الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 1 حوارات محمود البدوى فى الصحف والمجلات العربية



(1)

الأديب الكبير محمود البدوى يتكلم بعد طول صمت :
* النقاد ووسائل الاعلام تجاهلونى عن عمد وقصد ..!
* قصتى " رجل على الطريق " سرقتها السينما .. وتحولت إلى فيلم " زوجتى والكلب " وحكم لى القضاء بألف جنيه تعويض .. ولم أنفذ الحكم ..!!
* حققت فى الأدب ماسوف يعيش ماعاش الأدب العربى ..
*النقد الآن .. عبارة عن مجاملات شخصية وسطور صحفية

***

أجرى الحوار الكاتب والصحفى : عزت معوض
عنـــوان الدوريـــة : مجلة الكواكب
رقــم العـــــــــــــدد : 1791
تاريخ النشــــــر : 26 نوفمبر 1985


كان لابد أن أذهب إليه وأتحدث معه .. حتى لاتظل أصابع الاتهام تطاردنا .. بأننا نحمل مجلدا ضخما من النكران والجحود وعدم الوفاء للذين قد أعطوا بنبل وسماحة وبلا ضجيج ـ كل ما يملكونه ـ ثراء القيم ونبل الأحاسيس ..

وهذا الأديب الكبير المبدع " محمود البدوى " والذى يعتبر " أبو القصة القصيرة " فى العالم العربى كله ـ وأول من شق طريقها وبذر بذورها فى وطننا .. وظل فى محرابها يتأمل ويجود بعيدا عن كل المزايدات إلا ضميره الانسانى .. بعيدا عن كل اثارة أو ابهار إلا ايضاح المعانى الجميلة .. بعيدا عن استعراض العضلات الفنية .. أو التقنية الايديولوجية المدعاة بالتقدمية .. إلا أنه جعل خيوط نسيج قصصه تتحرك فى دنيا مشبعة بالتنفس الانسانى .. نحو الرقى والتقدم وبشير خير يهدم كل محاور الشر والظلام .. كتب المئات من القصص .. ورسم المئات من الشخصيات فى تفرد شديد .. القصة عنده تحمل كل المعانى .. والمعانى عنده حية متتابعة .. تهتم بكل ما يطرأ على الشخصية من أحداث ومتغيرات ..

دائما يقول : الاهتمام بالنفس يلغى الاهتمام بالآخرين .. وأبرز فى احدى قصصه سطوة الظلم وأثره على الناس .. فقال :

"
الاحساس بالظلم يجر إلى الخبل وما هو شر منه .. ويدفع إلى التمرد والضياع .. وتحت عذاب البشرية من شبح القنابل النووية وقنابل الكوبالت .. ظهر " الهيبز " وخطف الطائرات ، وظهرت الدعارة والرقيق الأبيض ، وظهر التفسخ وهوس النساء " ..

أى لون من الظلم قد أوقعناه بهذا الأديب الكبير الذى كتب 400 قصة قصيرة .. ضمتهم 20 مجموعة قصصية أو أكثر .. بداية من " الرحيل " فى عام 1934 .. و " فندق الدانوب " و " الذئاب الجائعة " و " العربة الأخيرة " و " حدث ذات ليلة " و " الأعرج فى الميناء " و " زوجة الصياد " و " مساء الخميس " و " الباب الآخر " و " صورة فى الجدار " و " الظرف المغلق " و " الجمال الحزين " و " الزلة الأولى " و " غرفة على السطح " و " حارس البستان " إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الأعمال الابداعية .. ورغم أنه قد بلغ السابعة والسبعين من العمر ، إلا أنه لم يتوقف عن العطاء .. فآخر عمل له " الغزال فى المصيدة " عام 1981 ..

ورغم أنه نال شهادة الجدارة عام 1978 فى عيد الفن .. فهل هذا يكفى ..؟

والشىء العجيب والمريب ويدعو إلى الحيرة .. لماذا لم تتعامل السينما مع قصصه ..؟ وخاصة بعد أن لطش أحد المخرجين قصة لهذا الأديب الكبير ونسبها إلى نفسه ونال عنها أكبر الجوائز هو وأبطال الفيلم .. وتجاهل حق هذا الأديب الكبير ..!!

ولماذا لم تتعامل الاذاعة معه ..؟ والتليفزيون الذى قدم له عملا بعد أن حذف منه الكثير .. وهذا العمل قدم على استحياء ..!!

ومصيبة المصائب .. لماذا صمت الأدباء والنقاد عن التعليق على أدب هذا الأديب الكبير ..؟

ولماذا شاركت أجهزة الاعلام كلها فى صنع هذا الصمت ..؟! هل هذا " جزاء سنمار " ..! أى شىء يدعونا إلى القهر والكبت والتجاهل لكل الملكات الابداعية ..!

أقول لكم الصدق ، عندما كنت أبحث عن عنوان أو رقم تليفون الأديب المبدع .. اكتشفت ويا خيبة ما اكتشفت .. اكتشفت كأننى كنت أبحث عن القارة المجهولة ـ أو المستحيلات الثلاثة ، الغول والعنقاء والخل الوفى .. الكل استغرب سؤالى .. وكأننى كنت أسأل عن ابرة فى كومة تراب .. لا أديب كبير مبدع ـ ويعتبره الذين يفهمون أنه " تشيكوف " العرب ..

ماذا أصابنا بحق الله ..؟ كيف نسمح بالعذاب أن يتسرب إلى قلوب وعقول الأدباء الشرفاء الذين أخلصوا لبلدهم .. فأعطوا .. وأعطوا .. هل يكون النسيان هو الصفة الغالبة ..؟!

فكم كان رده علىَّ فى التليفون موجعا ومؤلما عندما قال :

ـ لا أجد سببا لأن تهتم بى الصحافة المصرية الآن .. أين كنتم طوال هذا الزمن .. ومن الذى فكركم بي .. بعد أن كتبت عنى الجرائد العربية وأشبعتنى كتابة .. جئتم تبحثون عنى .. أين كنتم طوال هذا الوقت ..؟ وماذا صنعت فى حقكم وفى حق وطنى حتى يكون هذا الصمت والتجاهل ..؟

قلت له :

* معك حق فى كل ما تقوله .. لكن أتمنى أن القاك ..
وبرحابة صدر ، رحب الأديب الكبير " محمود البدوى " ..
وعندما قابلته فى شقته بمصر الجديدة ، ذهب من فوره إلى مكتبته وجاء بمجلدين :

واحد باللغة الإنجليزية والآخر بالفرنسية وبعض الجرائد والمجلات الأجنبية .. وقال لى :

ـ أنظر .. هذا المجلد يتحدث عن الأدباء فى الوطن العربى .. كتبت عن العقاد وطه حسين والمازنى ومحمود تيمور ومحمود البدوى ـ لا يوجد نسخة فى مصر منه لولا صديق لى قد جاء به إلىَّ من بلجيكا .. والمجلد الآخر يتناول الأدب بصفة خاصة فى مصر .. أنظر انهم كتبوا عنى كثيرا .. قيموا أعمالى .. ترجموا قصصى .. أين أنا من أهلى ..؟ أين أنا من بلدى ..؟ّ ومهما يكن فاننى دائما أقول :

بلادى وإن جارت علىَّ عزيزة وأهلى وإن ضنوا علىَّ كرام ..
اخترت هذا الطريق لنفسى .. رغم ما فيه من متاعب ومشقة لا أحب أن أغيره .. أشعر بعد كتابة القصة براحة وجدانية لا مثيل لها .. رغم ما لاقيته فى حياتى من صعاب ومشقة بسبب الأدب والتفرغ للقصة .. فأنا أشعر فى أعماق نفسى بالرضا والقناعة .. لم أفكر إطلاقا وأنا أكتب لا فى خلود ولا فى ذكرى ولا فى أى شىء من أحلام اليقظة .. لكن أعتبر أننى حققت بجهدى المتواضع شيئا .. لا بد أن يعيش ما عاش الأدب فى محيطنا العربى .. والشىء الذى يسعدنى أكثر .. أنه رغم أن كل وسائل الإعلام أغفلتنى عن عمد وقصد .. وكل النقاد الذين تخصصوا فى هذا النوع من النقد .. رغم أنهم أغفلونى عن عمد .. وأن بعض المحررين فى الصفحة عندما كان يرد اسمى على لسان غيرى كقصاص كانوا يحذفونه .. رغم كل هذا فإنى وكما قلت حققت لنفسى ما سيعيش ما عاش الأدب فى الساحة العربية .. ليس كل الكتب .. ولكن القليل من هذه الكتب يكفينى .. كما يكفى " دستويفسكى " أنه كتب " الجريمة والعقاب " و " تشيكوف " أنه كتب " بستان الكرز " .. و" الجاحظ " أنه كتب " البخلاء " و" ابن المقفع " أنه كتب " كليلة ودمنة " و" الأصفهانى " أنه كتب " الأغانى " .. كل هذه الكتب فيها الصدق والحياة .. وبالحياة والصدق عاشت ..

حاولت أن أخفف عنه وطأة كل هذه الأحزان .. وكل هذا العذاب النفسى .. والاغتراب الفكرى .. جعلت هذا الحوار هو الوسيلة .. ولذلك طرحت عليه هذا السؤال :

* ما رأيك فيما يقال أن الثورة وما بعدها لم تنتج ثقافة ، وإنما عاشت على ثقافة الأربعينات ..؟

ـ الثورة فى شهورها الأولى أو السنة الأولى أو الثانية أو الثالثة .. لاشك أنها فكرت بجدية فى العناية بالثقافة .. وأكبر دليل على ذلك إنشائها المجلس الأعلى للفنون والآداب .. وتوسعت بعد ذلك فى قصور الثقافة الجماهيرية فى المحافظات .. لكنها شغلت بعد ذلك بالشىء المضاد وبألاعيب المستفيدين والمنتهزين لها كحكم شمولى ..

وخلاصة هذا الكلام أن الثورة بدأت بداية طيبة مع الأدب والثقافة .. ثم انتكست ..!!

وإذا نظرنا إلى ماهية الثقافة .. عبارة عن كتب .. وعبارة عن محاضرات لها قيمة .. وعبارة عن فنون مسرحية وعناية بالموسيقى .. وتطوير الحياة فى أذهان الناس إلى تفتح وتقبل هذه الثقافة ..

ليس من المعقول أن أعمل مكتبة فى محافظة وأفتحها الساعة 12 .. المكاتب الثقافية فى المحافظات كثير منها مغلق ، وقليل منها هو الذى يقوم بعمله على الوجه المرضى ..!!

فلا شك أن ظل الثقافة تقلص بالتدريج .. وأصبح من السهل أن تقول أن الثقافة التى كانت موجودة فى الثلاثينات والأربعينات كانت ثقافة مزدهرة .. وهى السبب فى وجود المنفلوطى والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد لطفى السيد .. وهذه الثقافة كانت مزدهرة نتيجة العناية الجدية المطلقة بالكتاب ..

أضرب لك مثلا فى حصة الهندسة بمدرسة السعيدية دخل المعاون ووزع علينا مسرحيات شوقى .. ومثل هذا كان موجودًا فى كل المدارس من الابتدائية والثانوية والجامعات .. كل كان به مكتبة ضخمة تضم كل الكتب والمراجع العلمية والأدبية ..

والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر " شوقى " .. ونكت" المازنى " وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب " مصطفى صادق الرافعى " لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر لهؤلاء الأعلام ..

ثم كيف تنكر شخصا " كسعد زغلول " عندما يهديه " الرافعى " كتابا له ، فيقول عنه " انه تنزيل من التنزيل .. سعد زغلول العظيم الذى كان اسمه يدوى فى مشارق الأرض ومغاربها يقول عن أديب وأدبه أنه " تنزيل من التنزيل " ..

* أفهم من ذلك أنه كان هناك عناية وتشجيع على جميع المستويات للثقافة والأدب ..؟

ـ نعم .. كانت هناك العناية الجدية بالنقد ..فعندما يكتب " توفيق الحكيم " أهل الكهف .. يكتب عنه " طه حسين " و" مصطفى عبد الرازق " و" العقاد " و" المازنى " و" زكى مبارك " .. وكان فى جريدة البلاغ مخصص للنقد "المازنى" وفى "كوكب الشرق" زكى مبارك .. فأين ما يكتب الآن عن كتاب للمشهورين الذين مد الله فى عمرهم مثل توفيق الحكيم مثلا ..!!

لاتجد كلمة واحدة يتناولها أديب دارس .. وانما هى عبارة عن مجاملات شخصية .. وسطور صحفية لا تعبر إلا عن روح المجاملة البحتة .. وليس فيها أى ظل من التقييم أو التقدير ..

وعلى ما أذكر وأتذكر أنه كان فى جريدة " البلاغ " مخصص للنقد " المازنى " وفى " كوكب الشرق " "زكى مبارك " .. وكان فى الأهرام أحيانا ينتقد الشعر " أنطون الجميل " نفسه ..

* ما هو تفسيرك لهذا عندما كان الإنجليز والقصر والاقطاع يتحكمون فى الشعب ويعطلون قدراته ، كان الناس يبحثون عن الثقافة بمثل هذا الشغف ، وعندما جاءت الثورة لتحرر الإنسان وكما قيل نال حريته ، فتراجعت الثقافة وانتكست وأصابها التدهور ..؟

ـ الثورة أحيطت بنفر قوى جدا من المنتفعين .. والمنتفع دائما يحب أن يتحرك فى الظلام .. فأول شىء يقاومه .. هو الشخص المتنور والمتعلم الذى يأتيه هذا من الثقافة ..

هو يعيش فى الظلام ليتضخم ويزداد انتفاعه .. والشعارات التى يرفعها تدخل فى عقول الجهلاء والبلهاء .. عمر ما كان المثقف يقبل هذه الشعارات ويهضمها .. فهى موجة طبيعية لطمس النور من عقول الناس .. ليقبل هزيمة 1967 ونسميها له نكسة .. هذه هزيمة .. هزيمة .. والجيش لم يحارب .. والتفكك وسوء الإدارة كانا واضحين لكل من له دراية بفنون الحرب .. فكيف تقول هذا نكسة ..؟! وكيف يتقبل ذلك إلا من كان مطموس العقل ..

فموجة حب الأدب أيام الاستعمار الإنجليزى لم يستطيعوا مقاومتها ، كانت أكبر وأقوى منهم وصراع الفكر رهيب ..

الفرق واضح جدا ، لم يستطع الاستعمار بكل جبروته أن يطمس روح الأدب وفنونه من أذهان الشعب .. لأن هذا كان فى صميم القلب
.. أماالمنتفعون والإنتهازيون للثورة استطاعوا ذلك !!

*
عبر رحلتك الطويلة والممتدة ، كيف ترى أديب الأمس واليوم ..؟ وكيف ترى فنان الأمس واليوم ..؟ وكيف ترى موسيقى وغناء الأمس واليوم ..؟

ـ أديب الأمس ولظروف الحياة المادية نفسها فى ذلك الوقت .. كان روحيا ومخلصا للأدب .. وروحه متشربه لحبه إلى درجة التضحية ..

أنا شخصيا وجدت " الزيات " كان يعطى لكبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و" طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة ..

وأظن أن هذا تطور الآن إلى درجة أن الشبان الصغار يأخذون من 20 جنيها إلى 100 جنيه ثمنا للمقال والقصة .. صحيح أن الحياة تطورت بماديتها .. ويمكن أن الخمس جنيهات تساوى الآن المائة جنيه أو أكثر .. لكن هذا هو ما حدث .. فالخمس جنيهات هى الخمس جنيهات ، وليست مائة أو خمسمائة جنيه .. فرسمها هو الخمس جنيهات ..

وروح التضحية برزت واضحة فى لجنة التأليف والترجمة والنشر .. كانوا فى حارة " الهدارة " فى عابدين .. فى بناء متهالك .. يخرجون ويطبعون مجلة الثقافة متكاملة طباعة وفنا أدبيا ، ويأتيهم نظير هذا العمل أى ربح مادى يوزع عليهم .. بل كانت التضحية متضامنة .. وروح حب الأدب للأدب كان متغلغلا فى كل نفس تكتب فى هذه المجلة ..

فهل يمكن أن يحدث مثل هذا الآن فى نفوس الكتاب والأدباء المعاصرين ..؟ قطعا لا .. !! ولم تكن هناك فى ذلك الوقت وسائل اعلامية أخرى .. كالسينما والتليفزيون .. تعين الأديب على تقبل التضحية التى أوضحناها فى الجو الأدبى الخالص ..

كانت هناك مجلة للشيخ " البرقوقى " اسمها " الأديب " هذا الرجل كان يخرج المجلة وحده على نفقته الخاصة .. وكانت من أبرز وأحسن المجلات فى ذلك الوقت .. جمعت " المازنى " و" العقاد " و " صادق الرافعى " و" زكى مبارك " .. وهذا الشخص يعبر بشخصه ومجلته عن التضحية الكبرى التى لا مثيل لها للأدب البحت الخالص ..

أديب اليوم لا يقرأ

أما جيل اليوم من الأدباء .. لا يقرأون مثل من ذكرنا من الأدباء السالفين .. فتسعة أعشارهم لا يعرفون أدب التراث .. ولم يفتحوا فى حياتهم سطرا " للأغانى " للأصفهانى أو " صبح الأعشى " أو " عيون الأخبار " أو حتى " كليلة ودمنة " أو " الأمالى " ولا يمكن أن يخرج أديب ممسكا بالقلم ما لم يقرأ بعض هذه الكتب ..

والقراءة الأدبية معدومة .. قل منهم من يجيد الإنجليزية والفرنسية لضعف هذه اللغات فى المدارس والجامعات بعد خروج الإنجليز من التدريس والفرنسيين والألمان .. وهم يقرأون لبعض وتجد صورة تكرار واضحة بوضوح مطلق .. يكررون بعضهم البعض .. ولكنى لا أنكر أنه يوجد منهم من طور الرواية والقصة .. ودرس بجهده الشخصى الكثير من الأدب العالمى واطلع عليه .. حبهم الطاغى للشهرة يجعلهم لا يتأنون فى كتاباتهم .. وليس عندهم الصبر للمداومة وتحمل المشقة التى يعانيها الفنان .. ويجرون بسرعة رهيبة إلى الحوادث الجارية فى الصحف .. كسقوط العمارات المشيدة حديثا .. والغش فى المواد الغذائية .. بمعنى يخلقون من الحوادث الجارية فى الصحف التى يكتبها تضخم فى أديب وتبرزه .. ومثل هذا أزمة المساكن وأزمة الطعام ..

ومثل هذه الأشياء لا يمكن أن تعيش إلا فى جوها .. أقصد القصص .. وعاش " شكسبير " ومازلنا نقرأ له وسنظل نقرأ له .. لأنه عالج الموضوعات الإنسانية البحتة .. الحب .. الكراهية .. والخيانة وطبع المرأة فى كل العصور .. فهذه الأشياء خالدة ، وستظل تقرأ عنها وتقرأ لكاتبها .. ومثله عاش " دستويفسكى " لأنه عالج الموضوعات الإنسانية البحتة .. عالج " الجريمة والعقاب " إلى درجة أنه قال " إن المجرم يعود إلى مكان الجريمة " وقد أصبحت هذه نظرية علمية فى علم الإجرام ، وعالجها الإيطالى " لا مبروزو " بعده بخمسين سنة .. فالأديب الشفاف يتنبأ دائمًا ..

المسئولية وضعف المستوى

* مسئولية من فى ضعف مستوى أديب اليوم ..؟

ـ مسئولية العصر كله .. عصر الصحافة التى لا توجه .. وتنشر بالصلات الشخصية .. قصة أو مسرحية أو رواية أو مقالة لا يستحقون النشر ..!!

* عن الموسيقى ..؟

ـ فيما يختص بالموسيقى .. أنا لا أسمع إلا الموسيقى الكلاسيكى .. " فاجنر " و " بيتهوفن " و " تشايكوفسكى " و " هاندل " ..

أما ما عندنا من الموسيقيين الآن والموسيقى .. فأحب أن أقول لهم بكل صراحة أنهم يستفيدون فائدة مطلقة وواضحة من هؤلاء الأفذاذ .. وعملية الخلق عندهم تكاد تكون معدومة .. وعندنا موسيقى واحد أنا أحبه لدرجة عميقة وهو " سيد درويش " وأكبر دليل على خلوده أنك لا تجد فى المناسبات الوطنية إلا موسيقاه ..

* من الأغانى ..؟

ـ قد أكون رجعيا فى تعبيرى هذا .. أنا لا أحب إلا " محمد عبد الوهاب " و " وديع الصافى " .. اتجاهى كله ـ منذ صغرى وأنا عمرى سبع سنوات ـ إلى القرآن الكريم .. وأعظم من أسمع له الشيخ " محمد رفعت " والشيخ " عبد العظيم زاهر " والشيخ " منصور الشامى الدمنهورى " ..

* ومن الممثلين ..؟

ـ أعجب بتمثيلهم وواقعيتهم الصرفة للحياة " محمود المليجى " و " اسماعيل ياسين " و " يوسف وهبى " و " فاطمة رشدى ..

الشخصية المهضومة

*
الشخصيات عندك متفردة ، بل شديدة التفرد ، فما هى رؤيتك للشخصية المصرية ، وكيف نبنيها من خلال الفن والأدب ..؟

ـ أنا بأرسم وماشى على خط واحد .. أرسم دائما الشخصية المهضومة الحق .. المعذبة .. القدرية .. العاجزة عن التحرك ومواجهة صعاب الحياة .. حتى أسماء القصص تدل على هذا .. ويأتى هذا من معايشة طويلة وبحتة .. تغلغل فى النفس وتجد أنه لا مفر ولا متنفس لها إلا الخروج على الورق ..

والشخصية المصرية فى قصصى لم تتغير قط .. وهى دلالة طيبة على الطيبة ، إلى درجة البلاهة أحيانا ثم التمسك بالقيم ..

وفى كل قصصى أسعى إلى الحقيقة والجمال .. وأكره القبح فى كل مظاهره .. القبح فى الشكل .. القبح فى الخلق .. القبح فى الطباع .. وليست هناك مبالغة أن كل أنثى فى قصصى فهى جميلة أولاً .. ولا أكون مغرورًا إذا قلت لك أننى أحببت القصة القصيرة وطورتها .. فالزمن الذى كان يستغرق القصة فى بداية حياتى من يومين إلى ثلاثة ، أصبح يستغرق ساعة أو ساعتين ، وكذلك الأشخاص فى القصة ، فبعد أن كانت أربعة أو خمسة أشخاص ، تقوم على شخص أو شخصين .. وأنا أركز على الشخص الواحد لأبرز للقارئ جميع طباعه، وليكون أسهل عند القارئ للفهم . ولا أنكر عنصر التشويق فى قصصى وبعض الأحيان الإثارة .

فالقصة قصة وليست مقالا .. ويجب إذا كانت حية ولها روح أن تجذبك من سطورها الأولى ..

فالفن الحقيقى الخالد هو الذى يعيش على مر الزمن .. لماذا نقرأ التراث الآن ونقرأه بشغف ، لأنه يعبر بصدق واخلاص عن صورة من حياتنا من تلك الحقبة من الزمان ..

*رغم المئات من القصص ، والمئات من الشخصيات التى رسمتها وقدمتها ، إلا أن الأضواء تبدو عازفا عنها ، فما هو سر هذا الصمت المريب تجاه أعمالك وتاريخك الأدبى والابداعى ..؟

ـ أولا .. مسألة سهلة جدا .. أنا شخص منطوى على نفسى وخجول .. وليس لى أى اتصالات شخصية ..

أتحرك وحدى دائما فى جميع المواقع .. وهذا أكبر دليل على عدم ظهور شىء لى فى الاذاعة أوالتليفزيون .. لأن هذا واضح من جو الشللية والاتصال الشخصى .. وقد أخرجت لى قصة " القرية الآمنة " .. بمحض الصدفة البحتة ، أن مخرجا شابا فى التليفزيون اسمه " حسن موسى " قرأها فى أخبار اليوم وأراد أن يخرجها بصورة مرئية .. والسينما بالطبع أنا بعيد عنها كل البعد ..

سرقة قصة زوجتى والكلب

*
لماذا رغم أن هناك مخرجا يقال أنه سرق منك قصة " زوجتى والكلب " ونسبها لنفسه .. ما هى صحة حكاية هذه الواقعة ..؟

ـ اسم القصة الحقيقى .. " رجل على الطريق " .. وبداية معرفتى بالواقعة أنا لى صديق عزيز هو الأستاذ " عاشور عليش " نسيب المصور الكبير " عبد العزيز فهمى " .. وعاشور عليش صديق قديم يقرأ كل كتبى وقصصى .. فواضح أنه أعطى الكتاب الذى فيه القصة للأستاذ عبد العزيز فهمى .. وعبد العزيز فهمى كان يتعامل مع " سعيد مرزوق " ويحبه .. أنا أضمن أنه حكى له القصة ، وأراد هذا أن يخرجها ويغير الاسم ويغير بعض الأشياء القليلة التى لا تغير صلب القصة ..

رأيت هذا الفيلم فى سينما " مترو " بمحض الصدفة .. وسمعت إشاعات من كل الناس ان هذه القصة مسروقة من " رجل على الطريق " .. فأخذت محاميا قريبا لى اسمه " شوكت التونى " وذهبنا إلى سينما مترو وشاهدنا الفيلم .. وقال لى " ان القصة هى قصتك مائة فى المائة " ..

*ما هو الاجراء الذى اتخذته بالنسبة لهذه الواقعة ..؟

ـ رفع الأستاذ شوكت التونى دعوى على مؤسسة السينما وعلى المخرج .. حكم القاضى لى بتعويض " ألف جنيه " .. كنت أتمنى أن يكون هذا الحكم على مؤسسة السينما .. لكن الحكم جاء على الأستاذ " سعيد مرزوق " وحده .. شعرت بالقرف ولم أنفذ الحكم .. والدعوى كانت برقم 70987 لسنة 1972 كلى شمال دائرة " 2 " محكمة شمال القاهرة الابتدائية .. والحكم صدر بالجلسة المدنية فى المحكمة فى يوم الاثنين الموافق 17/2/1975 ..

* هل عادت اليك حقوقك الأدبية ..؟

ـ لا .. لا .. أبدا .. أنا قرفت بمجرد عدم الحكم على المؤسسة وهى المسئولة الأولى مائة فى المائة .. لأنها هى التى صرفت عليها وطلعتها .. فكان الأجدر بها فى ذلك الوقت أن تعيد إلى كافة حقوقى المادية والأدبية بمنطق الأخلاق والنزاهة ..

وأما عن صمت النقاد .. ربما نقاد الجامعات لا يجدون فى قصصى المنهج الذى فى دماغهم سواء الرومانسية .. أو الواقعية .. أو البنيوية .. كل هذه المذاهب لا تدور فى رأسى وأنا أكتب القصة " .

الإنسان والموجة ..؟

كتبت تقول " الكتابة رسالة .. وإذا كنا نحلم بأحلام اليقظة ونقول أن الأديب رسول ، وعليه رسالة كرسالة الأنبياء ، إلا أن هذا كله بالطبع فى واقع الحياة عبارة عن حلم " ..

* ماهى الدوافع وراء هذا القول وهل الكتابة فقدت قيمتها ورسالتها ، ومن الذى أفقدها هذه القيمة ..؟

ـ النظام نفسه .. جنازة " محمود تيمور " كان فيها ستون واحدا .. لكن يموت أى واحد سياسى .. أو أى واحد داخل فى التشكيل تجد كل الوزراء والحاشية والطبول .. مات " عبد الحليم حافظ " الدنيا انقلبت .. " أم كلثوم " يريدون خطف نعشها ..

مات الأستاذ " محمد كامل حسين " صاحب " القرية الظالمة " مشى فى جنازته 5 أفراد .. حتى السلطة نفسها تضخم فى أديب وتبرزه .. مغنواتى بتيرزه .. وقاص بتبرزه .. لاعب كرة بتبرزه ..!!

الشعب راكب هذه الموجة من سنين .. فأصبحت ممارستها عليه سهلة ، انه لا يتعود شيئا جديدا .. وهذه موجة سهلة دخلت فى طباعه السلوكية ..

وينتهى الحوار مع " تشيكوف " القصة القصيرة المصرية والعربية ..

وإذا كانت بعض الأقلام قد تجاهلته عن عمد ، وبعض أجهزة الاعلام قد قررت نسيانه ، ومنحت بعض البكاشين والمرتزقة دورا أكبر من أدوارهم وحجما أعظم من أحجامهم ..

إلا أن الأديب " محمود البدوى " سوف يأتى اليوم الذى يجد فيه ناقدا منصفا ليعيد اكتشافه من جديد .. عند ذلك تبرز القيمة الحقيقية لأدب هذا الأديب العملاق ورحلة كفاحه من أجل الكلمة الشريفة النظيفة الراقية ..

وإذا كنا نهمل الذين يمدون لنا جسور العلم والمعرفة عن عمد وقصد .. أذكر كل هؤلاء القتلة لكل رأى مستنير وضمير يقظ .. عندما سئل " تشرشل " أيهما يفضل أن يكسب الحرب وتخسر بريطانيا " شكسبير " أو يخسر الحرب ويعيش " شكسبير " ملكا لبريطانيا .. أسرع فى الاجابة دون تردد .. وقال :

تخسر بريطانيا الحرب ويعيش لها " شكسبير " لأن " شكسبير " خالد وعرف الناس ببريطانيا .. أما الحرب فيمكن أن نكسبها فى أى وقت .. هكذا تكون رؤيتنا للأدب وقيمة الأديب فى الحفاظ على ضمير الأمة ووعيها وثقافاتها ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)




بعد ربع قرن من الابداع والزهد
محمود البدوى يتحدث


* لا أكتب للخلود ، ولا أحلم بالخلود ، ولا أحلم أحلام اليقظة بأننى سأخلد ..

* الجيل الجديد يقلد الموجة الجديدة ، موجة الغموض والتكسر ..

* لم أتعمد الاثارة أبدا ، الجنس شىء طبيعى فى الحياة ..

* أقرأ للجيل الجديد مجبرا بحكم عملى ..

* القصة القصيرة تغنينى عن الرواية ..

* بعدت عن السياسة لأنها تفسد الأدب ..

* طورت القصة كثيرا عن أستاذنا محمود تيمور ..

* تأثرت بمنهج تشيكوف وليس لى أساتذة عرب ..

* حتى الآن لا أعرف غفيرا ولا وزيرا فى هذا البلد ..

* أنا أكتب لأدفع شيئا رهيبا فى النفس ..!


أجرى الحوار الصحفى والكاتب : علاء عريبى
عنـــوان الدوريـــة : مجلة القاهرة
تاريخ النشــــــر : 14 يناير1986

إن الأديب أو الفنان الذى يعطى من دمه وحسه وفكره للقارىء أو المشاهد بإخلاص وصدق ورضا ، من الظلم ، كل الظلم ، أن نتجاهل موهبته وعطاءه إعلاميا ونقديا عن عمد جاحدين ، لكونه آثر الزهد فى حياء بفنه ، آبيا أن يسعى كالآخرين وراء الضوء ، الضوء الزائف ، ضوء مافيا الاعلام ، رافضا كل الرفض منطق الحزبية والشللية والمصالح النفعية ..

إن أديبنا القاص " محمود البدوى " 77عاما واحد من هؤلاء ، آثر الفن والصمت ، رفض فكرةالعلافات ، رفض التمذهب فى الأدب ، جاء منذ نصف قرن من قرية الاكراد مسقط رأسه ، مركز أبنوب بأسيوط ، إلى القاهرة .. قاهرة المبدع والعالم ، حاملا حسه وفكره وقلمه ، مدافعا بها عن الانسان المقهور والمضطهد ، كاشفا بصدق وأمانة المبدع الحقيقى عن احساسه ، فيما يقرب من ثلاثمائة قصة قصيرة ، بدءا من " الرحيل " 1935 وعمره لا يتعدى العشرين ربيعا ، حتى " السكاكين " 1985 وهو فى السابعة والسبعين .. وفيا كل الوفاء لفنه ، القصة القصيرة ، فنه الوحيد ، دون أن تلتفت إليه يد البحث فى الجامعة ، أو رؤية نقدية بكتاب ، أو حتى الضوء الزائف .. ضوء الاعلام ..

ـ أنا أحس بالمرارة ، لا أستطيع أن أتكلم ، ولا أستطيع أن أكتم ، فأنا منذ أكثر من خمسين عاما ، لم يتناولنى ناقد كبير ولا صغير ، ولا أجرى أحد معى حديثا كما يجرون مع كل الكتاب الذين يكتبون القصة والرواية ، وأحب أن أوضح لك أن اسمى كان يحذف عمدا وباصرار ، عندما يرد ذكره مع أحد الأدباء أو أحد النقاد بواسطة من يقومون بنشره فى الصحف ، وهؤلاء لايزال بعضهم موجودا فى الجرائد الكبرى حتى يومنا هذا ..

* لهذه الدرجة يتعمدون التجاهل .. لماذا ..؟!

ـ شىء لا أفهمه ولا أعرفه ، ربما تكون الشللية ، أو التجمعات التى ظهرت أخيرا وأفسدت الأدب ، أو أن الشخص الذى ينشر يعتقد أن " محمود البدوى " لا قيمة له ، وأحب أن أصرح لك بأن الأستاذ يوسف القعيد قد أجرى حديثا معى ـ وهو الوحيد ـ منذ أكثر من سنة ، وقلت له :

" أنا لا أكتب للخلود ، ولا أحلم بالخلود ، ولا أحلم بأحلام اليقظة بأننى سأخلد ، أو سيكون لى قيمة بعد الموت أو قبل الموت .." وإنما أنا أكتب لأدفع شيئا رهيبا فى النفس ـ قد يكون هذا مرضا ـ هو شبح الخوف من شىء مجهول ..

* شىء مجهول ..!!

ـ نعم .. شىء مجهول ، لا أستطيع أن أوضحه بالكلام اطلاقا ، غير أنه جعلنى كثير السفر والرحيل ، شىء نفسى ، لأننى عندما أكتب القصة أستريح تماما ، وأشعر كأن كل أعصابى ، وكل جسمى ارتاح تماما ، خصوصا إذا أحببت البطل أو البطلة ، وعايشتهما وأخرجتهما على الورق كما عايشتهما ..

* بدأت حياتك الأدبية بالترجمة لموبسان وتشيكوف .. فما أثرهما على " الرحيل " وكتاباتك الأولى ..؟

ـ هذا حقيقى ، بدأت كمترجم فى مجلة " الرسالة " عند الزيات .. وأعتقد أن الجو الروسى والتشيكوفى على وجه التحديد ، يصور الحياة .. حياة الفلاح الروسى .. إذا نظرت له تجده تماما كالفلاح المصرى .. وبدون شك أنا تأثرت بالشكل والأشخاص والإيقاع عند تشيكوف ومنهجه فى القصة أيضا ..

* ولم تتأثر بالجيل السابق ..؟

ـ على الاطلاق ، ولم أتأثر يوما بكاتب مصرى أو عربى ، فأنا اتخذت من هؤلاء أساتذة لى ..

* هذا الشكل التشيكوفى الذى بدأت به .. تعتبر أول من أدخله فى الأدب المصرى ..؟

ـ لا أستطيع أن أقول هذا .. عن نفسى ، فقد طورت القصة كثيرا عن استاذنا " محمود تيمور " وهو أستاذ وله شهرته وأدبه ..

* الجيل الذى أتى بعدك .. هل تأثر بمنهجك الروسى ..؟

ـ لقد قالوا لى " أنهم يقرأون كتبى بانتظام " لكنهم لم يتأثروا ، لأن بعضهم دخل فى الموجة الجديدة ـ موجة الجيل الحالى ـ التى فيها الغموض .. والتكسر .. ت .. ك .. س .. ر ..

* التكسر ..؟!!

ـ نعم ، تقرأ ولا تفهم ، يلف لك فى الكتابة ..

* تقصد التعقيد فى الكتابة ..

ـ التعقيد .. التى فيها الجمل ذات الفواصل والنقط ، فواصل ونقط ، وهذا غير موجود فى الأدب الإنجليزى ، وإن كان موجودا فى فرنسا " ناتالى ساروت ، وآلن جرييه " أكبر كتاب فى فرنسا ، فركبا موجة اسمها الغموض ، لكنك إذا قرأتهما تفهم ، لكن لاتفهم الأدب المصرى ، فهو تقليد أعمى ..

* هل الغيطانى والقعيد وغيرهما ممن تتحدث عنهم ..؟

ـ لا .. هؤلاء مجيدون جدا ، خصوصا القعيد ، والغيطانى رغم أنه يسير على خط الدراسة والمملوكية ، خط الحسين ، منطقة نجيب محفوظ ، فهو متأثر جدا بنجيب .. وهما ليس من جيل التعقيد الذى للآن لم أفهم منه شيئا .. وأقرأه مضطرا بحكم عملى ..

* بمناسبة الدراسة والحسين .. لماذا لا نجد فى شخصياتك القصصية شخصيات من الأحياء الشعبية ..؟!

ـ أنا لا أكتب إلا ما أعايشه ، ففى فترة الدراسة لم يكن لى أهل بالقاهرة ، فنزلت فى كثير من " البنسيونات " وصورت الحياة فيها ، ففى هذا الوقت كان كل أصحاب " البنسيونات " أجانب .. واختلطت بمجموعة كبيرة جدا من البشر ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم وجنسياتهم وطبائعهم ، وأعتقد أننى صورت هذا بقدر المستطاع ، وبقدر ما أملك ..

* تعنى أنك لا تكتب إلا عن شخصيات عاشرتها ورأيتها ..؟

ـ لابد ، فلا أكتب من فراغ .. سألونى مرة فقلت : " لا أكتب عن الإسكندرية وأنا لم أر البحر .." وإلا ستكون فانتازيا ، وتسقط ولا تجذب القارىء ..

* والتجارب التى تنقل إلينا من خلال الكتب ووسائل الاعلام وغيرها ، ألا تؤثر عليك بحيث تكتب عنها ..؟

ـ لا .. أنا لست صحافة .. أنا أكتب عن روح العصر .. لكنى لا أكتب عن تجار اللحوم الفاسدة .. أو المكرونة ، لا أكتب عن العمارات التى تبنى وتهدم على أصحابها ، أنا لا أتناول هذا الخط ..

* لماذا ..؟

ـ هذا عمل صحفى ، وربما يمكن للروائى أن يتناولها ، أما القصة القصيرة .. فلا ..

* الجنس فى قصصك سمة أساسية .. فكيف تعاملت معه ..؟

ـ هذا تجن .. فالمرأة والرجل يتحركان مع بعضهما ، فلم أتعمد الإثارة ، ولم أكتب عن الجنس كشىء مفرد ، إنه شىء طبيعى فى الحياة ، ولا يمكن أن تجد لى قصة فيها إثارة ، ثم انه جف فى المراحل الأخيرة من انتاجى ، وأنا أعالج مشاكل الحياة الآن ، والجنس كان سمة أساسية ، والآن توجد مشاكل أكبر وأعقد ، والخط الإنسانى الذى أسير عليه لم يتغير أبدا ، فأنا أدافع عن المظلوم والمضطهد والمقهور والذى لا يجد فى هذه الحياة حولا ولا قوة ..

التزمت من خمسين عاما " بالواقعية " وخلال هذه الفترة طرأ على القصة طفرات كبيرة من التغيير .. فلماذا لم تحاول أن تغير من اتجاهك لمواكبة هذا التطور ..؟

ـ أنا طورت القصة بما لا يخل بعنصر الفن فيها ، اختصرت الأشخاص من خمسة إلى اثنين ، والزمن من أيام إلى ساعة ، والحجم من عشرة فلوسكاب إلى ثلاثة فقط ، أليس هذا تغييرا ..

* يلاحظ القارىء أنك تستعمل ضمير المتكلم فى كثير من قصصك .. فهل لهذا مدلول فنى عندك ..؟

ـ إنه يريحنى فى الكتابة ، فأنا أكتب عن شخصياتى بعد أن أعايشها طويلا ، أفكر بطريقتها ، أنظر إلى واقع الحياة من نفس منظورها ، فمن الطبيعى أن يكون ضمير المتكلم أقرب الأدوات إلى الاستعمال ..

* ألا يؤثر هذا على فنية القصة حيث الإسهاب فى الوصف مثلا ..؟

ـ فى بعض القصص كان الوصف والإسهاب والاستطراد والشخصيات كثيرة مما أضعفها فنيا فتداركت هذا ولم أجمعها فى كتب واكتفيت بنشرها فى الجرائد ، والآن أحاول ألا أستطرد لا فى الوصف أو حتى فى وصف الشخصية والموجات الجديدة تقول إن القصة الحديثة تكفيها أن تصف المرأة مثلا بأنها جميلة ..

* ومن حيث التكنيك ..؟

ـ الدخول نفسه مباشر وفيه جذب ، وليس مقدمة ، التناول يكون فيه جذب يظهر روح القصة ، بحيث يجذب القارىء فلا يستطيع أن يتركها ..

س ـ والأفكار ..؟

ـ يوجد تطور الآن ، حياتنا فى مصر تتطور ، كان الفلاح قديما مضطهدا ، الآن الناس انتقلوا إلى المدينة وعاشوا فى المدينة ، وناس تجد العذاب فى المواصلات وأمام الجمعيات وعندما تدخل محكمة ، أو تعمل إجراء فى الشهر العقارى تقابل الويل ..

* اختيار الأسماء وبالتحديد " المكان " كان له عنصر أساسى فى قصصك لماذا ..؟

ـ لأننى لا أحضر شخصا من كفر الشيخ وأضعه فى محطة أسيوط ، أو محطة ديروت لابد أن يتناسب مع البيئة التى عاشها لكى تظهر صفاته ، وإلا ستسقط القصة ..

* الواقعية الانطباعية .. لماذا لم تتمرد على هذا المذهب ..؟

ـ أنا اتخذت خطا وأسير عليه ، وعندما أكتب قصة الآن فهى ليست كالقصة التى كتبتها عند الزيات عام 1933 وهذا الخط من الصعب جدا تغييره ..

* مفهوم القصة القصيرة عندك ..؟

ـ هى لمح إنسانى يجتمع فيها روح الجذب والكفاية الذاتية ، تقرأها وتكتفى بها كما تكتفى برواية طويلة ، أى أن القصة القصيرة إذا كتبتها بروحانية وجاذبية وخلقت منها شيئا حيا يتحرك فإنها تغنى عن الرواية ..

* يا أستاذ محمود تعتبر الوحيد الوحيد الذى أخلص للقصة القصيرة ولم يكتب رواية .. فلماذا ..؟

ـ لأن كل ما أستطيع أن أقدمه من أفكار قدمته فى القصة القصيرة ، وهى تغنينى عن كتابة الرواية ..

* ألم تحاول مجرد محاولة أن تكتب رواية ..؟

ـ أنا نفسى قصير ، والقصة القصيرة نشرها سهل ، وأستطيع أن أكتب منها الكثير ..

* وهل الرواية تحتاج إلى إمكانات ليست لدى القاص ..؟

ـ لا .. أبدا .. هى عبارة عن نفس وطابع ، وأنا نفسى قصير ..

* محمود البدوى ونصف قرن من الإبداع .. أين هو من الجوائز ..؟

ـ أخذت بكل سرور ، وبكل فخر جائزة الجدارة عام 1978 من أكاديمية الفنون ومن الغريب أننى حتى الآن لا أعرف غفيرا ولا وزيرا فى هذا البلد ، وعندما قرأت الخبر فى الجرائد لم أصدقة ، لأننى ليس لى أية اتصالات ..

* أفهم من هذا ، أن جوائز الدولة " تشجيعية وتقديرية " محايدة ..؟

ـ هى تمشى على الصراط المستقيم ، وليس فيها حياد ، لأنها بالتصويت ، فأنا عضو من أعضاء اللجان منذ أن انشئت ، فمن أين يأتى الحياد ..؟

* باعتبارك عضوا باللجان ، فمن فى رأيك يتربع على قمة القصة القصيرة الآن بمصر ..؟

ـ أنا لست ناقدا ..

* من هو الذى تقرأ قصصه ولا تترك قصة له ..؟

ـ غير موجود ..

* ما رأيك فى الخلط بين السياسة والأدب هذة الأيام ..؟

ـ السياسة شىء والأدب شىء ، إن هيمنجواى تطوع فى الحرب الأهلية بجسمه ونفسه ، فهل رجع وكتب ضد من حارب معهم .. أبدا فهو تطوع ليرى الحرب كفنان ، فلا هو أسبانى ولا أى علاقة له بالأسبان ، فقط ليرى الحرب ويزاولها بأظافره ..

وافترض معى أننى ضابط بالجيش أيام نكسة 67 وعائد من موقع ما فى الصحراء ، فشاهدت إسرائيليا فى النزع الأخير ينزف دمه ـ هل أطعنه بالسونكى أم أطلب له الإسعاف .. ؟ (موجها السؤال لى ) ..

أنا كنت عسكرى "بعكوك" وخدمت بعد كامب ديفيد ، فلا أعرف ..

ضاحكا .. الإسعاف طبعا فالمذهب لا يدخل فى الكتابة أبدًا ، فأنا بعدت عن السياسة لأنها تفسد الأدب ..

*
فى نهاية حديثنا هذا ، ماذا يحب أستاذنا القاص محمود البدوى أن يقوله لينهى به حديثه ..؟ ولمن ..؟

ـ للجبل الجديد .. أقول :

عش الحياة أولا ثم أكتب ، وإن لم يكن عندك الالهام ، فلا تأخذ القصة بالدراسة أو القراءة لأنها لا تعلم ، بل هى موهبة تصقلها التجربة الحية ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3)



رحلة فى عقل أديب
هارب من الأضواء

أجرى الحوار الصحفى والكاتب : مأمون غريب
عنـــوان الدوريـــة : مجلة آخر ساعة
تاريخ النشــــــر : 6 أغسطس 1969



أنه كاتب عاشق للقصة القصيرة وحدها .. ظل وفيا لها منذ أن أمسك بالقلم إلى اليوم .. لم أقرأ له يوما قصة طويلة .. ولم أقرأ له مسرحية .. كما لم أقرأ له مقالا أو بحثا نقديا ، انه عشق لونا واحدا من الفن وكرس له حياته .. ورغم أنه من رواد القصة القصيرة فى مصر .. فإننى لم أشاهده فى ندوة أدبية .. أنه يختفى من مجالس الأدباء .. وله عادة واحدة هى أنه مغرم بمشاهدة الأفلام .. وفى بعض الأيام يدخل أكثر من فيلم فى يوم واحد ..

وقد شعرت بالحيرة فعلا عندما حاولت أن ألتقى به .. هل سيهرب من أسئلتى .. كما يهرب من الندوات الأدبية والفنية .. وكيف العثور عليه ..؟

وبصعوبة التقيت به .. وبصعوبة أكثر حاولت أن أفتح فمه للحديث .. كانت اجاباته مختصرة للغاية .. ومع ذلك فهى تقريبا من أفكاره ومن رؤياه للحياة وما يعتمل فيها من صراعات ..

ولم أجد أمامى إلا أن أعيد قراءة بعض أعماله الفنية " الذئاب الجائعة " و " العربة الأخيرة " و " غرفة على السطح " و " زوجة الصياد " وغيرها لعلى أجد الخيط الذى يربط انتاجه الأدبى وأستطيع أن أقدم صورة عن الكاتب من خلال أعماله نفسها ..

***

والتقيت به .. وكان أول سؤال تبادر إلى ذهنى هو :

* كيف بدأ حياته الأدبية ..؟
وبهدوء أجاب :

ـ بدأت حياتى الأدبية أترجم لتشيكوف ومكسيم جوركى وموبسان فى مجلة الرسالة للزيات ، ثم وجدت فى نفسى الموهبة والقدرة على التأليف .. فكتبت قصة " الرحيل " بعد رحلة إلى أوربا الشرقية ، ثم مجموعة قصص باسم " رجل " وقد نشرت منها قصة " الأعمى " فى مجلة الرسالة أيضا ..

*
وأعود أسأله عن أثر رحلاته على عمله الفنى ..؟

ـ لاشك أن الرحلات ساعدت على اتساع أفق حياتى .. وميدان ملاحظاتى ومن دائرة تجاربى ، وظهر أثر ذلك فى القصص التى كتبتها عن الحياة فى تلك البلاد ..

*
إلى أى مدرسة تنتمى ..؟

ـ المدرسة الواقعية ..

* أى واقعية ..؟

ـ كل يفسرها على حسب هواه ..

***

انك تقرأ أعمال محمود البدوى فتحس أنك أمام فنان واضح .. عبارته سهلة .. أسلوبه بعيد عن التنميق اللفظى .. معانيه واضحة .. أفكاره منسقة .. وتحس أنك أمام انسان كثير التجارب أو انسان شديد الملاحظة بما يدور حوله من تجارب .. وتحس بأنه أكثر عمقا وتركيزا عندما يتحدث عن ريف الصعيد بما فيه من قيم وعادات وتقاليد .. وما فيه من تناقضات أيضا .. وتحس أيضا أنك قد خرجت بشىء جديد .. خاصة فى أعماله المأخوذة عن البيئة فى أعماق الصعيد ..

انه يصور ببراعة كيف تتشابك الجريمة مع الفقر لخلق جو معين فى الصعيد .. ثم ما يتولد عن هذه الجريمة من بعض العادات التى تصاحب هذا الجو ..

ولكن الملاحظ على أدب محمود البدوى أنه فى تصويره للعلاقة بين الرجل والمرأة يصورها على أساس جنس خالص .. معظم قصصه يدور محورها حول هذه الغريزة ، وكيف يستطيع البطل فى النهاية أن يصل إلى فريسته ..

وبالطبع فإن لمحمود البدوى رأيا يختلف عن ذلك .. فهو يرى أن الجنس فى قصصه ليس المقصود به الجنس فى حد ذاته .. ولكن القاء الضوء على بعض مظاهر الحياة ..

وقد حاولت أن أجره إلى هذا الحديث بطريقة غير مباشرة ، فسألته :

* هل هناك صداقة بين الرجل والمرأة ..؟


ـ أعتقد أنه لا يوجد بين الرجل والمرأة شىء اسمه الصداقة أبدًا .. وإنما يوجد حب .. والحب ليس معناه الصداقة أبدًا .. الحب بين الرجل والمرأة هو الأنانية والسيطرة .. أنا شخصيا أعرف أنى أحب عندما أكتب قصة جيدة .. وأتغلب فى حياتى على كل ما يعترضنى من عراقيل وأصبح لا أعبأ بالتوافه وأشعر بالمودة والأخوة نحو الآخرين ، وأشعر كأنى أحلق فى السماء وأحب الخير للإنسانية جمعاء ، وأشعر فى لحظة بأنى أحب ..

*
..........؟

ـ الحب الحقيقى لا يمكن أن يتجه إلا لشخص معين ، والذى ينتقل من امرأة إلى أخرى هو شخص يلهو ، ولا يمكن أن يكون الحب متمكنا من أعماقه .. فالحب لا بد له من زمن لكى ينمو كأى شىء فى الحياة .

* ............؟

ـ أعتقد أنه لا يوجد حب من أول نظرة أبدًا ، فالحب لا بد له من زمن لكى ينمو كأى شىء فى الحياة ..

*
...........؟

ـ الواقع أنه قد أصبحت فى حياتى امرأة واحدة .. وهذه المرأة هى التى تدور حولها معظم قصصى .. أما من هى هذه المرأة .. فهذا سرى .. ويجوز أن تكون زوجتى .. وقد تكون امرأة أخرى . .

* كان سقراط يعتقد أن أصعب الأسئلة هى التعريف .. فهل يمكن أن تقدم تعريفا لهذه القيم الانسانية .. الحق .. الخير .. الجمال .. السلام .. يقاطعنى هاربا من الاجابة قائلا :

ـ هذه كلها مسميات لها تعريف واحد .. فهى " أكسير الحياة وسر وجودها " ..

* م
ن الذى بهرك من الكتاب ..؟

ـ مكسيم غوركى ..

* لماذا ..؟

ـ لأنه جبار ظل يصارع الحياة حتى انتصر عليها ..

* متى يصل أدبنا إلى المرحلة العالمية ..؟

ـ إذا وسعنا من دائرة تفكيرنا وخرجنا إلى النماذج الانسانية العالمية ..

* لماذا يتخلف نقدنا عن مواكبة الحركة الأدبية ..؟

ـ لأنه محصور فى حيز الشلل والعواطف الشخصية ..

* ما هى أحلامك ..؟

ـ أن يسود السلام البشرية .. وأن يتحرر العالم من الفقر والجوع والاضطهاد وذل العبودية ، وأن يتحقق للإنسان حريته ككائن بشرى خلقه الله حرًا كريما ( وأن تصل أمتى إلى غايتها من الرقى والحضارة والخير لبنيها والبشرية جمعاء ) .

***


لقد انتهيت من حديثى مع محمود البدوى .. أو هكذا أجبرنى على أن يكون هذا الحديث .. ومع ذلك فقد تداعت إلى ذهنى كلمات أستاذ موبسان له .. بأن يكون على صلة مباشرة بالواقع .. بأن يبتعد عن الأضواء .. بأن يعرف أن الفن هو الصبر الطويل .. بأن يبتعد عن تقليد أحد .. أليست هذه الصورة تنطبق على كاتبنا ..؟!






حوار معه
المرأة والأسرة


أجرى الحوار الناقد : علاء الدين وحيد
عنـــوان الدوريـــة : مجلة أســـــرتى
تاريخ النشــــــر : 31 يناير1981

الأديب الكبير محمود البدوى يشكل فى تاريخ الأدب العربى الحديث مدرسة مميزة فى كتابة القصة ..كما يعترف له بالأستاذية أديب كبير آخر هو نجيب محفوظ ..
ولقد تخصص البدوى أو كاد ، فى كتابة القصة القصيرة ، وأصدر منها حتى اليوم أكثر من عشرين مجموعة .. ومنذ البداية والبدوى يهتم بالمرأة ، وموقعها فى الحياة والواقع .. والعلاقة بينها وبين الرجل ..
وهذا لقاء مع الأديب الكبير حول المرأة وبعض القضايا الاجتماعية التى تضطرب على الأرض العربية ..

* فى محيط الأسرة .. أين موقع المرأة فى حياتك .. وما هى نوعيتها ..؟
* فى هذا المحيط ، يمكن أن أعد خمس نساء :
الأولى : أمى .. وبالرغم من أنها ماتت وأنا أبلغ من العمر سبع سنوات ، إلا أن تأثيرها كان علىَّ كبيرا .. وقد ولدت أمى لأب صعيدى غنى ومن أسرة معروفة ، وكان من الأعيان المتنورين ، وهو عبد المنعم التونى .. وكان يملك مساحة كبيرة من الأرض تبلغ 800 فدان ، جعلته يبنى لنفسه قصرا فى أوائل هذا القرن فى قريته اتليدم مركز ملوى مديرية أسيوط ـ وتتبع اليوم محافظة المنيا ـ استورد لها الرخام والزجاج الملون من إيطاليا ..
ومع أن أمى لم تكن حاصلة على شهادة دراسية ، إلا أنها كانت متعلمة .. وإليها لا إلى أبى يرجع الفضل فى تعليمى القراءة والكتابة .. ومن الطريف أنها قامت هى نفسها بهذه المهمة ، ولنذكر أن ذلك كان فى عـام 1915 تقريبا ، وعلى لوح من الأردواز ، بدأت أكتب وأحفظ الحروف الهجائية ..
وكانت أمى ككل الأمهات فى ذلك العهد ، تتفاءل برؤية مولد الهلال .. ففى أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعـد بى إلى سـطح المنـزل الواسـع ( بيت الوسية ) فى قرية الاكراد ـ حيث تزوجت وولدت أنا ـ وترنو إلى الهلال ، وهى تقرأ بعض سور القرآن .. واضعة يدها على وجهى مقبلة جبينى .. داعية الله أن يقينى شرور الحياة
..
والحب الذى كانت تغدقه أمى على أولادها وابنتها .. كانت تغدق مثله على الآخرين .. ويكفى أن أباها الثرى ، حينما كان يرسل اليها هداياه فى المناسبات وغير المناسبات ، وكانت فى حجم حمولة مركب شراعى كبير ، يسير فى النيل فى ترعة الإبراهيمية بين القريتين اللتين تقعان على النهر .. أى اتليدم والاكراد .. كانت أمى توزع أغلب الهدايا على نسوة القرية .. ولذا لم يكن غريبا أن تكون وفاتها ، يومـا حزينا أليما .. بالنسبة إلى النـاس فى الناحية كلها ..
وحتى اليوم لاتزال تتراءى لى النسوة المجللات بالسواد ، والنواح الحقيقى الذى يصدر عن عواطف صادقة .. ويقطع القلوب .. مما حفر مظاهرة الحزينة فى أعماقى ، إلى الدرجة التى تجعلنى إلى الآن .. بعد مضى حوالى ستين سنة ، أبغض الجنازات بغضا شديدا ..
والسيدة الثانية فى حياتى .. إحدى شغالات البيت ، وكانت بمثابة المربية ، والتى عرفتنى أن الاهتمام أو الحـب ، لاينبع من داخل الأسرة فحسب ، بل يمكن أن يأتى من الخارج ، ولازلت إلى اليوم ، أذكر ضمتها القوية لى ..
والثالثة : هى زوجتى .. ابنة عمى .. لقد تزوجت بالطريقة التقليدية القديمة بلاحب .. فعائلتنا الكبيرة كانت تؤمن بزواج الأقارب فى الدرجة الأولى .. وإلى زوجتى وهى متخرجة من الليسيه ، يرجع الفضل فى أننى وجدت الوقت الكافى للكتابة .. فلم تشغلنى بأمور البيت ، كما أنها تولت تربية بنتينا .. ومن ناحية أخرى .. جعلت هذا البيت ، المكان المريح الذى يضمنى ..
وابنتاى .. هما اللتان شكلتا " المرأة " الرابعة والخامسة فى حياتى .. وتأثيرهما علىّ مع اشباع عاطفة الأبوة .. إنهما علمتانى الخوف من شدة حرصى عليهما وعلى مستقبلهما .. فأبعدت نفسى عن السياسة والاشتغال بها ، والتعرض للطرد من الوظيفة والسجن والاعتقال والتعذيب ..

* كيف كانت تربيتك لابنيك ..؟ وهل تظن أنك وفقت فى ذلك ..؟ أم فاتتك أشياء ..؟
* مع أننى تثقفت وخالطت الأجانب وسافرت كثيرا إلى الخارج ودرست الآداب الأجنبية وترجمت بعضها .. إلا أننى شديد الحفاظ على مصريتى وتقاليدها وصعيديتى أيضا التى لا أتجرد منها أبدا .. لأننى أجد فى جوهرها الحقيقى الكثير من القيم النبيلة التى لا تقل بحال من الأحوال عن المثل الأوربية ..
لقد ولدت ابنتاى فى القاهرة ، ومع ذلك لم أرد لهما الاختلاط الزائد عن حده .. الذى أصبح يتسم به المجتمع .. ولذلك لم تنضما إلى ناد من النوادى الكبيرة .. وإنما كان اختلاطهما فى حدود محيط الأقارب والأصدقاء الخلص فقط .. مما يتمشى مع تربيتى الريفية ..
وبالطبع فاتنى بعض الأشياء فى تربيتهما .. مثل عدم قيامى بتعليمهما حب القراءة .. فهما بعيدتان عن عالم القراءة ، والمسئول عن هذا الخطأ هو أمهما .. التى كان يجب عليها أن تفعل ..

* ماهو الفارق بين المرأة العربية زمان .. واليوم ..؟
* زمان ..كانت المرأة العربية كلها طاعة وامتثال عن اقتناع وحب للرجل .. أما اليوم ، فإن المرأة خاصة العاملة والجامعية .. تنحو نحو التمرد على سلطة الرجل .. وفى بعضهن نشاذ إلى درجة عدم الطاعة التى تتولد عن حرية مزعومة أو تتجاوز الحد ..

* هل تظن أن هناك فارقا بين المرأة العربية عامة والمصرية خاصة وغيرهما من نساء العالم ..؟
* لقد عرفت المرأة الأوربية بشكل عام والألمانية بشكل خاص .. فكانت الأخيرة أكثر النساء عناية بالبيت ..
إن ما يعيب المرأة العربية عامة فى الغالب هو أنها لاتراعى ظروف عمل الزوج .. ولذا فإن الكثيرات من الزوجات ، يمثلن عبئا على رجالهن فى أزماتهم ..فالواحدة منهن لاتعايش أو تتعاطف مع ما يمر به الزوج من أحـداث ، ولاتهون عليه أمرها .. بل تزيده تعبا وإرهاقا وشقاء .. وذلك بسبب جهلها النفسانى ، فهى غالبا مهما كانت متعلمة ، ضيقة الأفق ..

* ما تفسيرك للضعف أو التهافت الذى لحق بالأسرة المصرية والعربية ..؟
* الجرى وراء العنصر المادى فقط .. فالابن ما يكاد يتخرج ، حتى يفكر فى الهجرة ، أو العمل فى بلد عربى .. للرجوع بمال أو سيارة أو هما معا .. وهذه الظاهرة لم يكن لها وجود من قبل .. إلا فى الغرب .. إن تكالب المجتمع على المادة أو اختفاء العنصر الأخلاقى وانحاء الإيمان بالقيم والبعد عن الدين .. هى المسئولة عن التفكك الأسرى الذى نرى ، ويجعل الشباب خاصة .. فارغا من داخلة بعد أن اختفت المثل من أمانيه ..
لذلك لا غرابة ، أن تتسم التربية السلوكية للجيل الجديد بالطيش منذ صغره .. وأصبح الطفل الذى يبلغ من العمر اثنى عشر عاما ، يدخن السجائر ، ويقبل الصبيان على الموسيقى الصاخبة والأغانى التافهة والملابس الضيقة .. فى غياب الإشراف الحقيقى للأب والأم ..
إن تربية الوالدين هى الأصل .. فاعتناق المثل والتعود على الصدق والأمانة وحب الخير ، تنبع أولا من البيت ..
وكان يمكن للمدرسة أن تعوض الخسارة التى لحقت بالبيت ، ولكنها هى الأخرى أصبحت أكثر سوءا .. ويكفى انتشار ظاهرة حمل تلاميذ المدارس الثانوية للمطاوى قرن الغزال ، بالذات فى أثناء تأدية الامتحانات .. سلاحا يستخدم ضد المراقب ، الذى يمنع التلميذ من الغش ..
وتكون النتيجة بلطجة التلميذ المسلح وعدم تأمين المدرس على حياته .. أن يخاف الأخير .. ويترك التلميذ البلطجى يغش .. وتكون المأساة والاستهتار وتدهور التعليم .. أكثر فأكثر ..
ولقد ساءنى هذه الظاهرة ، فكتبت عنها إحدى قصصى فى مجلة " الرائد " التى تصدرها نقابة المعلمين المصرية .. تناولت فيها مدرسا شجاعا ، لا يقبل هذا التهديد المسلح بالمطواة من تلميذ بلطجى .. ولذلك فهو عند أول بادرة عدوانية من التلميذ .. يصفعه صفعة قوية .. ويتخاذل المستأسد الصغير ، ويصبح ذليلا كالكلب .. ومن وقتها سارت الأمور بالدقة والنظام والطاعة ، التى يتطلبها كل مدرس فى فصله ..

* فى أعمالك القصصية ، قدمت المرأة ببراعة شديدة فى الكثير من الصور والنوعيات .. كيف تفسر خبرتك الكبيرة بها ..؟
* تتبلور اللهفة على الجمال عند الفنان فى المرأة .. وذلك بجانب ما يدفع حب الاستطلاع ، والرغبة فى اكتشاف عوالم مجهولة ، واللهفة على تعميق دنيا نصف الرجل الآخر .. فالمرأة هى أجمل شىء فى الوجود ..
لى قصة فى مجموعة " مساء الخميس " جعلت معالجتى للمرأة فيها .. تشمل المرأة فى العالم كله ، وليست المصرية أو العربية فحسب .. وكان العنصر الأساسى فيها ، هو الأنوثة .. وفهم واحترام وحب وارضاء هذه الأنوثة نفسها ..

* تساؤل أخير .. هل أنت مع او ضد المرأة ..؟
* معها .. لأنى أحبها ولا أستطيع الاستغناء عنها .. اطلاقا ..
====================================
منقول من الكتاب المعنون باسم " محمود البدوى " للناقد علاء الدين وحيد ـ دار سنابل للنشر والتوزيع ـ نشر فى عام 2000 م
====================================

(5)

آخر كلمات الأديب الكبير محمود البدوى
أشعــــــــــر بالمــــــــرارة
!

أجرى الحوار الصحفى والكاتب : مصطفى عبد الله
عنـــوان الدوريـــة : صحيفة الأخبار
تاريخ النشــــــر : 19 فبراير 1986


رحل رائد القصة الكبير محمود البدوى وهو يشعر بالمرارة لأنه يكتب منذ خمسين سنة وعمره ناهز السبعين ولم تتحرك الحياة النقدية لدراسة وتقييم قصصه بشكل مناسب ..!!

وفى آخر حديث دار بينه وبينى ويرى النور لأول مرة بعد رحيله قال الأستاذ محمود البدوى :

ـ رغم تجاهل النقاد لكتبى لاتوجد نسخة واحدة منها فى السوق ، ويكفينى حب القراء لى ، وقد تعلمت من الزيات الصبر والإخلاص فى العمل وإتقانه .. وأكبر دليل على هذا أننى استطعت أن أستمر أكتب لنصف قرن رغم أن أحدا من النقاد لم يتناول كتبى فيما عدا الدكتور النساج وعلاء الدين وحيد .. وبعض المحبين من الصحفيين ، وأخيرا قدمنى الدكتور نبيل راغب عندما عرضت قصتى " القرية الآمنة " فى التليفزيون بشكل أنسانى كل الجحود القديم الذى شعرت به على مدى السنوات ، وقد قرأ الدكتور نبيل راغب كتبى وفهم روحى وفنى فى الكتابة بشكل رائع ..

* وعندما سألت المرحوم محمود البدوى عن الأدباء الذين أثروا فيه .. قال :
ـ أنا لم أتأثر بكاتب مصرى رغم أنه سبقنى محمود تيمور ، وأحمد خيرى سعيد اللذان كانا يكتبان القصة قبلى وأيضا يحيى حقى .. فقد اتخذت منذ البداية خطى ومنهجى وشكلى فى الكتابة من أدباء الغرب الذين قرأت وترجمت لهم وعلى رأسهم جميعا تشيكوف ..

ويواصل محمود البدوى حديثه :
الأديب الحق يشعر أن فى أعماقه رسالة يجب عليه أن يؤديها بأى شكل من الأشكال ، ولقد عاصرت الأدب الزاهر الذى كانت تسوده روح التضحية خصوصا عند مصطفى صادق الرافعى ، المازنى ، العقاد ، أحمد أمين ، الزيات .. وقد تعجب إذا عرفت أن " لجنة التأليف والترجمة والنشر " كانت تقيم فى حارة الهدارة بعابدين وكان أعضاؤها يصدرون مجلة " الثقافة " ولم يأت لواحد منهم أى نفع مادى ..

وقد كان الشيخ عبد الرحمن البرقوقى يصدر وحده مجلة أدبية يكتب فيها العقاد والمازنى ومعظم الكبار فى ذلك الوقت .. وتطورت الحياة الأدبية عندنا وأصبح كل شىء سهلا ، وأخذ الأدباء الشبان ينشدون الشهرة بسرعة بدون أن يبذلوا أى جهد ، صحيح أن عملية النشر الآن صعبة ومغلقة فى وجوههم وتجعلهم يتألمون ، ولكن ألاحظ أنه لاتوجد عندهم خميرة الصبر التى كانت موجودة عند جيلنا ..

* ما هى مواصفات القصة الجيدة فى نظر رائد القصة ..؟
ـ القصة يجب أن يكون فيها روح ، ويجب أن تكون لحظة التنوير فيها واضحة ، ويجب أن تتمتع القصة بخاصية التركيز ، وأن يبتعد كاتبها عن الاستطراد أو الإسهاب وكثرة الوصف ، ويجب ألا أقرأ القصة الجديدة فلا أكاد أميز بينها وبين المقالة ..

والقصة القصيرة الناضجة هى التى تجذبك من سطورها الثلاثة الأولى ، وهى التى تعيد قراءتها مرة ومرات من غير ملل ، فنحن الآن نقرأ تشيكوف للمرة الألف ولا نكاد نمل منه ..

والمبادئ والمواصفات التى يدعو إليها أساتذة الأدب فى الجامعات يجب ألا تسيطر على ذهن الفنان وهو يكتب ، فأنا أكتب القصة بعفوية وأكتب بواقعية ..

وهناك أستاذ جامعى وضع للقصة القصيرة 18 قاعدة ولكنه للأسف الشديد لم يكتب قصة قصيرة واحدة ناجحة لأن القاعدة كانت فى رأسه وهو يكتب ..

* من هو الناقد المثالى فى نظر استاذنا محمود البدوى ..؟
ـ الذى يتمتع بروح المحبة للعمل الذى يتصدى له ، والذى يبتعد عن أهوائه الشخصية وروح المجاملة والشللية التى قضت على الأدب الحقيقى على مدى 20 سنة وشوهته فى نظر القراء ..

* أستاذ محمود ، هل تقربنا من عالمك الابداعى ..؟
ـ أنا أكتب دائما فى الصباح ، وأحب أن أكتب فى مكان ملىء بالحركة من حولى ، ولا أكاد أحس بما حولى من صخب فى المقهى الذى أجلس لأكتب فيه ، كلعب الطاولة أو الأصوات المرتفعة ، فكلها تنفصل عنى فى لحظة الابداع ، ولقد كتبت معظم أعمالى فى مقهى سفنكس الذى كان موجودا أمام سينما راديو ..

* وماذا تفعل عندما تريد أن تكتب وأنت مسافر ..؟
ـ فى السفر أكتب بذور القصة وهيكلها حتى لا تضيع منى ، وعندما أعود لمصر أسترجع ذلك من خلال ذاكرتى الفوتوغرافية التى أستطيع أن أقول أنها ليست حافظة ، وأبدأ عند الكتابة فى استرجاع الأماكن وكأنها أمامى ..
ودائما أكتب على ورقة طويلة بيضاء وغير مسطرة ، وأكتب بالرصاص لأنى كثير التنقيح .. وان كان التغيير والتنقيح يكون دائما فى البيت ..

* ما هو أحدث كتبك ..؟
ـ مجموعة قصص أعطيتها للناشر منذ أكثر من عامين ، وتضم 14 قصة وهى فى تصورى من أحسن ما كتبت ، وقد أعطيتها اسم " المأخوذ " .. أما آخر كتاب صدر لى فكان بعنوان " السكاكين " ..
======================================
نشر الحوار فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
=====================================



هذا الحوار لن يقرأه صاحبه
محمود البدوى يقول قبل رحيله

* القرآن الكريم أول من عرف القصة القصيرة
* يجب أن يكون اخلاصنا للفن وليس للايديولجيات السياسية


أجرى الحوار الصحفى والكاتب : الدكتور مصطفى عبد الغنى
عنـــوان الدوريـــة : الأهرام
تاريخ النشــــــر : 20 فبراير 1986

لن يقرأ كاتبنا الراحل محمود البدوى هذا الحوار .. فقد رحل الرجل فى هدوء كما عاش حياته .. وإذا كانت الأضواء قد غابت عن الرجل فى حياته وربما بعد مماته ، فإن قيمته ودوره سيظلان أكبر من كل الأضواء ..
رحل عنا أخيرا رائد القصة القصيرة ، وواحد من فرسانها الأوائل .. فماذا قال قبل رحيله ..

* لماذا ظلت " القصة القصيرة " حبك الأول ..؟
ـ القصة القصيرة حبى الأول والأخير أيضا ، لقد أخلصت للقصة القصيرة قرابة نصف قرن من الزمان منذ أن نشرت أول مجموعة قصصية فى بداية الثلاثينات حتى أننى أستطيع القول دون ما مبالغة أننى طورت شكل القصة ودلالتها لأول مرة فى اللغة العربية فى العصر الحديث .. لقد نجحت فى حشد شخصيات بشرية متباينة ومعذبة معا ..

غير أن حبى للقصة القصيرة وراءه باعث رئيسى ، هو ولعى بالإيجاز والاختزال اللذين أجدهما فى طبيعة القصة القصيرة ، ويحضرنى هنا أسماء كثير من الباحثين الغربيين الذين شهدوا للقصة العربية فى قرونها الهجرية ـ الإسلامية ـ بالرقى ، لا لشىء إلا لأنها تحتوى من البلاغة التى هى التركيز والتكثيف الشىء الكثير .. إنهم يؤكدون أن القصة القصيرة إنما هى فن العرب لا الغرب ، فالعرب بطبيعتهم رحالون من مكان إلى آخر ، وبين هذا المكان وذاك يرددون حكاياتهم الموجزة ، فالحياة العربية ، لطبيعتها البدوية ، لم تكن تمكنهم من سرد القصة الطويلة أو التمهل عند تفصيلاتها ، ومن هنا ، أستطيع القول إن تعريف القصة القصيرة العربية عند العرب كما هى الآن لا تزيد على ربع ساعة فقط ..

وهذا الوقت الوجيز هو الذى يمنح القصة حلاوتها المميزة .. وهو ما جعلنى أعود للأدب العربى وأحاول أن أغترف من المنابع الأولى للفن القصصى .. وبالتحديد من القرآن الكريم ..

لنتوقف قليلا عند هذه النقطة لأهميتها .. انظر إلى عظمة الإيجاز القرآنى وهو يقول :

" ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم "
إنها عبارة بليغة تعبر عن نفسها بنفسها ، وتحمل معانى كثيرة قل أن يستطيع التعبير الطويل أن يعبر عنها ، اقرأ هذا الحكم " إلا أن يسجن أو عذاب أليم "

ثم أنظر إلى مثل آخر : " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين " انظر إلى دلالة المعنى الذى تطلقه امرأة ، ومع هذا ، فإن الرسالة تصل بشكل فيه بلاغة وصدق ويحوطه التقدير والإجلال .

إننى أستطيع الخروج من كل آية بقصة قصيرة يمكن أن تتوافر فيها شرط ( لحظة التنوير ) كما يقال لنا الآن فى التعبير عن القصة القصيرة .. إن القرآن الكريم به أول قصة قصيرة ..

وعلى هذا النحو ، فإننى أستطيع بلفظ أو أكثر من لفظ ( منحوت ) الوصول إلى أدق المعانى وأكثرها تعبيرا ودلالة ..

غير أننى لا يمكن أن أغبن الغربيين حقهم فى الفن الإبداعى للقصة القصيرة ، فإننى لا يمكن قط أن أنسى براعة " تشيكوف " وهو يروى القصة فتصل إلى درجة بعيدة من الإعجاز ، لا لشىء ، إلا لأنها تحتوى على التركيز والمعنى فى جلسة صغيرة ..

وهكذا أستطيع القول أن القصة القصيرة التى كتبتها على ايجازها كان يمكن أن أكتبها فى ثلاثة فصول بدلا من عدة صفحات ، فبدلا من أن أسترسل فى محاسن المرأة ، على سبيل المثال ، فأسهب فى شعرها وقدها وهيأتها إلى غير ذلك ، أستطيع أن أرمى السهم مباشرة فأقول أنها " جميلة " وهو ما أستطيع أن أقوله حين أسهب فى تفاصيل الجو فأختصر بأنه " بارد " وحسب .. وأستطيع ببقية تفصيلات القصة أن أمزج قدرا كبيرا من الدلالة التى تشير إلى الجو وتؤكد درجته ..

* ولماذا لم تكتب غير القصة القصيرة ..؟
ـ تقصد الرواية والمسرح .. أعترف بأننى لم أحاول هذا قط ، فكل أحلامى كانت تتركز حول أن أوجز فكرى فى فترة زمنية قصيرة ، وهذا هو حال القصة القصيرة ..

ربما يستوجب بعد هذا أن أعترف بشيئين آخرين فى منتهى الأهمية بالنسبة لهذا الجنس الأدبى المحبب الأثير لدى ..

أولا : أن " نفسى " ليس طويلا حتى أخرج عن نطاق القصة القصيرة .. التى تحتاج إلى فكرة كالبرق لامعة أستطيع أن أضمنها نسيج الحرف والكلمة ..

وثانيا : القصة القصيرة من السهل نشرها ، وأنا ، كما سترى ، أجهل الطرق الملتوية ـ وما أكثرها ـ لتحمل قصة طويلة وتحاول أن تنشرها ، فتلاقى صعوبة ما بعدها صعوبة ..

ومع هذا ، دعنى أعترف لك اعترافا أخيرا ، اعترافا بديهيا لم يستطع السينمائيون عندنا ، للأسف الشديد ، أن يفهموه .. وهو أن أية قصة قصيرة لى يمكن أن تتحول إلى فيلم سينمائى أكثر من أية قصة قصيرة لكاتب آخر .. لماذا ..؟ أجيب لك .. لأنها تحتوى على اختزال واختزان ( للقيمة ) الفنية ، وتبعد عن التفصيلات والجزئيات الخارجة عن نطاق هذا الفن ..

* كيف ترى العلاقة بين القصة والسياسة ..؟
ـ هى علاقة وثيقة بلا ريب .. اننى أكتب السياسة شئت أم أبيت ..

وأستطيع القول إن الأديب والمثقف بالتبعية ، لا يجب أن ينتمى لحزب ما قط ، وإذا قدر له أن ينتمى ، فيجب أن يجعل جدارًا سميكا بين إبداعه الحر ونشرات حزبه السياسى ، وألا يجب أن تتدخل السياسة فى الإبداع فتوجهه وجهة رسمية وإلا أصبح ما يكتب فى حكم ( الدعاية ) ، وعلى سبيل المثال ، لقد عشت فترة موسولينى ، وتابعت الكتابات التى أيدته أو عارضته أو حتى من وقفت موقفا محايدا ، الآن أستطيع أن أقول لك .. إن جميع من كتب عن موسولينى أوله سقط ، إن شبح الزعيم السياسى يحرق معه كل مؤيديه .. الأديب لابد أن يدافع عن فكرة ، لكن الدفاع عن فكرة إنسانية شىء والدفاع عن إيديولوجية حزبية ـ مهما كانت ـ شىء آخر ..

يجب أن يكون إخلاصنا للفن أولا .. فلنترك موسولينى ولنتحدث عن أديب يحاول أن يكتب ضمن شخصياته عن شخصية اليهودى ، إننا إذا حاولنا إبراز هذا اليهودى بشكل منفر ، يمكن أن يحدث أثرا معاكسا فى القارئ فيفعل العكس ..

وهنا ، فيجب أن أفرق دائما بين كتابة الأدب الهادف وكتابة الدعاية الموجهة .
====================================
نشر الحوار فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
======================================



(7)

محمود البدوى
بعد سنوات من الصمت


لا أكتب من أجل الخلود .. ولكن لأطرد الملل ..
أطالب الدولة بتدعيم الكتاب قبل الرغيف ..

أجرى الحوارالروائى : يوسف القعيد
عنـــوان الدوريـــة : مجلة المصور
تاريخ النشــــــر : 25/9/1981


يتوقف القلم طويلا .. قبل البدء فى حوار مع محمود البدوى.. والحيرة تصل إلى طريق مسدود .. فبأى الكلمات أبدأ ..؟
هل أقول أن هذا الكاتب الجالس أمامى .. عبارة عن 73 عاما يحملها فوق كتفيه و 500 قصة قصيرة ، صدرت فى 20 مجموعة قصصية ، ورواية واحدة .. وكتاب واحد من أدب الرحلات ، ومع هذا نسيه الكل ..
أم هل أبدأ بالقول ، أنه ربما كانت المرة الأولى التى يجرى معه فيها حديث طويل عنه وعن حياته ..
رفض فى البداية أن يجرى اللقاء فى بيته ، لا علاقة بين البيت والحياة العامة .. هكذا قال لى ، وتواعدنا على اللقاء فى مقهى بشارع عماد الدين ..
عناء الحياة
عندما دخل المقهى ، كان معه عم عبد العزيز ، صديق وحيد استمر معه رحلة العمر كلها ، بائع كتب ، يمر عليه فى المقهى ، معه كتب قديمة تفوح منها رائحة الزمن البعيد .. عزم عليه بالقهوة ، وجلس الرجل بالقرب منا ، الرجل فى الثالثة والسبعين من العمر ومع هذا جرت وقائع يومه كالتالى :
فى الصباح الباكر استيقظ حيث يعيش فى ضاحية مصر الجديدة ، نزل من بيته وسار حتى موقف التاكسى ، ليست لديه سيارة خاصة .. قال لى :
لو كنت أركب سيارة خاصة لانقطعت صلتى بالناس والحياة ، وأنا زاد عمرى الوحيد هو الناس ..
يظل فى المقهى حتى قرب الظهر ، ثم يبدأ رحلة كل يوم ، من وسط المدينة حتى مصر الجديدة ..
دخل محمود البدوى المقهى وهو فى حالة عناء ، مشهد رآه وهو فى الطريق سيطر عليه ، وكان يعيشه .. مشروع قصة جديدة لا يدرى متى تخرج إلى النور .. حكى لى المشهد بلذة خاصة :
وقف يلمع حذاءه عند شخص مبتور الساق ، وخلال عملية عملية التلميع ، حكى له الرجل قصته .. انهار بيته وأصبح بدون بيت ، وهكذا عاش فوق هذا الرصيف الذى أصبح مكان عمل ونوم وحياة ، ولكن محاميا رق قلبه لحاله ، فقرر أن يرفع له قضية يطالب فيها بشقة له ..
يقول البدوى :
ان اللفتة الانسانية من المحامى هى ماتوقفت أمامه طويلا .. الدنيا مازالت بخير ، والجانب الانسانى فى حياة البشر لم ينسف بعد ..
قال البدوى بحماسة الشباب :
ـ لا أعرف كيف يخرج هذا العمل إلى الوجود ، وأنا عادة أعيش مع القصة القصيرة شهرا بأكمله .. ورحلتها بداخلى قد تطوبل فى بعض الأحيان ..
القراءة والكتابة
* فاجأته بسؤال عما يفعله هذه الأيام ..؟
قال :
ـ أقرأ وأكتب ، وبالتحديد أعيد قراءة بعض الأعمال الأدبية التى أعود إليها بين الحين والآخر .. أقرأ أميل زولا .. وأدجار ألان بو .. و تشيكوف .. و بوشكين .. و جوركى .. و دستويفسكى ..
يبدو السؤال القديم ، لم تكتب ..؟ أو كأنه سؤال معاد ومكرر .. وان كانت الاجابة عليه تكتسب طعما خاصا من كاتب لآخر ..
بهدوء وببطء قال الرجل :
ـ لن تصدقنى ، أنا لاأفكر فى الخلود أبدا .. أو تخطى حدود الزمان الذى عشنا فيه .. الخلود اسطورة لا أعرفها .. ولا أتصور كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى ، وحتى إن حاول أحد ذلك ، لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء ..
أنا أكتب لأطارد من خلال الكلمة شبخ الموت .. والخوف .. والرعب .. أحاول الوقوف مع مكسورى الجناح من البشر .. ورفع الظلم عنهم .. بالنسبة لى أحيانا أكتشف أننى أكتب لأطارد شبح الملل عنى .. كلها أشباح أطاردها من خلال ما أكتبه ..
سألته :
* لماذا تبدو بعيدا عن الحياة الأدبية ..؟
كان الرد جاهزا على طرف لسانه هذه المرة :
ـ ليس هذا ذنبى ، ولكنه ذنب الأدباء الشبان ، فالتواصل معهم ـ حتى من خلال ما يكتبونه ـ يبدو صعبا ، أدبهم صعب وعسير على الفهم ، ويبدو أن ذلك يحدث كنوع من التأثر بأوربا ، ولكن لم نتأثر بأوربا ، مع أن ظروفنا شديدة الاختلاف ..
الكلمة المكتوبة
الرجل الجالس أمامى ، قضى نصف قرن بالتمام والكمال فى محراب الكلمة المكتوبة ، وأعتقد أن قضاياها تهمه بصورة خاصة ..
سألته عن حال الكتاب والكلمة المكتوبة ..
قال لى :
ـ الكلمة المكتوبة محاصرة ، وراءها الأمية وأمامها عصر الاعلام ، وان كان الاعلام فى حد ذاته لايشكل أى خطر على الكلمة المكتوبة ، ففى أمريكا 13 قناة تليفزيونية ، ومثل هذا العدد من قنوات التليفزيون موجود فى أوربا وفى اليابان ، ومع هذا لم يفقد الكتاب مبرر وجوده أبدا .. الفارق أساسى بين الكلمة المكتوبة والتعامل معها ، وبين السينما والتليفزيون والمسرح .. مشاهدة السينما تقترب من عالم القطيع ، انها حالة جماعية ، يفقد الانسان فيها فرديته واحساسه بهذه الفردية . أما القراءة فهى العملية الفردية الوحيدة التى يمارسها الانسان .. انها توفر للانسان الذاتية التى يحن إليها كل منا ..
ولا يمكن أن يكون لها بديل و" الأخوة كرامازوف " عولجت فى السينما أكثر من مرة ، وقدمت على المسرح ، وظهرت فى التليفزيون ، ومع هذا لايزال للنص الأدبى سحره الخاص الذى لابديل له أبدا ..
المشكلة عندنا أن الكتاب أصبح غالى الثمن ، وأصبح اخراجه رديئا ، وحتى عندما يخرج إلى الحياة الأدبية ، فهو يبقى عاريا ، إذ لايغطيه جو أدبى وثقافى مثل الجو الذى كان سائدا فى الثلاثينات والأربعينات بخصوص الكلمة المكتوبة ..
لست متفائلا أبدا ، بل ربما كنت متشائما ، وأخشى أن يكون الأوان قد فات .. من يذهب إلى دار الكتب الآن يحمل كتابا من الأجيال الجديدة ..؟
أننى أشاهد أبناء هذه الأجيال يقفون طوابير طويلة أمام دور السينما .. ومع هذا لما أشاهد شابا يحمل كتابا ، هذا لم يحدث من قبل أبدا ..
فى شبابنا كنا نقتطع من مصروفنا اليومى ، وهو قليل ، لكى نشترى الكتاب .. أما الأجيال الجديدة ، فالكتاب قد يكون فى البيت ، ولكن الأيادى لا تمتد له . كان لدينا عشق للأدب لدرجة الجنون ، وكان هذا الجو سائدا .. عبد الرحمن البرقوقى صاحب مجلة البيان ، فى هذه المجلة ، كان يكتب المازنى والعقاد وعبد الرحمن شكرى ، كل هؤلاء خرجوا من مجلة واحدة ، وهى مجلة صاحبها فرد ، وليس دولة ، ولا وزارة أو خلافه .. والرسالة أيضا مجلة صاحبها فرد ، وقد تحولت إلى مدرسة أدبية .. أحمد أمين كان يصدر مجلة الثقافة مع اثنين من زملائه .. لجنة التأليف والترجمة أيضا ، كان يملكها ويديرها أفراد .. الدولة الآن وبكافة أجهزتها الثقافية تعجز عن ملء هذا الفراغ ، لأن الجهاز الضخم لايوجد فيه هذا القدر من الحب للكلمة والأدب ..
البدوى والسياسة
هذا الرجل عاصر مصر من نصف قرن ، وقد نأى بنفسه بعيدا عن السياسة تماما ، فلم ..؟
ـ لا أحب السياسة ، أنا شخص حساس ومرهف الحس ، وان دخلت فى دوامة السياسة سيتعطل عملى وانتاجى ، ولا مفر أمام الفنان من الابتعاد عن العمل السياسى بكل صورة من صوره ..
* لماذا ظلمك النقاد ..؟
ـ لسبب بسيط هو أننى لاأهدى كتبى إلى أحد ، والكل يعيش حالة من الكسل الجسمانى والعقلى وينتظر أن تصل الأعمال إليهم ..
هنا كان لابد من سؤال صريح :
* هل ظلم نجيب محفوظ جيلكم ..؟
قال الرجل بقدر من المرارة :
ـ ربما حدث هذا ولكنى أعتبر ذلك موقفا عابرا ، وسرعان ما يتم اصلاح هذا الموقف مع مرور الوقت ، لاشىء يستمر أبدا ، وكل الأمور يعاد النظر فيها مع مرور الوقت ..
الكتابة فى المقاهى
محمود البدوى كاتب من نوع فريد ، يكتب دائما فى المقهى ، سألته عن هذا ، فكانت اجابته أكثر غرابة ..
ـ لا أحب الأماكن المغلقة .. أحب الأماكن المفتوحة ، وأحب أن تكون الحياة متحركة أمامى دائما ، الكتابة الأولى لأى عمل أدبى لابد وأن تتم وحولى الناس بكل الصخب والضجيج الذى يحدثونه .. أما الكتابة الثانية أو الثالثة فهى تتم فى البيت عادة ، وإن كان من المؤسف أن المقاهى تختفى من حياتنا ، كل الأشياء الجميلة تختفى ، كافة المقاهى المتسعة تتحول إلى محلات من أنواع جديدة .. الآن أمشى كثيرا فى الشوارع ، وخلال المشى ، فإننى اؤلف أعمالى الأدبية ، وأنا أتجول هنا وهناك ..
***
ومحمود البدوى فى الثالثة والسبعين من عمره ، مولود فى قرية الاكراد مركز أبنوب ، محافظة أسيوط . منذ ثلاثة أعوام لم يسافر إلى الصعيد ، حيث اعتاد السفر بصورة منتظمة . ومنذ سنة 1973 وحتى الآن لم يسافر خارج مصر ، مع أنه كان كثير السفر والترحال ، وله كتاب وحيد فى أدب الرحلات ، عن طوكيو مدينة الأحلام ، وكثير من قصصه تدور أحداثها خارج مصر ، فى البلدان التى زارها . والرجل رغم هذه السن المتقدمة ، يقوم برحلته من مصر الجديدة وحتى منطقة وسط القاهرة ، ثلاث مرات فى الأسبوع ، من أجل أن يحدق فى الآخرين ، ومن أجل أن يرى الناس ، وأن يقترب منهم ، وأن يلتقط من نثر الحياة اليومية قصصه التى يقدمها لهم فى شكل فنى بديع ..






(8)

حوار مع محمود البدوى

حرفة الأدب معاناة أولاً

*
على الجيل الجديد أن يأخذ نفسه بالجدية والصبر
* قرأت ـ دون مبالغة ـ جميع كتب التراث التى صدرت
* النقد .. منذ عشرين عاما لا يؤدى دوره المطلوب
* دور الصالونات الأدبية فى الحياة الأدبية
" صالون مي "
* نظرة تاريخية على دور المرأة فى المجتمع الشرقى




عنـــوان الدوريـــة : صحيفة الوطن
أجرى الحوار الناقد : إبراهيم سعفان
تاريخ النشــــــر : 3/8/1981


الكاتب الحقيقى هو الذى يكتب كلمته لتصل إلى القارىء ، غير آبه بما يعترض طريقه من شوائب ، لأن التقدير والخلود الحقيقيين للكلمة الجيدة وتقدير القراء ليس لأنصاف الموهوبين الذين تطنطن لهم أجهزة الاعلام والصحافة ، وفى النهاية نخرج بطنطنة بلا طحن ..

والأستاذ محمود البدوى من الذين يدركون هذه الأمور جيدا ، ولذلك قبع فى محرابه يكتب ، عازفا عن الأضواء ، محجما عن الأدلاء بأى حديث أدبى ..

ولكن .. رغم معرفتى بطبع البدوى هذا .. عقدت عزمى على اجراء حوار معه .. فأخذت أحوم حول الفكرة بدءا فى لقاءاتى معه المتكررة .. ويتأخر التنفيذ .. وأخيرا قررت أن أفصح عن رغبتى فى اجراء حديث معه ليفتح قلبه وعقله لقرائه الذين يحبونه .. وكانت دهشتى وكانت فرحتى .. عندما خصنى بهذا الحديث ..

ومحمود البدوى أثرى المكتبة العربية باثنين وعشرين عملا قصصيا هى :
الرحيل 1935 ـ رجل ـ فندق الدانوب ـ الذئاب الجائعة ـ العربة الأخيرة ـ حدث ذات ليلة ـ العذراء والليل ـ عذراء ووحش ـ الزلة الأولى ـ الأعرج فى الميناء ـ غرفة على السطح ـ صقر الليل ـ السفينة الذهبية ـ مدينة الأحلام ( كتاب فى أدب الرحلات ) ـ الباب الآخر ـ صورة فى الجدار ـ الظرف المغلق صدر عام 1980 ..

والبدوى استطاع بقدرته الفنية أن يكون نغمة متميزة عن أبناء جيله .. فقد انتقل بالقصة القصيرة من فجاجة الرومانسية والواقعية الهاتفة إلى الواقعية المعبرة بصدق عن الواقع المعاش .. ولم يكتف بتصوير الحدث فقط ولكنه يضمنه رأيه ونظرته النقدية فنحى منحى الواقعية النقدية .. كما أنه أنقذ الواقعية من مهاوى الأسلوب الأدبى السلس .. والتصوير الدقيق .. واهتم البدوى أيضا بتصوير العلاقة بين الرجل والمرأة ونوعية العلاقة العاطفية بينهما ..

س ـ اتسم عصرنا بالسرعة ، فما أثر ذلك على القصة القصيرة والشعر ، وأثره على الإنسان ..؟
ج ـ بالنسبة للعصر فهو يتسم بالسرعة ، والطبيعة الآن تقتضى السفر من بلد إلى بلد حتى أننى سمعت عالما مصريا يقول أن جميع قراءاته فى الطائرات ، لأنه ليس عنده وقت اطلاقا لقراءة أى شىء فى البيت أو المكتب . فبداهة يقتضى أن يكون الكتاب صغير الحجم ، لأن حجم الكتاب الكبير كما كان موجودا من قبل لايطابق مقتضى الحال .. فكلما عرضت فكرة بأسلوب مختصر كان ذلك أوقع عند القارىء من أن يقرأ هذه الفكرة فى كتاب 500 أو 600 صفحة .. وبالمثل الشعر .. فيمكن للإنسان أن يطالع القصيدة كما يطالع القصة القصيرة فى زمن أقصاه نصف ساعة .. أما الرواية فتقتضى أياما بلياليها ، ولكن لا يمنع اطلاقا هذا من وجود الرواية .. وهناك فرق بين الرواية والقصة القصيرة ، فالرواية تعرض الموضوعات باسهاب وشرح ، أما القصة القصيرة فتعتمد على التركيز المطلق والتكثيف وتتتطلب من القارىء الذكاء ، أما الرواية فلا تتطلب ذلك ، فالإنسان يستطيع أن يقرأها حسب مدارك فكره لأنها مشروحة ومبسطة ..

س ـ نشوب العلاقة بين الشبان والرواد جفاء ، ونلقى بعض الادعاءات من الشبان ضد الرواد ، فما رأيك فى ذلك ..؟
ج ـ المعاناة فى النشر مرت على كل أديب .. فعندما كنا فى سن الشباب ، مرت علينا فترة معاناة فى النشر أكثر مما يعانيه جيل الشبان اليوم .. ولكن كنا نتغلب على هذه الصعوبات بطبع الكتاب على نفقتنا الخاصة بسهولة لأن التكاليف كانت رخيصة وفى مقدور كل انسان أن يقدم على طبع الكتاب على نفقته الخاصة ، أما الآن أصبح مستحيلا وصعبا على الجيل الموجود حاليا أن يطبع الكتاب على نفقته الخاصة ..

وأود أن ألفت النظر إلى أن الجيل القديم أيام أحمد أمين والزيات لم يكونوا يعتمدون اعتمادا مطلقا على الدولة ، فالزيات أخرج الرسالة وحده ولجنة التأليف والترجمة والنشر أخرجت كتبا عديدة تعتبر قمة الكتب الأدبية ، كما أصدرت مجلة الثقافة دون اعتماد على قرش واحد من الدولة .. وتعتبر هذه المجلات من العصر الزاهر للأدب فى مصر ، فقد كانت توزع الألاف المؤلفة لدرجة أن مجلة الرسالة كان لها 7000 مشترك فى العراق ..

هذا الجيل لم يكن يتصور أن الطريق سهل ومعبد ، ولكن عشقهم للأدب الذى يجرى فى دمائهم كان يدفعهم إلى التفانى فى العمل والاخلاص له ، فأحمد أمين والزيات مثلا كان يجلس كل منهما يوميا من الساعة التاسعة صباحا إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. كان هذا نتيجة حبهم الشديد للأدب وتفانيهم فى خدمته .. هذه صورة من الجيل القديم ..

أما الجيل الحديث يتصور أن الدولة يجب أن تعبد له الطريق وتجعله مشهورا فى مدى ثلاثة شهور حتى يسير فى الشارع فيشار إليه البنان .. وهذا أمر عجيب .. حرفة الأدب لمن يحترفها معاناة أولا ومشاركة للناس فى همومها ومعاناتها مشاركة خالصة بصدق ..

فعلى الجيل الجديد أن يقرأ ويقرأ .. للأساتذة السابقين ليكتسبوا الخبرة منهم بدلا من أن يقرأ بعضهم لبعض ..

ولى كلمة صغيرة للجيل الجديد أن عليهم أن يأخذوا انفسهم بالجدية والصبر ، فالأدب يتطلب الكفاح الشديد حتى يثبت الإنسان نفسه وسط العدد الهائل من كتاب القصة فيظهر ويأخذ مكانه ..

س ـ كان للصالونات الأدبية دورها فى الحياة الأدبية فى مصر .. هل الجمعيات الأدبية والنوادى الموجودة الآن تحل محل الصالونات وتقوم بالدور الذى كانت تقوم به ..؟
ج ـ الصالونات الأدبية كان لها دور كبير ومؤثر .. فصالون مي مثلاً كان ينبض بالحرارة لأن صاحبة الصالون كانت جميلة ، وكان كل أديب من الأدباء يتردد على هذا الصالون يتصور أن مي تخصه بعواطفها ، فكان يتبارى كل أديب فى عرض أحسن ما عنده .. فكان لهذا تأثير كبير فى تنشيط الحركة الأدبية فى ذلك الوقت ..

أما الجمعيات الأدبية الآن مع كثرتها لا تؤدى هذا الغرض وليس لها التأثير الذى كان فى مطلع القرن العشرين .. فالصالون الأدبى خرج منه مصطفى صادق الرافعى والعقاد والمازنى وطه حسين ..

أما الجمعيات الأدبية الموجودة الآن ، فليس لها قوة الصالونات التى دفعت هؤلاء الكبار إلى التجديد فى أعمالهم ..

ورغم هذا أشير إلى دور نادى القصة فى ابراز بعض المواهب الجيدة ، ولكنها مع الأسف لم تواصل السير فى الطريق ..

س ـ ما رأيك فى موقف النقاد من الانتاج الأدبى ، وبماذا تعلل عدم متابعتهم لهذا الانتاج ..؟
ج ـ أحب أن أقرر أولا أنه من المفروض أن يكون لكل صحيفة أديب متخصص للنقد ، ولكن للأسف هذا غير موجود فى جميع الصحف التى تصدر فى مصر .. وترتب على ذلك وجود الصداقات والعواطف الشخصية فتكونت الشللية ، ووجد مجموعة من النقاد أصحاب الايديولوجيات يجتمعون فى أماكن لهم ويقررون هذا الكتاب نكتب عنه وهذا الكتاب لا نكتب عنه ، فيقاطعونه مثل مقاطعة دول الرفض تماما .. وأحيانا يصدر كتاب فيقدمه صاحبه لناقد صديق ، أو له صلة شخصية به ، ويطلب منه بالحاح أن يكتب عنه .. وأحيانا يكون المؤلف نفسه هو الكاتب والناقد للكتاب ..

مثل هذا بالطبع لا يسمى نقدا .. وترتب على ذلك أن دخلت الكتب فى تيه ودوامة ، وأصبح القارىء لا يعرف الغث من الجيد .. فالنقد بهذه الصورة منذ عشرين عاما لايؤدى دوره المطلوب منه ..

فالمازنى مثلا كان ينقد فى البلاغ ، والعقاد كان ينقد فى الأخبار وكوكب الشرق ، وكذلك زكى مبارك ، فهؤلاء الفطاحل لم يميزوا بين كاتب وكاتب سواء كان كبيرا فى السن أو صغيرا أو مشهورا أو غير مشهور .. فكنا نرى المعارك الحامية بينهم ، فقد حصلت معركة حامية الوطيس فى النقد بين العقاد ومصطفى صادق الرافعى ، معركة ليس لها مثيل لدرجة أن مصطفى صادق الرافعى كان يشوى العقاد على " السفود " ..
س ـ بمن تأثرت من الشخصيات ، وما هى الكتب التى كان لها أثر فى تكوين شخصيتك الأدبية ..؟ وحدثنا عن رحلتك الأدبية ..
ج ـ قرأت دون مبالغة جميع كتب التراث التى طبعت فى مصر ، وأنا طالب قرأت الأغانى وصبح الأعشى وعيون الأخبار والأمالى .. وعندما صدرت مجلة الرسالة سنة 1933 كنت أستطيع إلى حد ما الترجمة من اللغة الإنجليزية ، فترجمت قصصا لتشيكوف ومكسيم جوركى وموبسان وبعثتها للزيات فنشرها جميعها فى السنة الأولى للمجلة .. وبعد رحلة إلى أوربا كتبت كتابا صغيرا يسمى " الرحيل " وطبعته على نفقتى الخاصة ، وبدأت بعد هذا الكتاب أؤلف القصص ، وكان معى مجموعة صغيرة تسمى " رجل " وذهبت بها للأستاذ الزيات وكان يعرفنى مترجما .. لأنشر عن هذا الكتاب اعلانا صغيرا فى مجلة الرسالة ، فسألنى عن مضمونه فأخبرته به .. وقلب فى الكتاب فوجد قصة باسم " الأعمى " فطلب منى تلخيصها بايجاز ، فعرضت عليه لب الفكرة ، فسر بها جدا ، وقال تسمح لى بنشرها فى المجلة .. ونشرها فعلا على عددين ، وقد تلقيت وتلقى الزيات أيضا كثيرا من المكالمات والرسائل من القراء حول هذه القصة وسلمنى هو هذه الرسائل ، وحدثنى عن المكالمات ، وهذا يدل على خلق الرجل وتشجيعه لشاب فى أول مراحل حياته الأدبية ..

بدأت بعد هذه القصة انقطع عن الترجمة للزيات وأكتب قصصا مؤلفة ..

وتأثرت فى قراءاتى بأسلوب المازنى واعتبره أستاذى ، ومن ناحية التكنيك والبناء القصصى والتركيز وطرق الموضوعات الانسانية البحتة التى تهز مشاعر القارىء من تشيكوف ، ثم الواقعية بصدق دون افتعال للحوادث .. والاعتماد المطلق على ذكاء القارىء .. فأنا أعرض الشخصية بخيرها وشرها كما هى فى الحياة دون وعظ فأنا لست واعظا .. وأنى أعتقد يقينا أن كل إنسان يكتب بصدق وايمان واخلاص لفنه لابد أن يعيش مهما تكن الظروف والمعوقات ، أما السياسة فإنى العنها وألعن الف مرة مشتقات هذه الكلمة ، ولقد قضيت حياتى بعيدا عنها .. وقد لعنها من قبلى الإمام محمد عبده .. وأنا لا أكتب قصة وأجعل بطلها وفديا أو دستوريا أو حزبا وطنيا أو غير ذلك .. إنما أكتب القصة بطلها مصرى خالص لمصر وقد كتبت كثيرا من القصص الوطنية أيام الاحتلال البريطانى كما لعنت اليهود فى غاراتهم على المدن المصرية وقتلهم الأطفال والنساء وتخريبهم للبيوت فى السويس وبور سعيد والاسماعيلية ..

س ـ كتبت عن المرأة أماً وزوجة وعشيقة ، وكانت نظرتك لها إنسانية ليس فيها تجنى ، فما سبب ذلك ..؟
ـ هذه النظرة إلى المرأة طبيعية بحكم تكوينى باعتبارى أننى ريفى صعيدى هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن الإنسانية متغلغلة فى دمى وهذا لا يجعلنى انظر إلى المرأة غير هذه النظرة ..

وأعتقد أن المرأة فى المجتمع الشرقى مظلومة ، وهى لم تتحرر ولم تأخذ مكانتها إلا على مدى سنوات قريبة ، وقد كانت فى العصور الأولى ، لاتعتبر أكثر من أداة متعة ، أما الإسلام فقد حرر المرأة وأوجد لها مكانتها فى التاريخ ، ولقد كان منها من يقاتل فى عصر النبى ، ويضمد الجرحى ويخطب ويناقض عمر بن الخطاب فى تشريعاته ، ولكن بعد الخلافات الشديدة التى حدثت بين العباسيين والأمويين والانتكاسات التى حصلت بعد مقتل الحسين ، تدهورت حالتها فى هذا الجو الكئيب من الفتن والدسائس حتى أصبحت جارية تباع وتشترى ..

وبالنسبة لمصر طبعا بدأت الانتفاضة بالنسبة للمرأة بعد عصر قاسم أمين ، فقد دافع عن المرأة دفاعا حارا وبين مكانتها فى صدر الإسلام وفى عهد الخلفاء الراشدين وتأثيرها على من بعثوا الثقافة إلى أوج عزها فى عصر هارون الرشيد والمأمون .. وطبعا لاقى قاسم أمين الاعنات من بعض المتخلفين وذوى العقول الجامدة ، ولكنه انتصر ، وظهر انتصـاره عندما بدأت السيدة هدى شعراوى وعائشة التيمورية ..

وبعد ذلك حدث تطور سريع ودخلت الفتاة المصرية الجامعة لأول مرة ..

هذه نظرة تاريخية على دور المرأة والظروف التى مرت بها ..

وجد الأدب فى هذه الظروف فقد كانت المرأة تصور وخيال ، حيث لم يكن هناك اختلاط كلى بالمرأة إلا بعد أن خرجت إلى العمل فى الأربعينيات وأصبحت موظفة فى كل مرافق الدولة .. فأصبحت بذلك تجربة الأديب بالنسبة للمرأة حية وصادقة ..

وأشير أيضا إلى أن الاحتلال البريطانى ووجود الأجانب فى مصر أدى إلى وجود البنسيونات والغرف المفروشة ولم تكن موجودة من قبل .. وقد ظهر أثر البنسيونات فى قصصى لأنى عشت سنين طويلة فى هذه الغرف باعتبارى طالبا وحيدا فى القاهرة ..

س ـ ما هى أحب المجموعات القصصية إليك .. ولماذا ..؟
ج ـ العربة الأخيرة ، والذئاب الجائعة ، وزوجة الصياد ، والسفينة الذهبية .. لأنها كتبت فى جو كنت فيه مستريح النفس نسبيا ، وكثير من هذه الشخصيات فى هذه القصص لامست حياتها وظروفها المعيشية بنفسى
عن تجربة خاصة ، ومع أن كل ما كتب أعتقد فيه الصدق ، ولكن فى هذه الكتب كان الصدق واضحا ..
================================


(9)

محمود البدوى
بعد خمسين سنة قصة قصيرة
الكتابة حياتى وبدونها لا أعيش


أجرى الحوار : مكتب الشرق الأوسط
عنوان الدورية : الشرق الأوسط
تاريخ النشر 7/9/1984


الكاتب القصصى الكبير محمود البدوى يعكف هذه الأيام على كتابة مجموعة قصصية قصيرة من وحى زيارته الأخيرة لبيت الله الحرام ، والبدوى اسم كبير فى عالم القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى .. أنجز عدة مجموعات قصصية متميزة ، ورغم مشواره الطويل فى عالم الكتابة ـ 50 سنة ـ إلا أنه يثابر ويكتب وينشر ، فعالمه هو الكتابة فقط ..
فى حديثة ل " الشرق الأوسط " يقول :
ـ الكتابة هى أحلامى وأملى ودنياى ، قطعت معها مراحل متعددة ، بدأت كتابة القصة فى عام 1933 كان أستاذنا الزيات يصدر مجلة " الرسالة " وكنت بطبعى أميل لقراءة الأدب باللغة الإنجليزية ، ولذلك بدأت حياتى مترجما ، بدأت أترجم أعمال الأدباء الذين كتبوا عن بشر يشابهوننا .. فترجمت عن الإنجليزية أعمال " أنطون تشيكوف " و " موبسان " لمجلة الرسالة وذلك حتى سنة 1934..
وفى السنة نفسها قمت بأول رحلة فى حياتى بمبلغ زهيد جدا من المال إلى أوربا الشرقية على ظهر باخرة رومانية ، بدأت من الإسكندرية إلى اليونان ، إلى تركيا ثم رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب ..
وعندما عدت من هذه الرحلةكتبت قصة اسمها " الرحيل " وطبعتها فى عام 1935 على حسابى فى مطبعة بالخرنفش " منطقة فى القاهرة القديمة " وكانت من أكبر المطابع ولم يتجاوز ثمن طبع القصة الجنيهات العشرة .
وبعد قصة " الرحيل " انقطعت عن الترجمة وبدأت التأليف ، وبدأ الزيات يعرفنى كمؤلف وينشر لى قصصى فى مجلته التى كان يصدرها وحده .. أقصد مجلة " الرسالة " وكان هذا الرجل عظيما جدًا ، وقد تعلمت منه أشياء كثيرة .. لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل .
وبعد النشر فى مجلة " الرسالة " بدأت أنشر فى معظم الصحف والمجلات المصرية تقريبا الأهرام والشعب والجمهورية والمساء وأخبار اليوم والجيل وآخر ساعة ولم أتوقف عن النشر إطلاقا .. ولم أشعر باليأس إطلاقا ..
ومن الأشياء التى أذكر أننى لم أحد عنها فى حياتى هى أننى لم أسع لتقديم قصصى لغير أديب .. ولم أقدم قصصى إلا لمن يطلب منى ، ولعل هذا سببه أننى كنت صاحب حياء شديد منذ صغرى ، ولم يكن جسمى ولا روحى يتحملان صدمة أى رد فعل فيه رفض من أى إنسان .. ولعل هذا هو ما جعلنى أبتعد عن التعامل مع الإذاعة والتليفزيون ابتعادا مطلقا ..
* ولماذا قصرت ابداعك على القصة القصيرة وحدها وأدب الرحلات ..؟
ـ أنا أولا أعتبر أن ما يكتبه الأديب فى القصة القصيرة يمكن أن يكون كافيا وضامنا لرواية طويلة من الف صفحة ، وأنا أحب التركيز ، وأتطلب من قارئى دائما الذكاء .. القارىء غير الذكى لا يفهم قصصى اطلاقا ، وقد يكون نفسى قصيرا ، ولا أمتلك الصبر على كتابة الرواية ..
* ولكنك تقرأ الرواية ..؟
ـ طبعا أقرأها .. أقرأ لدستويفسكى وتولستوى وهمنجواى ..
* وفى الرواية العربية ..؟
ـ قرأت لكل الرواد الذين عاصرونى ، قرأت لنجيب محفوظ وطه حسين وعبد الحميد جودة السحار وأقرأ أيضا لتوفيق الحكيم أول من أبدع مسرحا عربيا ، وقد استطاع أن يحبب الناس بأسلوبه الفذ فى الحوار المسرحى ..
أجيال متعددة
* هناك أجيال كثيرة من كتاب القصة ظهرت بعدك .. فهل تتابعهم ..؟ وما رأيك فى انجازهم واضافاتهم ..؟
ـ يعجبنى كتاب القصة الذين يلتزمون بقواعد القصة ولم يتحولوا إلى الموضة الجديدة .. وأنا أقرأ لـ " أبو المعاطى أبو النجا " ويعجبنى وأقرأ لأمين ريان وجمال الغيطانى وسعد حامد ، وهؤلاء يجددون وإن لم يتحولوا إلى الغموض والفقرات القصيرة ، ويقرأ القارىء فلا يفهم شيئا ، وأنا ضد هذا الغموض وهذه الموضة الجديدة ، وأرفضها رفضا باتا ..
* بالنسبة لأدب الرحلات .. هل جاء تسجيلا لكل رحلاتك ..؟
ـ أعترف بأننى سافرت إلى كثير من البلاد فى رحلات ثقافية وغير ثقافية ، ولكننى لم أكتب إلا عن تلك التى استطاعت أن تحدث فى داخلى هزة عميقة ، واستطاع أهلها أن يؤثروا فى عقلى ووجدانى ، والبلاد التى كتبت عنها وأظل أكتب عنها ولو عشت 100 سنة هى اليابان وهونج كونج والصين .. انها بلاد عظيمة تطورت وصنعت المعجزات .. ولو قرأنا ما كتبه الرحالة محمد ثابت قديما عن الصين وما يمكن أن نراه فى الصين اليوم لوجدنا أن الصين تصنع المعجزات ..
أغرب قصة
* ما حكاية أغرب قصة ..؟
ـ كنت أتردد على طبيب بالقرب من بيتى فى مصر الجديدة ، ثم انقطعت عنه فترة وعدت إليه ، وأثناء صعودى سلم البيت الذى توجد فيه عيادته ، وجدت سيدة تنزل السلم وهى تلبس السواد " ملابس الحداد " وهى فى غاية الجمال .. وما ان وصلت إلى الطابق الذى به العيادة حتى وجدت على بابها ورقة معلقة كتب عليها :
" توفى الدكتور فلان أمس وستشيع جنازته الساعة كذا "
فتعجبت كثيرا ونزلت السلم ، وخرجت هائما على وجهى فى الشوارع بلا هدف ، وعدت لأكتب قصة عن هذه الواقعة الغريبة .. يموت الطبيب ويبقى المريض ..
* وكيف تكتب ..؟
ـ أكثر من 80 / من قصصى كتبتها فى مقهى فى شارع سليمان باشا أمام سينما راديو وتحول الآن إلى محل أحذية ، وكنت أجلس على هذا المقهى من الساعة الحادية عشرة صباحا وحتى الرابعة بعد الظهر يوميا ..
مترجمون كبار
* ترجمة الأدب الأجنبى لأدبنا العربى .. ما رأيك فيها ..؟
ـ كان عندنا مترجمون فطاحل أثروا المكتبة العربية ، لكن حركة الترجمة توقفت تماما .. وتوقف الترجمة هو عمل مضر بالحياة الأدبية ضررا بالغا .. ويجب أن تستمر الترجمة أو تعود أقوى مما كانت عليه من الآداب الكلاسيكية ، ومن الأدب الحديث أيضا ، ولا يهم أن تصدر أكثر من ترجمة لعمل أدبى واحد ، فهذا لصالح القارىء فى النهاية ..
* هل يجب أن تتم الترجمة بتصرف من المترجم .. أن تكون ترجمة حرفية ..؟
ـ الترجمة يجب أن تكون فهم روح المؤلف وروح النص ..
* وهل الأديب هو أقدر إنسان على ترجمة الأدب ..؟
ـ طبعا .. وبلا شك ..
* وما رأيك فى حركة النقد الأدبى اليوم ..؟
ـ بمنتهى الصراحة أقول أن النقد الذى ينشر فى صحفنا ومجلاتنا هو مجاملات شخصية لا أكثر ولا أقل ، ونادرًا ما يقوم شخص ويتحمس لنقد عمل نقدًا موضوعيا .. وعموما أنا لا أهدى كتبى لأحد ، ولهذا فلا أحد يكتب عنى ..
* لماذا لم تتحول قصصك إلى تمثيليات تليفزيونية ..؟
ـ وكيف سيحدث هذا وأنا لا أذهب إلى مسئول فى مكتبه ، وأقضى معظم يومى فى السنوات الأخيرة فى بيتى فى مصر الجديدة .. مرة واحدة فقط عدونى من ضمن الكتاب ، وقدموا احدى قصصى فى برنامج تليفزيونى أذكر أن اسمه " كاتب وقصة " ..
جائزة جدارة
* ما هى الجوائز التى حصلت عليها ..؟
ـ جائزة واحدة فقط هى جائزة الجدارة .. فوجئت باسمى فى الجرائد بين الفائزين بها وحصلت عليها وقيمتها 1000 جنيه وقالوا لى أنها ستمنح للحاصل عليها كل سنة مدى الحياة ، ولكنهم لم يوفوا بوعدهم ..
* هل تكتب الآن عملا أدبيا جديدا ..؟
ـ أنا لا أتوقف عن الكتابة أبدا إلا عندما أموت ، وأنا دائم التكير فى الشخص المثالى الذى يجب أن يكون موجودا فى الحياة ..
* فى الفترة الأخيرة وجدنا أنك بدأت فى كتابة شىء جديد تحت عنوان " قصة القصة " ..؟
ـ نعم .. اننى فكرت أن أقدم للقراء القصة الحقيقية التى وراءكل قصة كتبتها ونشرتها لهم .. وكيف تكونت بذورها ..
* ما هى كتبك الجديدة ..؟
ـ كتابان كانا عند الناشر وشبت النر فى مطبعته فاحترقت كل الكتب إلا هذين الكتابين .. ويحمل الكتاب الأول عنوان " المأخوذ " والثانى بعنوان " السكاكين " وأنا أعتقد أن هذين الكتابين هما من أحسن ما كتبت ..
ويقول البدوى :
أشعر بسعادة كبرى لأننى حققت أمنية عزيزة على نفسى ولم أحد عنها شعرة واحدة طوال أكثر من نصف قرن .. وأظن أن من يقرأ لى أول قصة كتبتها فى حياتى كمن يقرأ لى الآن آخر قصة .. فأنا أعالج فى قصصى صنفا معينا من البشر .. أكتب عن الناس المظلومين فى الحياة .. دائما أكتب عن هؤلاء الناس .. ولا أكتب قط من فراغ وإنما أكتب من الواقع وعن الناس الذين عاشرتهم وعشت معهم ، وأشعر بعد كتابة القصة براحة نفسانية لا حد لها ..
خوف من المجهول
وبقول البدوى :
" أكتب لأدفع الملل والخوف من المجهول عن نفسى .. ولم أكتب اطلاقا وأفكر فى المجد أو الخلود أو أى شىء مما أعتبره من أحلام اليقظة .. أنا أكتب لأريح نفسى من القلق ومن الجمود ، وأنا حتى فى هذه السن
الكبيرة أتحرك فى الشارع لألتقط الصور لكى أكون منها قصة ..


ليست هناك تعليقات: