الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 23 قصص قصيرة من الجزائر ل محمود البدوى



الزورق المقلوب

قصة محمود البدوى

كنت فى طريقى إلى المغرب .. وهبطت فى مدينة " وهران " لأقضى فيها أربعة أيام .. فقد سمعت بجمالها وهدوئها .

والذى يعيش فى القـاهرة المختنقة بالسكان ، والتى يسودها الضجيج ،يتنفس الصعداء فى أى مكان آخر ليس فيه زحام .

نزلت فى فندق متواضع يقع فى وسط المدينة ، تقوم بالخدمة فيه النساء .. ولكن ليس فيه طعام .. فكنت آكل فى المطاعم ، وأتجول وحدى فى شوارع المدينة ما طاب لى التجــوال .. ثم أجلس لأستريح فى أول مقهى تقع عليه العين .

والمقاهى فى وهران صغيرة وليس فيها طاولة ، ولا ضمنة ، ولا كوتشينة ، ولا تستطيع أن تجلس فيها أكثر من نصف ساعة .. وهى الفترة التى تستغرق شرب القهوة .. فكنت أضطر فى ساعات الصباح إلى ارتياد أكثر من مقهى .. وكان هذا ما يضايقنى فقد أضطر للجلوس فى مكان لا أحبه .. كما أن فيه من الاسراف ما يحز فى نفس المسافر ، وهو فى حاجة لكل قرش .

وأخيرا عثرت فى شارع جانبى على قهوة عربية .. صفت أرائكها وموائدها وحشياتها وبسطها ، على الطراز العربى الخالص .

ووجدت روادها يجلسون على هواهم ، وحسب رغبتهم ، ساعة وساعتين .. دون حرج .. يشربون الشاى والقهوة فى أكواب مزخرفة أنيقة .. ويتحدثون فى هدوء وسكون ..

وفى اللحظة التى دخلت فيها من باب المقهى ، وجلست فى ركن أشرف منه على الحركة فى الطريق لأتسلى فى وحدتى .. عرف صاحب المقهى أننى مصرى .. فرحب وأوصى الغلام الذى يحمـل الطلبات للزبائن ..

ووجدت المكان جميلا وهادئا يريح الأعصاب .. فأخذته كمستقر لى بعد أن شاهدت كل معالم المدينة وقطعتها طولا وعرضا .

وفى الصباح التالى ترك الشيخ الوقور " صاحب المقهى " مكانه .. وجاء يؤنسنى بحديثه . وكان فى برنس أخضر وعمامة بيضاء ، وتطل الحيوية من عينيه الواسعتيــن البراقتيـن . رغم أنه فى تقديرى قد جاوز الستين .

وكان متوسط الطول ، أبيض البشرة ، نحيف الجسم .. وله لازمة الاشارة بيديه وهو يتحدث كمعظم المصريين ..

وبعد الترحيب بى ، والحديث المألوف عن الجو والمطر فى وهران . سألنى :
ـ أذاهب من هنا إلى باريس كالعادة .. ؟
ـ لا .. أنا ذاهب إلى المغرب ..
ـ سياحة ..؟
ـ أنا مدرس فى الجامعة ..

وتهلل وجهه ..
ـ هل تعرف زبيدة .. ؟
ـ زبيدة حمدون .. ؟
ـ زبيدة محمد بن قاسم ..
ـ أجل أعرفها انها تلميذتى وهى من انبغ الفتيات ..
ـ انها ابنتى ..

وظهر على وجهه السرور وهو يقول هذا .. وسرنى انه والد لفتاة ذكية وطيبة الأخلاق .

وقال الشيـخ قبل أن تنحسر موجة الفرح التى غمرتنا معا .
ـ لقد شربت القهوة هنـا .. وأحب أن تشرب قهوة أخـرى فى بيتى ..

واعتذرت له بأن المدة قصيرة .. ولكن تحت الحاحه الشديد قبلت الدعوة .

***

وفى ظهر اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان يسكن فى شقة واسعة قريبة من البحر .. وفتح هو الباب بمفتاحه .. ودخلنا ولم يستقبلنا أحد .. ولم أسمع حسا فى الداخل .

وأجلسنى إلى مائدة الطعام مباشرة .. فوجدت عليها الأطباق والأكواب والشوك والسكاكين والملاعق .. والبلح فى سعفه .

وكانت المائدة منسقة تنسيقا جميلا ومعدة لثلاثة .. ولم أكن أعرف من هو الثالث .

وأخذ الشيخ يحدثنى عن السنين التى قضاها فى فرنسا .. وكيف بدأ حياته شيالا ، ثم عاملا فى مزرعة وتزوج وهو فى سن الأربعين من فرنسية ماتت فى فرنسا ، وأنجب منها ولدا وبنتا .. ومات الولد وبقيت البنت ولأنها كانت صغيرة اضطر أن يجىء لها بمربية سوداء من الصحراء .

***

ودخلت علينا " زبيدة " تحمل تحمل آنية الطعام ، وكان سرورها بلقائى فى بيتها لايوصف .

وسلمت وجلست .. بعد أن فرغت من تجميل المائدة بأصناف مختلفة من الطعام .. أضلاع كاملة من لحم الخروف .. ثم الدجاج المسلوق .. والدجاج المشوى .. والفطائر المحشوة .. والشوربة .. وأخيرا الكسكسى وقد أكلنا منه كثيرا لمذاقه الحلو .

ولما كنت لا أستطيع فهم اللهجة الجزائرية فهما تاما ، وتغيب عنى الكثير من كلماتها .. فقد أخذت أتحدث مع الآنسة " زبيدة " بالفرنسية والعربية الفصحى .. وكذلك جرى حديثى مع الأب .

ولاحظت أن أثاث البيت كله على الطراز الفرنسى .. البوفيه .. والمائدة والكراسى .. وكل ما شاهدته فى البيت وأنا داخل كان فرنسى الطراز .

وانتقلت بعد الغداء .. إلى قاعة عربية وجلسنا على الحشيات نشرب الشاى .. وكان الجو كله فى هذه القاعة عربيا خالصا .. وكانت زبيدة هى التى تقدم كل شىء بعد أن تسمع خبطة خفيفة من الداخل .

واشتقت بعد أن عرفت أن الرجل أرمل إلى رؤية هذه السوداء التى صنعت كل هذا الطعام باتقان وفخامة .

ولكنها لم تظهر فى هذه الجلسة .

وأخذنا بعد الشاى نتحدث ، والشيخ يحكى لى كيف لاقى كل أنواع العذاب فى سنواته الأولى وهو فى فرنسا .. وعندما ذهب إلى الريف وتزوج استطاع أن يقف على رجليه .. والفضل لزوجته .. ولهذا يحب ابنته لأنها قطعة منها ، وصورة من جمالها ..

وكانت " زبيدة " تسمع كلام أبيها وهى منشرحة الصدر محمرة الخدين .. ثم أخذت تسألنى عما شاهدته فى " وهران " فذكرت لها أماكن كثيرة ..

فقالت :
ـ وهل ذهبت إلى البلاج ..؟
ـ ذهبــت إلى البحر ولكن لم أشاهد مكانا يصلح للاستحمام ..
ـ أين ..؟
ـ هناك قرب الميناء بعد منـزلكم بخطوات .
ـ ليس هذا هو " البلاج " .. البلاج بعد نصف الساعة بالسيارة .. ولابد أن تراه لأنه أجمل مكان فى الدنيا ..
ـ ولكنى مسافر ..

فقال الوالد :
ـ سـنذهب غدا .. وهو مكان جميل لابد أن تراه قبل سفرك .

***

واتفقنا على أن نتقابل فى " المقهى " فى الساعة الرابعة بعد الظهر .. ومن هناك ركبنا سيارته .. وكان هو الذى يسوق .. ومر على البيت .. وصعد اليه .. ونزلتا معه " زبيدة " ومربيتها السوداء " صالحة " وكانت فى برنس أزرق زاهى اللون يضفى انعكاسا باهرا على تقاطيع وجهها الجميلة .. وكانت لفاء العود متناسقة التركيب .. وعيناها الواسعتان تلمعان فى وهج أخاذ .. وقبل أن تدخل فى جوف السيارة القت على شخصى نظرة سريعة ولكنها فاحصة .

أما زبيدة فكانت تلبس برنسا أبيض .. وقد غطت وجهها وشعرها ، إلا من حيث يبرز جزء من الأنف ، وتبرز العينان البنيتان .. ولولا رنة صوتها ، والابتسامة المشعة من عينيها ، لعرفتها بعد لأى ..

وحملتا معهما الكثير من الأشياء .

فسألت " زبيدة "
ـ لماذا هذا كله ..؟
ـ سنتعشى هناك .. كما أشارت " صالحة "

وركبت زبيدة ومربيتها " صالحة " فى الخلف .. وركبت بجوار الشيخ من الأمام ..

وانطلقنا بالسيارة فى طريق كثير المنحنيات ، ولكنه مرصوف جيدا وفى نعومة الحرير .. وكانت الحركة قليلة فى الطريق .. وعن يسارنا التلال العالية المكسوة بالعشب الأخضر .. والتى تظللها أشجار الحور والصفصاف فى أكثر من موقع ..

وكان الشيخ يود أن يصعد بى فوق هذه التلال .. لنرى الكنيسة الأسبانية .. ومغاور وكهوف الغواصات التى نحتها الفرنسيون فى الجبل ..ولكن رأيت أن نرجىء هذا إلى جولة أخرى فى الصباح المبكر ..

وكنت أرد بصرى عن التلال الصخرية عن يسارى ، إلى البحر الأزرق عن يمينى ، وأعجب لما أعطته الطبيعة لهذه البلاد فى سخاء لاحدود له .. إن مدنهم تنهض على التلال وتغوص بأقدامها فى البحر .. فاكتسبوا طبيعة البحر وطبيعة الجبل معا ..

وكان الشيخ رقيقا وصلبا ويسوق العربة بمهارة تجل عن الوصف .. وكنت أتلفت برأسى إلى الوراء .. وأنا أسمع شرح " زبيدة " بالفرنسية لكل ما نمر به ونشاهده فى الطريق .. أما الشيخ فلم يكن يتحدث لأن الطريق كان صعبا ، ويتطلب الانتباه الكامل وإلا سنصبح فى غمضة عين طعاما للأسماك .

وكانت المربية " صالحة " صامتة مثل الشيخ .. ولكنها مـن حين إلى حين تتبادل كلمات قليلة بالفرنسية مع " زبيدة " .

وبدأ البحر الأزرق يتلون .. وظهرت السحب الداكنة فى السماء .. ظهر هذا فجأة ..وهى ظاهرة مألوفة فى أرض الجزائر فى شهرى مارس وأبريل ..

وكنت أشعر بانتعاشة لتقلب الجو .. فأنا أريد أن أرى الطبيــعة فى أقصى ضراوتها .. بعد الحيــاة الرتيبة فى مصر ..

وكنت أفكر فى الحظ الذى جعلنى التقى بهذه الأسرة البالغة الحد فى الطيبة والكرم .. فالأب كريم شهم ترك عمل المقهى لتابعه وخرج يرينى جمال البحر .. والبنت مثال للرقة والجمال .. والمربية مثال للوداعة والحسن .. فأى حظ هذا وأى سعادة ..

وكان الشيخ طوال الطريق يسألنى إن كنت مستريحا لسرعة السيارة .. أو متضايقا من دخان سيجارته ، وكان يدخن بشراهة وابنته تضحك لسؤاله .

وتقول بعذوبة :
ـ كل شىء تستطيع أن تمتنع عنه .. إلا التدخين يابا ..
ـ والله أستطيع ..
ـ أبدا ..
وكانت تضحك .

***

وبلغنا المصيف .. وقبل أن نصل إلى منـزل الشيخ .. عرجنا على مقهى فى الشارع الرئيسى .. وكان المقهى خاليا .. ولكن الحركة فى الشارع وفى المتاجر القريبة كانت تدل على وجود الحياة فى المنطقة رغم أن الصيف لم يبدأ بعد .

وأودع الشيخ العربية فى " جراج " ومشينا إلى بيته لأن الطريق إليه كان ضيقا ولا يصلح لمرور السيارة .

ودفعنا " زبيدة " لتمشى أمامنـا على الرمـل المفروش بالحصى .. وبجوارها مربيتها وسرنا أنا والشيخ وراءهما .. وفى هذه اللحظة فقط أدركت مقدار ما فى قوام زبيدة من حسن وهى فى برنسها الأبيض .. وما يمكن أن تعطيه للرجل من سعادة .

وكانت المربية تتحرك وهى على معرفة بالطريق فأدركت أنها جاءت إلى هنا قبل هذه المرة .. بدأت ريح البحر تهب بعنف ، والشمس أخذت تغيب .. وكانت الفيلات عن يميننا وشمالنا صغيرة وأنيقة بأبوابها وشبابيكها الزرقاء .. وجدرانها البيضاء المتألقة .

شعرت بيود البحر وبالجمال حولى وأمامى ..وبالشباب والحيوية فى عروقى .. وكنت أود أن أمد ذراعى ، وأعانق الشيخ أولا لأنه هو الذى أتاح لى هذه الفرصة ، ثم أضع قبلة على جبين ابنته كأخت .. ولأنه لا حق لى بعد على تقبيلها فى ثغرها .

ووصلنا إلى الفيلا وكانت من طابق واحد على سيف البحر .. بينها وبين الماء الأزرق مد ذراع .. وكانت معدة فى الداخل للإقامة الدائمة ، وليست لفترة الصيف فقط .. وهى مكونة من غرفتين للنوم .. وغرفة للمائدة .. التى تعد للجلوس إذا اقتضى الأمر ذلك . ثم شرفة دائرة على البحر .. وفيها تستطيع أن تصطاد الأسماك بكل سهولة .

وجلست أنا والشيخ وراء زجاج الشرفة نشرف على البحر .

وأخذت زبيدة ومربيتها فى اخراج الأشياء من الأكياس .. واعداد العشاء .. وأوقدت المربية النار فى المدفأة .. وأدركت وأنا أرى النار السبب فى حمل الخشب معنا فى شنطة السيارة .

وأحسست بالدفء حتى بعد أن خلعت المعطف .. وبقى الشيخ فى عباءته .

***

ولما جلسنا إلى الطعام ، كان الجو رصاصيا ، والسماء تمطر بعنف .. والبحر قد انقلب أسودا .

وكان من عادة الشيخ أن يشرب كأسين من النبيذ على العشاء .. وقد تعود على هذا مذ كان فى فرنسا .. وقد جاريته وشربت مثله .. أما زبيدة ومربيتها فشربتا ماء معدنيا من عيون الجبل .

وسمعنا ونحن على الطعام ، قصف الرعد ، ورأينا تشقق السماء بالشهب . وفى الساعة التاسعة ليلا كانت العودة بسبب حالة الجو مستحيلة .. فقررنا المبيت فى الفيلا إلى الصباح .. وليس فيها ما ينقص للراحة .

وكان الظلام مخيما .. ولم يكن حولنا من جاء يستمتع بالبحر مثلنا .. كان السكون عميقا ومطبقا .. ولم يكن هناك من حاجة لإضاءة منطقـة البحر ما دام الصيف لم يبـدأ بعد .. فكان الإظلام تاما فى البحر والأرض .

***

نامت " زبيدة " ومربيتها " صالحة " فى الغرفة الداخلية .. وجلست أنا والشيخ نصطلى بالنار ونتطلع من وراء النافذة إلى البحر ..

وبدأ القمر يرسل نوره .. ولمحنا من وراء الزجاج شيئا أسود يحركه الموج .. كان يسير فى اتجاه الريح ..

وسددت بصرى ، وبدأت ملامح ذلك الشىء تتضح كلما ارتفع نور القمر .. وظهر أنه زورق صغير ..

وحدق الشيخ ونظر كما نظرت ثم قال :
ـ انه زورق وبه رجل .. يستغيث بنا .. يلوح بذراعه .. لم يجد نورا إلا فى بيتنا ..

فقلت له :
- أنا أرى الزورق .. ولا أرى الرجل ..
فقال :
ـ بل أرى الرجـــل .. وهو يلوح بيــده .. أتعرف الســباحة ..؟
ـ أجل ..
ـ لو كنت أعرف السباحة مثلك .. لذهبت إلى الرجل وأنقذته .. يا لها من سعادة أن تنقذ نفسا بشرية من الموت ..
ـ فى هذا الجو لاأستطيع .. وأشعر بالخوف ..
ـ إن الحرب مع إسرائيل أشاعت فى قلبك الخوف ..
ـ أبدا إن الحرب مع إسرائيل لاتشيع فى قلوبنا الخوف ولو امتدت مائة عام .. وانما الخوف جاء من الداخل .. ولم يأت من الخارج قط .. وعندما ذهب شبح الخوف .. عادت الينــا القــوة .. وعبرنا القناة وانتصرنا .. ولم يعد هناك خوف ..

ـ إذن انقذ الرجل .. وإذا لم تفعل هذا سأخوض فى الماء وأنقذه ..
ـ لا داعى لهذه المخاطرة والزورق يقترب منا وحده ..

وكنا نتحدث وعيوننا معلقة بالزورق .. وكان يقترب ويبتعد تبعا للموج والريح .. ولكنه كان فى كل الحالات يقترب منا ..

ولما أصبح على مدى أذرع قليلة .. نزلت فى الماء بسروالى الصوفى فى هذا الجو القارس ، وسحبت الزورق إلى الشاطىء تحت الشرفة .

وكان قد انقلب بملاحه .. ولم يكن على ظهره أحد .. وارتديت ملابسى بعد أن علقت سروالى قرب النار .. وأخذنا أنا والشيخ نبحث فى جوف الزورق بعد أن عدلناه .. فوجدنا جورابا جلديا ربط باحكام فى العارضة الخلفية للزورق .. ولا شىء بقى سواه .. وعندما انقلب الزورق ذهبت كل الأشياء إلى قاع البحر .

نزعنا الجراب الجلدى ، ودخلنا به الفيلا .. وجلسنا قرب النار .. وأخذنا نخرج ما فى جوفه .. وجدنا علب معلبات وأدوية .. وزجاجة خمر وخبزا مقددا .. وأشياء أخرى كثيرة حشرت حشرا .. وفى قاع الجراب وجدنا كيسا جلديا به عدة دولارات ..وبمجرد ظهور الدولارات الكثيرة تغيرت سحنتانا .. على ضوء اللهب .. وقال الشيخ بصوت مخنوق :
ـ نعدها ..
وأخذنا نعد .. فوجدناها ثلاثة عشر الف دولار .
وقال الشيخ :
ـ انها رزقك ..
ـ أبدا .. أنها تخصك أنت ..
وطال الجدل بيننا فيمن يستحق المبلغ .. وقلت لأريحه :
ـ نعطى هذه الدولارات للمربية .. ما دمت ترفضها ..
ـ أى مربية يا أستاذ " حسن " أنها زوجتى ..!

والجمنى العجب عن التعليق .. إن الرجل الذى يأكل نصف فخذ العجل ، وفخذ الضأن فى الوجبة لابد أن يتزوج من هذه الحسناء .

وقال الشيخ بعد تفكير ..
ـ نبحث عن اسم صاحب الزورق قد نعثر على بطاقة فى الكيس ..

وبحثنا فلم نعثر على شىء .. وقال الشيخ :
ـ إن الزورق بشكله من زوارق الشمال .. هولاندى .. دانمركى .. نرويجى .. وهؤلاء هم الذين يركبون المخاطر فى البحار لتحقيق غرض أو نزوة .. ولكن الدولارات أمريكية ..

فقلت له :
ـ إن الدولار الأمريكى يحمله عادة كل مسافر .. مهما كانت جنسيته ..

وسألت الشيخ :
- هل أنت على يقين من مشاهدتك لصاحب الزورق .. ربما كان ذلك مجرد تصور .. لاستكمال الصورة .. إذ كيف يسير زورق من غير صاحبه ..
ـ أبدا .. لقد شاهدته بعينى هاتين .. وكان يشير بيده ..
ـ إذا كنت متأكدا من وجوده .. فقد غرق .. وستظهر جثته هنا .. إذا لم يدفعه تيار البحر وموجه بعيدا ..

وسألنى :
ـ متى تطفو الجثة على سطح الماء ..؟
ـ بعد ثلاثة أيام .. كما سمعت ..
ـ سننتظره ..

وجلس الشيخ متجهما قرب النار ، يغذيها ويفكر .. ثم قال :
ـ لو كان الرجل موجودا فى الزورق وحيا إلى هذه اللحظة ما بقى كل هذا الطعام .. الرجل غرق من زمان ..
كان منقبض النفس ويشعر بكآبة .. لم تظهر على وجهه فرحة من عثر على كنـز كان يمنى النفس به ، على مدى سنين طويلة ، ووجده مرة واحدة تحت قدميه .. لم يكن ينتابه هذا الشعور ..

وكنت بمثل كآبته وبمثل غمه ..

وهل كان ذلك لأننا عثرنا على الكنـز معا ؟ لقد أوجد هذا المال بيننا شيئا حادا كنصل السكين قطع كل ما كان بيننا من علاقة انسانية ..

فالشيخ الذى كان مثال الكرم والأريحية ، ويعاملنى كأخيه .. انقلب فجأة إلى طماع مغامر .. رأيته فجأة يفتح الباب الخارجى ، وينـزل إلى حيث يوجد الزورق رابضا.. ويدفعه بيديه إلى الماء ..

وعاد وأغلق الباب ، وقد اكتسى وجهه بالهدوء .. كأنه قد محا آثار الجريمة .. أنه لم يعد الآن يفكر فى الجثة تطفو أم تذهب مع الريح .. لم يعد يفكر إلا فى المال .

***

وشعرنا بالتعب .. وآن لنا أن ننام .. وترك الشيخ لى غرفة النوم .. وتمدد هو على حشية فى غرفة الطعام وغطى نفسه جيدا ..

ولم تكن " زبيدة " ولا " صالحة " قد فتحتا باب غرفتهما ، ولا اشعرتانا بأنهما قد أحستا بأى شىء مما جرى .

***

وتمددت فى الظلام على الفراش الدافىء .. ولكننى لم أنم إن الثلاثة عشر الف دولار .. توجد لى مستقرا فى القاهرة ، وتغنينى عن الاغتراب فى البلاد التى أنا ذاهب اليها .. وتغير من مجرى حياتى تماما .. آه لو كنت قد عثرت عليها وحدى .. ولكنها تخص شخصا آخر ولو تابعنا البحث لعثرنا عليه .. فكيف أفكر على هذه الصورة المريضة ..

كان صوت البحر عنيفا فى الليل .. ولكننى شعرت بأن الشيخ لم ينم .. تحرك فى فراشه ، وكنت أحس بخطواته .. وتصورته فتح علىّ باب غرفتى ، وربما فكر فى قتلى والتخلص منى .

ورحت فى غفوة .. وسمعت صوتا كصوت البارود .. ولكن لما فتحت عينى لم أر وهج النار .

***

وفى الصباح أفطرنا فى صمت .. ولم تدر " زبيدة " ولا " صالحة " سبب الصمت ، ولا الذى حدث فى الليل .

وعندما أخذنا نخرج من البيت نظرت إلى الكيس الجلدى ، وكان فى مكانه من الأمس لم تمسه يد .. ولكنى وجدت عليه عنكبوتا كبيرا ..

وتقدم الشيخ وأمسك به .. وخرجنا إلى السيارة وركبنا كل فى مكانه .. ووضع الشيخ الكيس على يمينه بيتى وبينه .. وكان متجهما صامتا ..

وتحركنا على مهل .
وقبل أن نخرج من منطقة البيوت نظرنا إلى البحر معا .. كأن هناك جذب من المغناطيس يجذبنا لننظر فى اتجاه البحر .. فرأينا جثة الرجل المجهول تقترب من الشاطىء .. والزورق يدفعه الموج وراء صاحبه .

وأحسست بمطارق الحديد فى رأسى وقلبى ..

وكان الشيخ صامتا متجهما كعهده .. ولكنى رأيت العرق يتفصد على جبينه ..

وأوقف السيارة .. وأمسك بكيس الدولارات وفتح الباب واتجه إلى البحر .. ونزل إلى الشاطىء ..

وسألتنى " زبيدة " :
ـ ما الذى فى الكيس ..؟
ـ عناكب .. وسيرميها فى البحر ..

وكنت أفكر فى تأخرى عن السفر إلى الدار البيضاء ..

وكانت زبيــدة وصالحة تبتسمان .. فهل فهمتا .. لم أكن أدرى

===========================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة ديسمبر 1976 وأعيد نشرها بمجموعة صورة فى الجدار لمحمود البدوى

عام 1980
============================


ليست هناك تعليقات: