الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 1 سيرة حياة محمود البدوى







نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان





محمود البدوى 1908 ـ 1986


النشأة الأولى

قرية الإكراد :
ــــــــــــــــــــ
قرية الأكراد إحدى قرى مركز أبنوب بمديرية " بمحافظة " أسيوط وهى قرية تقع على النيل مباشرة وقريبة من خزان أسيوط ، عاش أهلها عيشة هادئة بفضل عمدتها الرجل القوى الجسور الشيخ حسن عمر الذى إتبع أسلوب والده وجده وسار على نهجهما فى المحافظة على إستتباب الأمن والنظام فى القرية ، فكانت بمنأى عن الإجرام والمجرمين وقطاع الطرق ورجال الليل ، رغم ما كان يعرف عن هذه المنطقة من الصعيد " أبنوب " بأنها مرتع للجرائم والأخذ بالثأر ..

تزوج عمدة القرية بزيجتين ورزق منهما بثمانى ذكور وست إناث ، وسأكتفى بذكر الذكور دون الإناث ، والذكور هم على الترتيب محمد وأحمد ورياض وحسين وحفظى وعمر وزينهم ومحمود ..

وكان العمدة وأولاده يقيمون فى دار كبيرة وواسعة ، ويقوم على شئونهم وقضاء حوائجهم أربعة من العبيد وبعض الخدم ، وبجوار هذه الدار وملاصقة له مقر العمدية وبيوت بعض أفراد الأسرة وأمامه مساحة من الأرض الفضاء واسعة ، ويحتوى مقر العمدية على حجرة السلحليك ومضيفة العمدية وبيت كبير للضيافة يتم الصعود إليه بعدد من السلالم وأحيط المقر بسور مبنى من الطوب ( لا يزال المقر موجودا وتعتنى به الأسرة وبملحقاته حتى الآن ) ..

ويمتلك العمدة أرضا زراعية تقع فى القرية وفى القرى المجاورة لها ويباشر زراعتها بنفسه ..

***

وتوفى العمدة سنة 1905 واستمر أولاده من بعده يتولون العمدية ، فقد تولاها على الترتيب :
* محمد فى سنة 1905
* أحمد من نهاية سنة 1905 إلى أن توفاه الله عام 1941 تخللتها فترة تولى فيها شقيقه رياض العمدية
* زينهم من سنة 1941 إلى تاريخ وفاته عام 1991 "ولم يتم شغل المنصب بالقرية حتى الآن "
* أما حفظى وعمر فقد التحقا بالبوليس وتدرجا فى الترقى إلى أن وصل كل منهما إلى رتبة اللواء
وحسين ومحمود أتما تعليمهما العالى بمدرسة الحقوق العليا والتحق الأول بالسجل التجارى والثانى بالنيابة العامة ثم القضاء

والد محمود البدوى عمدة القرية

تولى أحمد العمدية عام 1905 ، وكان فى الثامنة عشرة من العمر ، ويقتضى الأمر تزويجه ، وكانت والدته على صلة كبيرة بالأسر الطيبة فى جميع أنحاء قرى ومديرية أسيوط ، فاختارت له بنت عبد المنعم التونى عمدة إتليدم، وكانت هذه القرية آخر حدود مديرية أسيوط (حاليا تتبع القرية محافظة المنيا) وبدون أن يرى العروس ، أتمت الأم إجراءات الزواج ، وقام العمدة بتشييد مسكن الزوجية أعلى بيت الضيافة الملحق بمقر العمدية ويتم الصعود إليه من خارج السور المحاط بالمقر " لا زال موجودًا حتى الآن " ..
كان والد العروس يرسل إليها فى موسم جمع ثمار الفاكهة مركبا شراعيا كبيرا محملا بثمار الفاكهة من نتاج بساتينه وأشياء أخرى ، ويجىء إلى القرية صباح يوم وصول المركب ، ويجلس مع العمدة أمام الدوار ، وحينما يشاهد المركب ترسو بالمرساة ــ مكان قريب من الدار ــ يرسل الخدم والخفراء والعبيد إليها ويحملون حمولة المركب حتى باب الدار (لا يستطيع أحد من الرجال الولوج من باب الدار إلى داخله ) ثم تقوم النساء بحمل الأشياء إلى صحن الدار ، وبعد الإنتهاء من تفريغ حمولة المركب ، ينصرف والد العروس، وتترك العروس لأم زوجها (حماتها) توزيع هذه الأشياء على الفقراء من أهل القرية والقرى المجاورة لها ..

ويقول محمود البدوى فى حوار له نشر بمجلة أسرتى الصادرة فى 31 يناير سنة 1981 " ولدت أمى لأب صعيدى غنى ومن أسرة معروفة ، وكان من الأعيان المتنورين ، وهو عبد المنعم التونى .. وكان يملك مساحة كبيرة من الأرض تبلغ 800 فدان ، فجعلته يبنى لنفسه قصرا فى أوائل هذا القرن فى قريته إتليدم مركز ملوى مديرية أسيوط ــ وتتبع اليوم محافظة المنيا ــ إستورد لها الرخام والزجاج الملون من إيطاليا " ..

وأثمر زواج العمدة من السيدة تفيده عن الأبناء ـ بالترتيب ـ محمد ومحمود وفاطمة وأبو الفتوح .. وما يهمنا هنا هو الابن الثانى " محمود أحمد حسن عمر " ..

ولد محمود فى 4 من شهر ديسمبر سنة 1908 ، وشب طفلا مدللا وشقيا إلى حد بعيد ، وفى سنين عمره الأولى كان يحب ويهوى معاكسة النساء المتواجدين بالبيت مع أمه وخاصة معاكسة عماته أثناء جلوسهن فى صحن الدار ، كان يقوم ــ فى غفلة منهن ــ بربط الحصى أو لصق الورق فى طرحة إحداهن ــ وحينما يتنبهن لفعلته ، يضحك ويجرى ، أو يقوم بإشعال النار فى الورق ، ولا أحد كان يجرؤ أو يستطيع ردعه ، وما كان لأحد من أفراد الأسرة أو غير أفرادها يجرؤ بلمسه ، وكان يلعب فى الأجران مع لداته، فيصعدون الأجران العالية وينحدرون منها ، ويجرى بحماره الأبيض الصغير على الجسر بعضا من النهار ، وحينما تغمر مياه الفيضان القرية وينطح بيوتها، ينزل الماء مع لداته ويلعبون وهم فرحين بماء الفيضان ، وكانوا يتسابقون ويتنافسون على تسلق صوارى المراكب الراسية بجوار القرية ويقفزون من قمتها إلى الماء ، وذلك منذ بداية الفيضان فى شهر أغسطس .
كان مدللا للغاية ، خفيف الظل ، نحيف العود ، براق العينين ، سوداء اللون .

وفاة والدة محمود البدوى

كانت أم محمود حاملاً حينما توفى والدها ، فأصابها الحزن والكرب العظيم ، فأثر ذلك على صحتها وعلى الجنين ، وفى أثناء الولادة عام 1915 بالبيت ، ماتت ، ولم ير الطفل النور وإنتهى معها ..

إنطلق الصراخ من جنبات الدار وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم وإنتقل منها إلى القرى المجاورة ، وحضرت الجموع وتحولت القرية إلى مناحة ، فولولت النساء ولبسن السواد ولطمن الخدود ، وارتفع صراخهن ، ولطخن وجوههن بالزهرة الزرقاء ، وأهلن على رؤوسهن التراب ، وحملت إحداهن رقا وطافت فى طرقات القرية تحمل لأهلها خبر الفاجعة ، وإزداد ورود النساء وهن ينشجن نواحًا تتفطر له القلوب ، وكلما تعدد إحداهن محاسنها وخلقها وأفعالها وأعمالها يزيد صراخهن ويشتد لطمهن للخدود ، وكل حاضر من هذه الجموع يصرخ والأطفال الصغار يبكون فى حرقة ..

ومحمود يشاهد هذا كله بعين الطفل ، فلم يكن بلغ السابعة من عمره ، ولأول مرة فى حياته ــ وهو الذى لم يعرف الحزن ــ يرى الموت يدخل البيت، ومنظر النساء الباكيات حوله ؛ ففطر قلبه وشعر فى أعماقه بالتعاسة ، وظلت الغمامة متأصلة فى نفسه وهو لا يدرى ..

وحمل الجثمان بالمركب ــ صندل بموتور يدار بالفحم ــ ورافقه الأطفال وأفراد الأسرة وأهالى القرية ، وسار المركب إلى دار أبيها ، ونقل الجثمان إليه ، وتكررت مأساة الصراخ والعويل ولطم الخدود من نساء أهل قرية إتليدم ، وحمل مرة أخرى ونقل بالمركب حتى شرق النيل حيث دفنت بجوار والدها ، وعاد الجميع إلى الأكراد ، واستمر العزاء مدة أربعين يومًا ..

حالة محمود البدوى بعد وفاة والدته


تبدل وتغير حال محمود وإنقلب كيانه بعد أن ماتت أمه وانقلب لعبه وضحكه ومرحه وشقاوته إلى حزن وانطواء ، فقد كانت الفاجعة أكبر من أن يحتملها طفل فى مثل سنه وتكوينه ، وإرتسمت مسحة الحزن على وجهه ، فذبل جسمه وإصفر لونه ، فكان ينزوى سحابة النهار وطول الليل فى المزارع والحقول هائما شاردًا لا يحادث أحدًا ، وكان أحد الخفراء يتبعه كظله فى كل حركة ، وحينما ينهكه المشى والتعب يعود إلى البيت لينام ، وكان يشعر بأنه قريب من الموت الذى أخذ أمه فجأة دون سابق إنذار وهى فى بكائر أيامها وربيع عمرها ، وأصبح يستريح إلى رهبة الليل وسكونه وهوله ..

وأصاب والده البلاء والكرب العظيم ، فشعر بعد فراق زوجته بالوحشة والانقباض والضجر ، واستبشر بالصبر ونزل على حكم القدر وسلم أمره إلى الله ، وزاد عطفه على أولاده ودللهم وكان يأتى لهم بأكثر مما يحتاجون إليه ، وكانوا فى رعاية جدتهم (أم الأب) وإحدى النساء من العاملات فى البيت والتى كانت بمثابة المربية وعرفت محمود أن الاهتمام أو الحب لا ينبع من داخل الأسرة فحسب بل يمكن أن يأتى من الخارج ..

ليست هناك تعليقات: