنت برقة وذهبت .. وشيعها ببصره حتى دخلت من الشرفة .. ومشى إلى غرفته ..

***

وعندما اضطجع على السرير ..كان يفكر فيها .. فمنذ جاء إلى هانتشو وهو يقاس من مرارة الوحدة .. بعد مرض زوجته .. كان يرغب فى رفيقة تؤنسه .. ولم يصادف امرأة .. غير ما يشاهده فى المصحة من الطبيبات والممرضات ..

وكان الفندق نفسه خاليا تقريبا من النـزلاء .. وإذا جاء فوج .. وفيه بعض النسوة .. الأجنبيات كان لايمكث أكثر من ليلة .. وفى الصبـاح يذهب .. ولهذا شعر بالارتياح لوجود هذه السيدة بجواره .. ووجد أنه التقى أخيرا بمن يؤنسه فى وحدته ويخفف عنه ألم ما يعانيه من مرض زوجته ..

وفى الصباح بحث عنها فى غرفة الطعام فلم يجدها .. وعاد إلى غرفته لأنه نسى علبة السجاير .. وفى نفسه خاطر أن يلاقيها أو .. أو يسمع حسها .. ولكنه لم يرها .. فامتعض .. وأخذ طريقه إلى المصحة ..

وكانت زوجتـه قد تحسنت .. عن الأمس فسر .. وبقى معها مدة طويلة ..

وعاد إلى الفندق فى ميعاد الغداء .. وكان فى الواقع يحب أن يرى السيدة الألمانية فى غرفة الطعام .. ولكنه لم يجدها .. وخرج إلى المدينة .. وعاد قرب الغروب يتمشى على ساحل البحيرة .. فرآها من بعيد مقبلة فى ثوب وردى بسيط .. وكانت عارية الشعر ..وفى رجليها نعل خفيف .. فأقبلت وكأنها لما رأته أسرعت نحوه وتناول يدها .. ثم مشيا على الساحل ..

وكان قد رأى شيئا عجيبا منذ يومين ورغب أن يريه لها .. فقادها إلى هناك واستقبلتهما فتاة صينية فى الرابعة عشرة من عمرها بابتسامة مشرقة ..

وقال للفتاة باللغة الصينية ..
ـ إن السيدة المانية .. وتحب أن ترى براعتك ..

وسألت الفتاة :
ـ ما اسم السيدة ؟

فتلفت رشاد إلى السيدة الألمانية ..
ـ انها تسأل عن اسمك ..
ـ أوه .. كارولين ..
ـ اسم جميل ..
وضحكوا ثلاثتهم ..

وجاءت الفتاة الصينية سريعا بحلة وضعتها على نضد .. وملأت الحلة بالماء حتى الحافة .. وأخذت تضع فيها أشــياء ثقيلة فلم يزد الماء ملليمترا واحدا ولم تسل منه قطرة ..

ونظرت كارولين متعجبة ..

ثم أخذت الفتاة تنقر على حافة الحلة بيديها نقرا بارعا .. وتخرج منها أرق الألحان والماء يعلو من الوسط ولا يسيل على الأرض .. وكانت كارولين ورشاد ينظران فى عجب ..

وأخيرا سألت الفتاة الصينية رشاد ..
ـ هل السيدة زوجتك ..؟
ـ نعم ..
ـ انها جميلة جدا ..

وسألته كارولين ..
ـ ماذا تقول لك ..؟
ـ تقول أنك جميلة جدا ..

وسرت كارولين وضحكت .. وأخرجت بعض النقود من جيبها للفتاة .. فرفضت هذه ..

فقال رشاد ..
ـ انها لاتقبل أى نقود ..
ـ حقا .. ؟
ـ حقا ..
ـ ما أعجب الصينيين ..

ومشيا إلى البحيرة .. ولما وجدا زورقا راسيا .. واقترح عليها نزهة قبلت مسرورة ..

وكانت المرأة التى تقود الزورق شابة جميلة .. فحركت المجداف برقة ولما بعدا عن أسوار المدينة .. رأيا زورقا آخر يسير بجانبهما ويسبقهما .. وكان فيه شاب سائح وفتاة .. واغتاظت كارولين وقالت ضاحكة :
ـ لابد أن نسبقه ..

وأمسكت بالمجداف الصغير .. وأخذت تجدف .. وأمسك رشاد بمجداف آخر وجدفوا بحماسة .. وسبق زورقهم الزورق الآخر وصفقوا ..

ولما أخذت كارولين تعود إلى مكانها .. اهتـز الزورق الصغير .. وكاد ينقلب وتسقط هى فى الماء فتلقاها رشاد على صدره وأجلسها برفق .. فاحمر وجهها من هذه الحركة .. كأنها بنت العشرين ..

وخرجا من الزورق .. وجلسا فى الجزيرة الصغيرة .. وأحس بالجمال حوله .. ولما انطلقا بين الأشجار الملتفة .. تركت يدها فى يده .. وأحس بالسعادة ونسى زوجته .. ونسى مرضها .. وكان الحرمان الطويل قد هز أعصابه ..

وسألها :
ـ هل تقومين بهذه الرحلة وحدك ؟
ـ أجل .. اننى وحيدة .. وأنت ..؟
ـ وأنا كذلك .. وحيد ..
ـ وتعيش وحدك فى بكين ..؟
ـ أجل .. وأقيم فى فندق ..

واصفر لونه وهو يكذب .. ولكنها لم تلاحظ هذا ..

وقالت بأسى :
ـ لقد فقدت والدى ووالدتى فى الحرب .. وأختى الكبرى .. ماتوا جميعا .. فى الهول والجحيم الذى مر بنا .. كالعاصفة .. وفى فترة الاحتلال فقدت ما بقى لى من كرامة ..
ـ دعك من هذا الحديث الآن ..

وضغط على يدها .. ورجعا إلى الزورق .. وخرجا منه توا إلى الفندق ..

وقال لها برقة ..
ـ سنتعشى .. ثم نذهب إلى المسرح ..

فهزت رأسها .. موافقة ..
وأكلا وشربا النبيذ الصينى .. ثم خرجا إلى المسرح .. وضحكا كثيرا .. وكانت الرواية ممتعة .. والاخراج رائعا .. ولما عادا إلى الفندق .. كان الليل قد انتصف ..

وودعها على باب حجرتها .. ودخل إلى غرفته .. وعندما أصبح وحيدا مرة أخرى أحس بأنه محموم فخرج إلى الشرفة .. واعتمد على السياج .. ووقف فى الظلام .. أكثر من خمس دقائق وكأنه ينتظرها .. كان يتوقع خروجها اليه ..

وقف دون أن يدخن .. وكان النبيذ الذى شربه على العشاء .. لايزال يشعل رأسه ..

وسمع صوت أقدامها الخفيفة فأغلق عينيه ..

وأخرج كرسيا إلى الشرفة دون أن ينظر إليها فقالت برقة :
ـ سأظل واقفة .. أحس بصداع ..
ـ هل أطلب لك فنجانا من القهوة ..؟
ـ لاداعى لذلك .. لماذا نوقظ الخادمة فى هذه الساعة من الليل .. لقد نام الجميع ..
ـ هناك من هو ساهر ..
ـ سأشرب كأسا من الخمر انها تريح أعصابى ..

وتلفت فى حيرة .. من أين يأتى لها بالخمر فى هذه الساعة من الليل .. فابتسمت لحيرته وقالت برقة ..
ـ عندى نصف زجاجة .. وأحب أن تشرب معى ..
ـ سآخذ كأسا ..
ودخل معها غرفتها ..

وظلت تشرب .. وكلما شربت شرب .. ونظرت اليه وقالت :
ـ سأكتب كتابا عن رحلتى إلى الصين .. وستكون فى أول صفحاته ..
ـ ماذا تقولين عنى ..؟
ـ سأقول بأننى التقيت بشاب عربى .. إنسان .. جميل الصفات أنسانى كل ما لقيته فى السفر الطويل من مشقة .. وأخرجنى من وحدتى المرة .. وجعلنى أعود صبية ..
ـ أنت صبية .. وأجمل وأنضر من كل الصبايا اللواتى التقيت بهن فى حياتى ..
ـ حقا ..؟

وضحكت .. وتناول يدها وهى جالسة على الكرسى ونظر إلى عينيها .. كان فيهما زرقة خالصة .. وصفاء آسر .. وعجب للتقارب السريع الذى حدث بينهما كأنه التقى بها من زمن طويل .. لقد أحبها وافتتن بها .. رغم تفاوت السن .. إنها تكبره بسنوات وسنوات .. وعجب لأنه نسى معها زوجته ..

وظلا أكثر من ساعة يتحدثان .. وكأنهما يتناجيان .. ثم نهض وقال :
ـ إلى اللقاء فى الصباح .. سنخرج فى نزهة جبـلية .. وسأنقر على بابك ..

فوقفت لتودعه .. وهى تنظر اليه .. نظرة صامتة .. ولكنها معبرة ..

وعلى باب الشرفة رآها كأنها تفتح ذراعيها له فاقترب منها وضمها إلى صدره بقوة .. فراحت فى أحضانه .. تغمره بقبلاتها ..

وأغلق باب شرفتها من الداخل ..

***

وفى الصباح .. خرج رشاد من الفندق مبكرا .. ولم يمر على كارولين .. وذهب إلى المصحة .. فوجد زوجته فى أحسن حال .. وأحس أنها ليست فى حاجة إلى العلاج بالكهرباء أو بالشمع ..

ورآها تطيل النظر اليه باسمة .. فاصفر لونه .. ثم تماسك وخجل من ارتباكه .. واضطراب أعصابه .. وسألها ..
ـ انك اليوم فى أحسن حال يا سعاد ..
ـ صحيح ..؟
ـ أسألى مس تشن ..
ـ لقد سهرنا أمس فى مسرح المصحة .. شاهدت مسرحية رائعة من تأليف وتمثيل المرضى ..
ـ واشتركت فى التمثيل ..؟
ـ المرة القادمة .. سأشترك ..
ـ وما هو موضوع الرواية ..
ـ فكرة بديعة .. رجل ترك زوجته فى فراش المرض .. وارتمى فى أحضان امرأة أخرى فنال الجزاء العادل ..
ـ ماذا حدث له ..؟
ـ أكله التنين ..
ـ لابد أن تكون المؤلفة امرأة .. هذا هو خيالها ..

وضحكت سعاد ..
ـ ألا يعجبك ..؟
ـ إن فيه قسوة بشعة ..
ـ فى المرة القادمة .. سنعطى الرجل خاتم سليمان ..

وتصور أنها تغمز بعينيها وهى تتحدث فاصفر لونه ..
ـ مالك ..؟
ـ تعبت من صعود التل ..
ـ انك تصعد كل يوم .. ولم تشعر بالتعب ..
ـ ولكننى تعبت اليوم .. لماذا تضحكين ..؟
ـ فكرة الرواية أعجبتنى ..
ـ هذا خيال مريض .. وأين هو التنين ..؟
ـ فى كل الصين .. لماذا تأخذ المسألة جد ..
ـ أبدا ..

وضحك .. ثم عاد واصفر لونه .. وبقى مع سـعاد بعض الوقت ثم خرج .. مضطرب الفكر .. كان يحب زوجته حـب جنـون .. ولا يدرى لماذا ..

وعندما رجع إلى الفندق .. وجد كارولين فى مائدة الطعام .. فجلس يتغدى معها على مائدة واحدة .. وجاءه الخادم أثناء الطعام وقال له بالإنجليزية ..
ـ إن زوجته تطلبه فى التليفون من المصحة ..

فنظرت إليه كارولين .. بعيون مفتوحة ..

وامتقع لونه .. ونهض إلى التليفون .. ولما عـاد .. وجـدها تدخن بشراهة .. ويدها ترتعش .. وابتدرته قائلة ..
ـ إذن أنت متـزوج ..؟
وأجاب هامسا ..
ـ أجل ..
ـ وزوجتك هنا فى هانتشو .. ومريضة فى المصحة .. ولماذا كذبت علىّ .. لماذا لم تقل الحقيقة ..
ـ كان لابد أن ..
ـ كذبت لأكون لك سلوى .. ولتتخذ من جسمى متعة عابرة .. وزوجتك تموت هناك .. إنك حقير ..
ـ أنت مخطئة ..

ونهضت بانفعال ودخلت غرفتها وأغلقت عليها الباب ..

وفى الصباح رآها رشاد خارجة من الفندق وركبت السيارة إلى المحطة .. وكان رشاد يود أن يلحق بها ويسمعها كلمة .. ولكنه سمر فى مكانه ..

ولما ذهبت السيارة .. صعـد إلى غرفته .. وجلس معتمدا برأسه على يديه .. وهو يحس بأن شيئا ثقيلا قد حط على صدره وجذبه إلى الأرض ..

***

وقضى ليلة .. قلقة .. وفى الصباح ذهب إلى المصحة .. ليرى سعاد قبل عودته إلى بكين ..

وودعها وركب القطار .. وفى بكين عاش فى عذاب لايوصف .. وقرر أن يعترف لسعاد بخيانته .. عندما يرجع إلى هانتشو ..

ولكنه لما ذهب إلى هانتشو .. وقابل سعاد .. خشى أن يعترف لها فيقتلها لأنها كانت تحبه إلى درجة الجنون .. وتغار عليه من النسيم .. فكيف يقول لها أنه ضعف وارتمى فى أحضان امرأة ..

وكتم لواعجه .. وعاد بزوجته إلى بيته فى بكين ..

***

وكان يرى التنين أينما تحرك .. أنه شعار الصين .. على كل الدور والمبانى يقف التنين .. فاتحا فمه ..

وفى بيته .. بل فى غرفة نومه .. تمثال من الفحم .. وعليه تنين هائل .. لقد أصبحت المسرحية حقيقة مميته .. وسيأكله التنين ..

وكان يود أن يحطم التنين الذى فى غرفته .. أو يحدث زوجته لترفعه من هذا المكان ..

ولكنه خشى أن تتذكر المسرحية .. وتقف على سره .. فتراجع ..

ولاحظت زوجته شروده واضطراب أعصابه .. فتصورت أن مرضها أرهقه بالمصاريف وأثقله بالديون .. فحزنت لحاله .. وازداد تعلقها به وحبها له وتفانيها فى خدمته ..

وكانت تستقبله بالابتسامة المشرقة والضحكة الناعمه ودلال الصبا .. ويقابلها بالجفاء .. والشرود ..

وعاشا فى عذاب .. وأحس بالفجوة التى حدثت فى البيت وكادت تقوضة .. وتدمره ..

وقرر أن يفاتحها فى الأمر بطريقة مخففة ليخفف عن نفسه العذاب .. فقد كانت هذه هى زلته الأولى منذ تزوجا .. ويريد أن يتطهر من رجسها ولكنه كلما هم بالكلام تردد فازداد قلقه وعذابه ..

ومرت شهور وحل الشتاء وكان قارس البرد .. وأصيب رشاد .. بالتهاب رئوى حاد ..

ولكنه ظل يعالج فى البيت .. وأخذ المرض معه كل أدواره ..

وذات ليلة اشتد هذيانه وكانت زوجته ساهرة بجواره كعادتها ..

وفى الصباح سألته برقة ..
ـ من هى كاروليـن .. التى كنت تردد اسمها .. وأنت تهذى ..؟
ـ كارولين .. ؟
ـ آه ..
ـ انها فتاة المانية بائسة .. التقيت بها منذ سنوات فى ميونخ .. قبل أن نتزوج .. وكانت جائعة .. فتعشينا وذهبنا إلى السينما ..
ـ ولا زلت تذكرها بعد كل هذه السنين ..
ـ ربما لأن حياتهــا كانت مأساة .. مات والداها فى الحرب ..

ووضعت سعاد يدها على فم زوجها ..
ـ أنسها ..

وكانت تود أن تعانقه .. لولا أن دخلت خادمتها الصينية .. لتنظف الغرفة وأخذت تمسح على الأشياء والتماثيل وتنفضها بالمنفضة ..

وصعدت على الكرسى لتمسح تمثـال الفحم الذى فوقه التنين .. كعادتها .. وبدت منها حركة فسقط التمثال وتناثرت أجزاؤه .. على أرض الغرفة .. وطار جزء من التنين وحط على صدغ رشاد .. كانت الضربة شديدة ولكنها ليست قاتلة .. وسال الدم غزيرا .. وغاب رشاد عن وعيه .. ولما استفاق شعر بالألم الحاد .. ولكنه فرح فى أعماقه لأنه نال جزاءه .. وذعرت الفتاة على السيد وعلى التمثال العزيز .. ولكن السيدة سكنت روعها ..

وجرت سعاد تمسح جرح زوجها .. بيدها الرقيقة .. ونظر رشاد إلى التنين الذى تحطم وشعر بفرحة كبرى .. شعر بأن المعركة انتهت .. وأن التنين الذى كان يعيش فى رأسه قد اندثر ..

وتناول يد زوجته .. وقبلها بحرارة ..

وقال هامسا :
ـ انها آخر مرة ..

ولم تفهم سعاد شيئا .. ولكنها طوقته بذراعيها .. كأنها تحميه من كل ما يدور فى الخارج .
نشرت القصة لأول مرة بصحيفة الشعب المصرية فى 2031958 وأعيد نشرها بمجموعة ليلة فى الطريق سنة 1962
=================================
















ليست هناك تعليقات: