الأربعاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٦

ص 1 أدب الرحلات ـ رحلة محمود البدوى إلى الصين فى عام 1957

نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 328 فى 7/4/1958

بكين المدينة ذات القصور

بكين عاصمة الصين .. إنها المدينة العريقة ذات الحضارة وذات القصور .. فيها كل قصور الأباطرة ، وفيها عاش أعظم أباطرة الصين ، وفيها كل المعابد البوذية ، حتى معبد السماء ..

وبكين مدينة صينية أصيلة لم تتأثر بأى احتلال ، كما تأثرت شنغهاى .. إن المبانى لاتزال محتفظة بكل أصائل الفن الصينى العريق وطابعه .. السقوف الخزفية المزركشة ، والتنين الهائل شعار الصين ، وأن مليونين وثلاثة أرباع المليون من الصينيين يعيشون الآن فى بكين يرون مدينتهم العريقة تبنى من جديد ، شقت الشوارع الواسعة وغرست الأشجار ، ورسمت الميادين الفسيحة .. ظهر ميدان تين آن فى قلب المدينة ، ومن برجه الأحمر يطل الرئيس ماو على الجماهير ..

وأقيمت العمارات الكبيرة لدور الحكومة والمستشفيات والمصانع ، والفنادق .. حدث تغيير كبير وظهرت بنايات حديثة فى السنين الأخيرة ، ولكن بكين العريقة لاتزال باقية وغالبة بطابعها القديم ..

***

إن الطائرة التى تحملك إلى بكين ليس بها مضيفة تقدم لك الحلوى واللبن وعصير البرتقال ، أو تنبهك إلى حزام النجاة " إنها طائرة خشنة ليس بها حسناء تتكلف الدلال وليس بها شىء ناعم على الاطلاق " إنها تنطلق بك فى سرعة الصاروخ ..

وعندما تهبط منها إلى مطار العاصمة تلاحظ أول ما تلاحظ تمثالا كبيرا للرئيس ماو فى صدر المكان ، وغلاية ضخمة يتصبب منها الشاى مجانا لمن يشاء من العابرين ، ومذيعة تذيع باللغة الصينية حركة الطائرات فى صوت رخيم ، وتجد أن الجو مألوفا ولا يختلف عن جو القاهرة ، وأن البرودة لم تنزل بعد والسماء لا تمطر ندف الثلج ، وأن المعطف لا لزوم له ..

وعندما تخرج إلى المدينة لاتحس بالبيوت فيها ، لاتساع الشوارع ، وانخفاض المبانى ، ووجود الأسوار العالية تطوق البيوت ، ولا تشعر بزحام الناس إلا وأنت داخل فى حى المتاجر فى قلب المدينة ، وفيما عدا القلب تشعر بالسكون وتحس بأنك فى ضاحية صغيرة ولست فى مدينة كبيرة ..

إن بكين قائمة على أرض واسعة ، ولهذا بنيت فيها القصور التى لايدركها العقل فى الاتساع .. إن قصر الصيف وحده مساحته 850 فدانا ..

وكيف تمضى فى هذه المدينة المترامية الأطراف ، وترى قصر الصيف ، وقصر الشتاء ، وقصر الامبراطور ، الذى تقيم فيه الحكومة .. إن الركشا التى يجرها الإنسان ممنوعة ، منذ تحررت الصين ، والسيارات الخاصة نادرة ، والتاكسى يكلفك كثيرا لارتفاع ثمن الوقود ..

والصينى يستعمل الآن الدراجة كما يستعملها الهولندى ، كوسيلة سهلة ورخيصة للانتقال .. وقد تطورت الركشا فأصبحت تسوقها الدراجة ..

وندر أن تقع عينك على سيارة خاصة فى بكين ، أما الدراجات فتراها بكثرة مذهلة ويخيل إليك أن نصف الركاب يركبونها ..

ومن الساعة الخامسة صباحا تراها تتحرك فى الطريق .. ويسير بعدها الترام والأتوبيس والتروللى باس ..

وبعاصمة الصين 240 تراما تتحرك على سبعة خطوط و 401 من الأتوبيسات تتحرك على 14 خطا ..

ومع كل هذا العدد الضخم من السيارات وعربات الترام فإنك تحس إن الجمهور يقول هل من مزيد .. والجمهور فى غاية النظام والأدب عندما يركب هذه السيارات وينزل منها ، وثوبه نظيف وهو لايدخن بتاتا فى داخل العربة ، ولا تسمع من راكب كلمة بذيئة أو سبابا ..

وترى المرأة فى هذه السيارات فى زى الرجل .. اللباس الشعبى الأزرق ( الجاكت المضمومة إلى العنق والبنطلون ) ولا يمكن أن تميزها عن الرجل إلا بشعرها ووجهها ، فالثوب يخفى تقاطيع الجسم كله ..

ومنذ تحررت الصين من الاستعمار ، والمرأة تعمل فى بكين فى كل الأعمال وقد ظهر تطورها وتقدمها بوضوح ، ونائبة رئيس الوزراء سيدة وهى زوجة الدكتور صن يات صن ..

ولكن برغم الرقة والنظافة والجمال الذى كنت أراه فى كثير من وجوه النساء ، فإن زيهن لم يكن يعجبنى على الاطلاق لأنه يفقدهن كل ما فيهن من جمال وأنوثة ..

***

وشوارع بكين تمتلىء بالرجال والنساء بعد الخروج من العمل ، وتراهم يتسوقون الأشياء من الحوانيت فى سرعة ، والصينى سريع المشى والحركة ولا يتردد ولا يجادل ولا يغش ..

ولا توجد مساومة فى البيع والشراء ، والأسعار كلها موحدة فى المتاجر الصغيرة والمتاجر الكبيرة ، وكل شىء يباع بفاتورة ، لأنه يدخل فى جيب الحكومة ..

وكما يقف الصينى فى بكين فى طابور لينتظر الترام ، تقف المرأة الصينية فى طابور أمام البقال لتأخذ حاجاتها المنزلية ..

وواجهات الحوانيت ليس فيها جمال على الاطلاق ، بل فيها كآبة ، والحروف الصينية تكتب كبيرة وتشوه الواجهة ..

ولا تستعمل أضواء النيون كوسيلة للإعلان ، والمتاجر لاتغريك واجهاتها على الدخول كما تغريك المتاجر فى هونج كونج وشنغهاى ..

والاضاءة على الجملة فى العاصمة ضعيفة ويقال إنهم يوفرون من الوقود ..

وعندما تمر على المتاجر تجد حانوتا كئيبا من الخارج ، وبداخله أروع النفائس والتحف ..

والملابس كلها جاهزة ، ندر أن تعثر على " ترزى " فى الشارع ليفصل لك بدلة ، وكل البدل شعبية ومن قماش واحد ..

والحذاء لا يقل ثمنه عن ثلاثة جنيهات مصرية ، والقميص بجنيه ، والبدلة الشعبية بضعف ثمن الحذاء ..

وكل الحرير والمنتجات الفاخرة تصدر إلى الخارج ، لاتجد صينيا واحدا يستعملها ..

والصينى بسيط فى ردائه ، بمثل البساطة التى فى طباعه ..

وعندما تدخل بكين سترى حسن رجب سفير مصر هناك ، الرجل الواسع الثقافة الذى جعل السفارة المصرية من أروع السفارات وأجملها ، وجعل قاعتها الشرقية ، قاعة نادرة المثال ، سترى الرجل الذى تعلم الصينية وأصبح يجيدها ، وعرف كل عادات وتقاليد الصين ..

وسترى بدران مستشار الثقافة ، الرجل الضاحك الذى يحل بابتسامته كل مشاكل الحياة حتى برد بكين القارس ، سترى الرجل الذى يعمل على ترجمة أدب بلاده إلى اللغة الصينية ، ويحاول أن يجعل الاتصال الثقافى كما كان أيام العرب ..

وسترى مس يونج مديرة العلاقات الخارجية بحكومة الصين ، السيدة التى تستقبل المصريين فى المطار بالفرحة الصادرة من القلب وترافقهم بنفسها فى كل الجولات ، ولا تشكو من أى تعب ، دائما مبتسمة ، ودائما تسمع ضحكتها الفضية ..

***

إن بكين هى قلب المعرفة للصين " إن بها 28 مدرسة عالية ، وأكثر من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية ، وبها أكثر من أربعين دارا من دور النشر ..

وبها المكتبة الأهلية الكبرى التى بها أربعة ملايين ونصف مليون مجلد ، ولها 70 فرعا للمطالعة فى العاصمة ، ولقد رأيت الذين يترددون على قاعات المطالعة ، كانوا فى غاية السكون والنظام ، ومثل هذا الاختلاط بين الجنسين تراه فى كل مكان فى الصين : فى الحدائق والمتنزهات ، وفى الجامعات ، وفى المصانع ، وفى الحقول ..

ومع أننى لم أشاهد قبلة فى الصين على المسرح ، أو فى الحياة ولكن يبدو لى أنهم حلوا ملكة المراهقه حلا سليما ، بدليل أنك لاتشعر وأنت تحادث الشباب بأى كبت أو أى انحراف ، ولا تسمع الكلمات البذيئة تخرج من الشفاة كتعبير عن العواطف المحبوسة ..

وكما أن طبيب الأسنان فى الصين لا يكتفى بفحص اسنانك ، بل يفحص كل أعضاء جسمك ، لأن الجميع وحدة واحدة ، كذلك مشكلة الجنس فى الصين حلت بطريقة علمية وبعد دراسة طويلة ..

وأنت لاتجد فى الصين الشاب يتهافت على المرأة ، أو يلقى بنفسه بين أحضانها ، أو يرتعش لمجرد سماع صوتها ، أو يطاردها بكلمات الغزل ، كما ترى من الشبان فى بعض البلاد الأوربية والشرقية ، وإنما تجده بجانب المرأة ، وكأنه لايفكر أنها من جنس آخر ..

وهذا عجيب فى بلد قضت على الدعارة قضاء تاما ، وطهرت البلاد من كل أوكارها ، بلاد لاتجد فيها رقصا خليعا ، ولاكباريهات ، ولاحانات ، ولاوسيلة للترفيه والتنفيس غير السينما والمسرح ، وفى المسرح لايمكن أن تشاهد منظر قبلة ..

إن هذا عجيب ..

جامعة بكين
ــــــــ
وجامعة بكين من أقدم الجامعات فى الصين فقد أنشئت فى سنة 1898 " وكان من أساتذتها ماو ، والكاتب لوسون " وبها 7755 طالبا و 1196 أستاذا وأستاذة و 255 طالبا من الاتحاد السوفيتى والدول الديمقراطية ، وفى قسم اللغات الشرقية كثير من الطلبة والطالبات المسلمين من شمال الصين ..

وبالجامعة مكتبة بها مليون وثمانمائة ألف مجلد ..

ولا يوجد بلد فى العالم يعنى بالأدب ورجال الأدب كما تعنى الصين ..

إن قاعة لوسون فى بكين ، من عشر حجرات كبيرة وهى تعرض بالصور والتماثيل حياة الكاتب من مولده إلى وفاته ، ومثل هذه القاعة للتخليد موجودة فى شنغهاى ..

وعندما تدخلها تعرف حياة الكاتب ، وكل آثاره وأعماله الأدبية ..

ترى شريطا مصورا مرسوما باتقان وبراعة ..

وتقرأ كلمات ماو عن لوسون بخط كبير ..

" إنه ليس بكاتب عظيم فقط ، ولكنه رجل من رجال الثورة الأفذاذ وبطل من أبطال بلادنا "

وقريبا من القاعة دخلنا منزل لوسون نفسه ، وهو منزل بسيط من طابق واحد يتوسطه فناء صغير ، وأثاث المنزل فى غاية البساطة ، ورأينا مكتبه الصغير من الخشب العادى ، وغرفة نومه سرير من الحديد ، ودولاب خشبى صغير ، وغرفة والدته ، والقاعة التى كان يستقبل فيها ضيوفه .. وهى مؤثثة بكراس عادية من القش ..ورأينا الغلاية التى كان يشرب منها الشاى .. وفنجانه ، والفرشاة التى كان يرسم بها لوحاته .. لأنه كان من غواة الرسم .. ولاتزال الخادمة التى كانت تخدمه موجودة فى البيت الآن .. وهى التى كانت تفتح لنا الأبواب ..

***

الصحافة فى بكين
ـــــــــــ
ويوجد فى بكين عدة جرائد يومية كبرى أهمها الشعب ، النور ، الجريدة الكبرى ، جريدة المعلمين ، جريدة جيش التحرير ، جريدة بكين ، جريدة الشباب ، جريدة العمل ، والجرائد اليومية تطبع نسخا منها فى كل مدينة من المدن الكبرى علاوة على طبعتها الأصلية فى بكين ..

والشعب أكبر جريدة يومية فى الصين تطبع 800 ألف نسخة ، وفى المناسبات الكبرى تطبع مليونا ونصف مليون ، وتصدر فى ثمانية صفحات ، ومعظم قرائها من المشتركين توزع عليهم فى البيوت فى الصباح المبكر وثمنها 10 سنتيم ..

وأكبر أجر للمحرر فى الشعب 300 ايوان فى الشهر والإيوان يساوى 24 قرشا تقريبا .. وأقل أجر 100 ايوان ..

وبالدار 120 محررا و 500 مراسل و 24 مراسلا خارجيا ..

ورأيت الجريدة تركب ماكينات جديدة ضخمة للطباعة ، لم تستعمل بعد وهى مستوردة من المانيا واليابان ..

***

قصر الصيف
ـــــــ
ومن أروع المشاهد فى بكين قصر الصيف ، وقد بنى فى متوسط القرن التاسع عشر ، وبناه الامبراطور تشى ومساحته 850 فدانا ، وبهذا القصر أجمل المناظر الطبيعية على الإطلاق ..

وتحيط به بحيرة واسعة فى وسطها برج يصل إليه الإنسان ، بعد أن يتخطى جسرا غاية فى الجمال ، وفى البحيرة الزوارق تتهادى ..

وهناك أبراج كثيرة فى القصر وتماثيل من الذهب الخالص ، وقد سكن فيه الامبراطور لغاية سنة 1907

وعندما يجىء الليل .. تعمل المسارح فى بكين والأوبرات ودور السينما ..

وأوبرا بكين هى أشهر أوبرا فى الصين ، والفرق التى تمثل الأوبرات ممتازة والاخراج رائع .. والصينى يعشق الأوبرا ، كما يعشق المسرح ، ونصف الذين يترددون عليها من العمال ..

وفرق الأكروبات عالمية ، وتقوم بألعاب خارقة ، والجمهور يحبها ويقبل عليها بشغف ، وترى المقاعد ممتلئة بالمشاهدين قبل رفع الستار ، وهم جميعا فى زى شعبى واحد الرجال والنساء ، وتسمع ضحكاتهم وتصفيقهم للمشاهد ، وترى البيت كله ذاهب للمسرح ، الزوج والزوجة والأولاد ..

والنساء فى مثل عدد الرجال ، وتلاحظ تقارب السن ، الجميع بين العشرين والخامسة والثلاثين ، وقليل منهم الذى يلبس رداء يختلف عن الآخر ، أو الذى يتكلم غير اللغة الصينية ، وإذا خرجت من السينما أو المسرح لايمكن أن تجد فى بكين كلها مطعما تأكل فيه ، أو مقهى أو مشربا تستريح فيه ساعة ، الطعام والشراب فى الفنادق ، ولكن إذا كنت عابر سبيل ، أولا تنزل فى فندق ، أين تأكل ..؟ هذا هو السؤال كما يقول شكسبير ، وهو شىء يحير فى عاصمة الصين ..

وإذا كنت من نزلاء الفنادق ، ولم تراع مواعيد الطعام ، فستنام من غير عشاء ..

***

وإذا أردت أن تشترى شيئا من بكين فهناك محل الحكومة فى شارع وانج فوشنج ( waing foshing ) والمتاجر التى حوله وهى كثيرة والأسعار موحدة ، وستجد أصنافا مختلفة من السلع وكلها مصنوعة فى الصين ، إنهم لايبيعون منتجات البلاد الأخرى إطلاقا .. والصينى يكرم الضيف اكراما زائدا ويحتفى به ، وتجد هذا السلوك عاما فى كل مكان تنزل فيه ، ولأنه لايغش ، لايتصور طبعا أن أحدا يغشه أو يخدعه ، ولهذا ترى فيه بساطة مشرقة ..

أما الأمانة فهى شىء عجيب ، وكأنها أصبحت صفة لازمة للصينى ..

والجمهور فى غاية الوداعة ومسالم ، ولهذا لاتجد العسكرى فى بكين يحمل سلاحا ، ولايحدث أن ترى مشاجرة فى الطريق ، أو فى أى مكان ، أو ترى أوراقا أو مهملات ملقاة فى الشارع ، الشوارع نظيفة ..

وخلال شهر فى الصين لم أر جنازة فى الطريق ، ولا زفة عرس ، ويبدو لى أن هذه الأشياء تتم بمنتهى البساطة ..

وسكان بكين يتمتعون فى يوم الأحد ، وهو يوم الراحة من الأعمال ، يقومون بنزهات جميلة فى الضواحى ، ويزورون القصور التاريخية ، والحدائق ، وتجد الحدائق نظيفة ولا أحد يقطع الأزهار أو يتلفها ، أو يلقى بقايا الطعام على الأرض ، وكثيرا ما تشاهد الشبان والشابات جالسين فى صف تحت الأشجار ، يرسمون المناظر الطبيعية التى حولهم ..

السور العظيم
ــــــــ
وإذا خرجت من بكين ، وزرت السور العظيم ، فأنت سترى أعجوبة من عجائب الدنيا السبع ..

تصل إلى السور بعد ثلاث ساعات بالسيارة من بكين ، وترى أعجب شىء فى الدنيا " سور طوله 2700 كيلو متر "

وقد بنى فى عهد أسرة الامبراطور شى هوانج وسمى بالسور الذى طوله عشرة آلاف ميل .. وذلك مبالغة فى اظهار ضخامته وطوله ـ بالأميال الصينية خمسة آلاف ميل ـ ويرتفع عن الأرض 15 قدما وهو عبارة عن سور له حائط من الجانبين .. وبعد كل مسافة توجد أبراج مراقبة وبه 35 الف برج حربى و 15 الف برج للحراسة ..

وهذا السور يذكره الصينيون بالأسى ويسمونه " محزنة الشعب " لكثرة من مات فيه من الشعب .. وتروى عنه القصص التى تعبر عن هذا المعنى ..

وعندما تعود من السور تكون متعبا ، وتكون الساعة قد قربت من السابعة مساء ، ولكن الصينيين لايعرفون التعب ، فقد حجزوا لك تذكرة لتشاهد فرقة الباليه الروسى ، وهى فرقة من سيبيريا ، جاءت إلى بكين لتعرض أروع فنونها ، وتذهب إلى هناك ، وتنسى تعب النهار ، وتحس بأن روحك تحلق مع الراقصات ، وهن يطرن كالفراشات فى سماء المسرح ، ولكن بعيدا عن النار ..
===================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 328 فى 7/4/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " ـ الدار القومية للطباعة والنشر ط 1963
====================================

نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 324 فى 10/3/1958

شنغهاى أجمل مدينة فى الصين
فى سنة 1957
بقلم محمود البدوى


رفعت المذيعة شريط الاسطوانات الموسيقية عن الميكروفون ، وأعلنت بصوت فيه رنة الزهو " إن القطار يدخل الآن حدود شنغهاى " فنظرت من النافذة ، ورأيت الأنوار الساطعة من النوافذ البلورية ، والعمارات تناطح السحاب ، والشوارع تلمع كحجر الجرانيت المصقول ، والأشجار تسقط عليها أضواء المصابيح الزرقاء فتبدو للمشاهد عن بعد كأنها عرائس الكرنفال .. رأيت هذا ، فعرفت أنى داخل مدينة ليست كمدن الصين ، وأدركت السبب فى زهو الفتاة ..

إن شنغهاى مدينة عديمة النظير ، إنها تتلألأ بالثريات وأنوار النيون القوية ، وكل مدن الصين ضعيفة الإضاءة حتى بكين العاصمة ..

وعندما يتهادى القطار تسبح فى بحر لجى على الضفتين ، وتحار عيناك أتنظر عن يمين أم عن شمال ..؟ فإن الجمال متساو فى الحالتين ، ويظل القطار خمس عشرة دقيقة يشق قلب المدينة فى رفق ، ويلامس وجناتها فى حنان ، ويصافح عماراتها الشاهقة ، ويحيى سكانها بالصفير ، ثم يقف على الرصيف المسقوف ، وقد أطفأ نور الكشاف ، وأغلق كل الصمامات ، فإنها آخر جولاته فى هذا الليل ..

وتخرج من المحطة وتدخل شنغهاى ..

شنغهاى المدينة ذات الفخامة ، إن شنغهاى أكبر مدن الصين قاطبة .. مساحتها 630 كيلو متر مربع ، وعدد سكانها 000و800و6 مليون نفس سبعهم من عمال المصانع ..

إن بها 000و980 (حوالى مليون ) عامل يشتغلون فى ستة عشر ألف مصنع ، وإذا نظرت من طوابق الفندق العليا فى النهار ترى مداخن المصانع السابقة ترسل الدخان المتصل إلى أجواز الفضاء ، ويخيل إليك من كثرتها أن بالحى الواحد أكثر من ألف مصنع ..

إنها مدينة الصناعة والعمل ، وأضخم مدن الصين قاطبة ، وأعظمها حركة وتجارة ، وأنها تتبادل التجارة مع ثمانين دولة ..

وعمدة شنغهاى هو نائب رئيس الوزراء ..

وكانت المدينة ذات الفخامة محتلة بالإنجليز والفرنسيين واليابانيين ولا تزال هناك بعض آثارهم ..

وفى 25 من مايو عام 1949 دخل جيش التحرير الصينى ضواحى شنغهاى ، وهز معاقلها ثم دك حصونها ، وفى 28 من مايو تحررت كل شنغهاى ..

وقد تحولت كل أندية المحتلين ومواخيرهم إلى ملاعب ومسارح للشعب ، فنادى سباق الطلاب الذى بناه الفرنسيين أصبح مسرحا يسع أكثر من ثلاثين ألف متفرج للحفلات الموسيقية الكبرى والمحاضرات ..

ونادى سباق الخيل الذى أقامه الإنجليز أصبح ميدانا عاما للشعب ، ومنه يطل الرئيس ماو على الجماهير ويخطب ..

وأندية القمار تحولت إلى مراكز للثقافة والمعرفة ..

وكانت المدينة ذات الجمال وكرا رهيبا للعصابات ، العصابات الدامية التى تعيش تحت الأرض ، وفوق الأرض ، كما كانت مسرحا متصل الحلقات لحوادث السرقة بالاكراه ..

إذا سرت فى الشارع ، كان ينقض عليك اللص فى الظلام ، كما كان ينقض الصقر على الفريسة وينفضها نفضا ..

كان بها ستة آلاف متشرد ولص يجتمعون فى قلب المدينة كأنه فيلق مدرع ..

وكانت وكرا للشيطان والفسق وكل أنواع الفجور ، ومرتعا لبنات الليل من كل الأجناس ..

وكانت غاصة بالحانات والملاهى والمواخير التى لايحلم بوجودها الشيطان نفسه ..

وكانت مركزا مهما لتجارة الأفيون واستمرت على ذلك مائة سنة كاملة ..

وقد تطهرت شنغهاى من هذا كله بعد أن تحررت الصين من الاستعمار ..

والمدينة التى كان يقع بها 12 ألف حادث سرقة فى العام أيام الاحتلال وقع بها فى عام 1954 أربع حوادث سرقة فقط ..

***

وأصبحت المدينة ذات الجمال أعظم مراكز الثقافة والمعرفة فى الصين .. إن بها الآن 20 جامعة ومدرسة عالية ..

وبها 46 سينما و 73 مسرحا منها 3 مسارح كبيرة تعد من أكبر مسارح العالم ..

وبشنغهاى 117 فرقة أوبرا أشهرها عشر فرق : ثلاث منها ينج شو أوبرا ، وأنهيو أوبرا ، وشنغهاى أوبرا تعد من أعظم وأشهر الفرق فى الصين ..

والجمهور فى شنغهاى يعشق السينما والمسارح والأوبرات ويتردد عليها يوميا وتجد هذه الدور مزدحمة ، والناس تقف أمامها فى طوابير ..

***

ويدخل نهر هوانج بو شنغهاى من الجنوب ..

ويشق نهر سوشو قلب المدينة من الغرب إلى الشرق ، وفى النهر تسير البواخر الضخمة محملة بالبضائع ، وتسير لانشات الركاب من ضفة إلى ضفة ، وتسير زوارق الصيادين بالشراع الصينى الحالم ..

وتسير أنت بقدميك على كورنيش طويل ، طوله 108 كيلو مترات ، إنها مدينة الفخامة ..

وبشنغهاى مجلس الشعب ..

وعاش فيها الرجال الذين يحكمون الصين الآن ، عاش فيها ماوتسى تونج ، وعاش فيها شواين لاى ، وعاش فيها كاتب الصين لوسون ومات فدفن فى حديقة " هنجو بارك " وهى الحديقة التى كان يتنزه فيها ..

وعاش فيها الزعيم السياسى الدكتور صن يات صن ، وبيته هناك لايزال كما تركه بأثاثه وكتبه ..

وبشنغهاى كل نقابات الصين ..

نقابة الصحفيين ، ونقابة الأدباء ، ونقابة الموسيقيين ، ونقابة الممثلين فى الأوبرا ..

وبها ثلاث جرائد يومية صباحية كبيرة : جريدة الحرية .. و جريدة الأخبار .. و جريدة العمال .. و جريدة مسائية واحدة ..

وبها أكثر من 50 مجلة ..

والصحافى فى شنغهاى وفى الصين كلها ليست متقدمة فى الاخراج والطبع والتوزيع .. إذا قارنتها بالصحافة فى الهند واليابان ..

ففى شنغهاى جريدة كبيرة للأخبار والثقافة وتصدر فى 4 صفحات فقط ، وتزاد فى المناسبات إلى ثمانية ، ولا توزع أكثر من مائة ألف نسخة يوزعها الصبيان فى الصباح المبكر على البيوت ، ولا يوجد " سريحة " لبيع الصحف فى الصين ..

وقد كانت جريدة ون هين ديلى تخصص كل صفحاتها فى أيام معركة السويس لمصر ..

وقد رأيت فى صفحاتها صور المعركة برسوم الفنانين الصينيين ، وأكثر من صورة للرئيس جمال فى عدة مناسبات ..

***

وما أكثر المكتبات العامة فى شنغهاى :
مكتبة الشعب ، ومكتبة شنغهاى ، ومكتبة الآداب ، ثم مكتبة التاريخ ، وبكل ضاحية فى شنغهاى مكتبة ، وقاعات المطالعة كثيرة ، والجمهور الصينى يعشق القراءة ، تراه يقرأ فى الترام ، وفى القطار ، وفى الحدائق ..

ولا تزال هناك أمية كبيرة فى الصين ، أمية فى دولة تعدادها ستمائة مليون ، وهم يحاولون محوها بكل الوسائل ..

وإذا خرجت من الفندق إلى الشارع تجد شوارع شنغهاى غاصة بالرائحين والغادين والحركة متصلة وشديدة ..

وتجد رجال شنغهاى يرتدون البنطلونات السمراء والسترات المضمومة إلى العنق ، لباسهم واحد ..

أما المرأة فهى ليست موحدة الزى كما تراها فى بكين :
بعض النساء يرتدى الجونلة والصديرى الصوف ، والجونلة والجاكت ، والبنطلون الأسمر والرمادى والصديرى الصوف الأزرق والأبيض ..

والغالبية ترتدى الملابس الشعبية التى يرتديها الرجل :
البنطلون والسترة السمراء المضمومة إلى العنق ..

ولا توجد امرأة فى شنغهاى ترتدى الثوب المشقوق الجيوب الذى يبرز الفخذين ، لاتشاهد الزى الذى تلبسه المرأة فى هونج كونج ، ولا تشاهد من جسم المرأة أكثر من وجهها وشعرها ..

والجمهور يسير بسرعة على الرصيف ويقف طوابير فى انتظار السيارات والعربات والترام والتروللى باس ، ويركب الدراجات بكثرة فإنها وسيلة سهلة ورخيصة للانتقال ..

وعربة الركشا فى شنغهاى تتحرك بالعجلة ، ولا يجرها إنسان ، ولا توجد سيارات خاصة ، ندر أن تشاهد سيارة خاصة ..

وإذا دخلت فى غمار الناس وانتظرت معهم السيارة والترام على المحطة وجدتهم يقفون فى صمت وصبر ، وكل فى مكانه من الطابور ..

وإذا ركبت السيارة أو الترام أو عربة الركشا ، أو سرت على قدميك فأنت تتحرك فى شبكة متصلة من الشوارع الرئيسية ..

إذا تركت الضواحى جانبا وكنت تريد قلب المدينة لتشاهد المارة أو ترى الحوانيت ، أو كنت تريد أن تتسوق ، فأنت تسير فى شارع ين آن شنج ، وشارع ماونج ، ثم شارع شى من ، ثم شارع نانكنج ، وشارع تسانج شنج ، ثم ميدان الشعب ، وشارع فوشو ، وشارع ين آن تنج ..

وكل هذه الشوارع نظيفة وأرضها مصقولة كالرخام ، والحوانيت فيها على الصفين تعرض أحسن ما فيها فى " الفترينة " وهذا العرض الخارجى المتفنن لاتراه إلا فى شنغهاى ، فإن واجهة الحوانيت فى المدن الصينية الأخرى قاتمة وكئيبة ..

والجمهور فى الشوارع يتحرك بسرعة عجيبة ، كل فى شأنه ، ولا تجد على الرصيف متسولا أو متسكعا ، أو شخصا ممزق الثوب ، أو امرأة تبرز مفاتنها لتصيد الرجال ، أو قوادا يقودك إلى ماخور ، لاتجد هذا فى شنغهاى ، ولا تشاهد جندى البوليس فى الشارع ، الذى تراه فقط هو شرطى المرور ..

وإذا وقعت حادثة يظهر جندى البوليس بعد دقيقة واحدة ، ولا تدرى أخرج من بطن الأرض أم هبط عليك من السماء ..

ومعظم المبانى والبيوت فى شنغهاى ذات طراز أوربى ، والعمارات ترتفع من تسعة طوابق إلى أربعة عشر طابقا ..

وأعلى عمارة فى شنغهاى من 24 طابقا ..

والأرقام على البيوت بالحروف اللاتينية ، أما اللافتات على المتاجر والحوانيت فكلها بالحروف الصينية ..

وتجد فى شوارع شنغهاى المطاعم الصغيرة بكثرة ، وتجد القدور تغلى فى المدخل والبخار يتصاعد من الحساء ، والأرز ، والسمك ، والجمبرى ، وكل أنواع اللحوم موضوعة فى صحاف كبيرة بجانب المدخل ..

والطباخ الصينى فى المطعم الشعبى الصغير ، وفى أفخم وأكبر الفنادق يرتدى سترة بيضاء ناصعة البياض ، وهو نظيف أنيق ، ويداه تتحرك بسرعة مذهلة ، إنه أعظم طباخ فى العالم ، إنه يصنع لك أربعة آلاف صنف من الطعام ..

وهو فى الصين يعد فنانا ، وأستاذا ، ولا يقل فى المرتبة عن أستاذ فى المعمار ، أو أستاذ فى النحت ، أو أستاذ فى الأدب ، ولايزال الرجل فى الصين متقدما على المرأة فى الطهى وفنونه ، برغم أن المرأة متساوية مع الرجل مساواة تامة فى كل شىء ، متساوية معه فى الأجر ، وفى العمل ، ولكنها لم تصل إلى مرتبته فى فن الطهى ..

سألت سيدة صينية عن الطعام فى شنغهاى :
ـ أيهما يجيد الطهى أحسن من الآخر .. المرأة أم الرجل ..؟
ـ الرجل مع الأسف ..
وأردفت وهى تبتسم :
ـ وما تأكله الآن من لذيذ الطعام هو من صنع الرجل ، والمرأة كما ترى عملها مقصور على تقديم الصحون ..

وإلى جانب المطاعم توجد مشارب الشاى بكثرة ، والصينيون يشربون الشاى من غير سكر ، ويشربونه بكثرة ،الأسود والأصفر منه ..

ولكثرة شربهم الشاى لايشربون الماء على الطعام إطلاقا .. وإذا طلبت ماء يأتون به مغليا يتصاعد منه البخار ..

ويشربون على الطعام شرابهم الوطنى ، وهو مركز شديد ، كما يشربون النبيذ والجعة والمياه الغازية ، وكل هذه الأشياء من صنع بلادهم ، لا يأتون بشىء من الخارج على الاطلاق ..

***

وفى شوارع شنغهاى الكبرى ، كل المحال التجارية ، والمتاجر الكبرى ، ومحال الحكومة الكبرى رقم 1 ورقم 2 ورقم 3

وفى أيام الآحاد ، وهى أيام العطلة للعمال تجد هذه المحال مزدحمة وتتحرك فيها بصعوبة ..

والأسعار موحدة وثابتة فى كل شنغهاى ، المحال الصغيرة كالمحال الكبيرة ، وكل شىء يباع بالفاتورة حتى قطعة الصابون ..

وتستقبلك البائعة بالابتسام ، والرقة المذهلة ، وإذا اخترت شيئا تحرك " البلى " لتحسب الثمن ، ثم تبدأ فى كتابة الفاتورة ببطء وتأن ، وتعطيها ورقة مالية كبيرة ، فتأخذ الثمن وترد لك الباقى ، وهى تنحنى وتبتسم ، وتردد كلمة الشكر ..

وتلف البضاعة عادة فى ورقة خشنة ..

ومعظم العمال فى المتاجر الكبرى من الفتيات ، وهن يرتدين زيا موحدا ، وقليل منهن يعرف لغة أجنبية ، ولكنه تستطيع أن تكتب لك الثمن بالحروف اللاتينية ..

والمحال تفتح من التاسعة صباحا إلى التاسعة مساء دون توقف .. والمحال الصغيرة تستمر ساهرة إلى نصف الليل ..

وفى شنغهاى المفارش التى ليس لها نظير فى العالم ، وأحسن " بلوزة " تلبسها حسناء ، وأعظم نسيج من الحرير الطبيعى ، وأدق التحف والتماثيل الصغيرة والكبيرة ..

وهذه الأشياء كلها تصدر إلى الخارج ، لتأتى لهم بالعملات الأجنبية ..

***

والمرأة فى شنغهاى تشتغل فى المتاجر والفنادق ، والمطاعم ، وهى سريعة الحركة نشطة وثوبها نظيف وفى وجهها الصحة .. وهى ليست جميلة عادة ، ولكنها مشرقة باسمة ، والرقة أبرز صفاتها ..

وعندما ترى سربا منهن تعطيهن جميعا سنا واحدة ، وغالبا سن العشرين ، وأنت لاتستطيع قط أن تقدر سن المرأة الحقيقى ..
================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 324 فى 10/3/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " ـ الدار القومية للطباعة والنشر ط 1963
=================================


هانتشو مدينة البحيرات التى تكنسها النساء

" إن المثل الصينى القديم يقول :

" الجنة فى السماء ، وهانتشو على الأرض "

وعندما تدخل مدينة هانتشو تحس أن هذا الكلام صادق ولا مبالغة فيه ولا تهويل ، لأن الصينيين لايبالغون ولايحسنون حتى وسائل الدعاية عن أنفسهم .

ولو كانت هذه المدينة فى أوربا لتدفقت عليها الدولارات الأمريكية ، والفرنكات السويسرية والفرنسية والجنيهات الإنجليـزية ، والماركات الألمانيـة ، ولأصبحت المدينة التى يقصدها كل سائح فى العالم ، ولماتت بحيرات سويسرا ، ومتعرجات كابرى ، وسهول النمسا ، وسواحل الريفييرا ، ولكنها مدينة صينية معزولة ، كالحسناء الجميلة التى أبعدوهـا عن كل العشاق .

إن جو المدينة ربيعى ممتع ، ومناخها نادر المثال ، وسكانها 676 ألف نسمة يسكنون على البحيرة الحالمة فى مساحة قدرها 223 كيلو متر مربع ، ولا تحس لهم صوتا ولا تسمع لهم حسا فى ليل أو نهار ، وأشجار الخوخ ، والشاى ، والتفاح تكسو التلال ، والهضاب .

والباجودا ، والنمر الصخرى ، وجزيرة الشاى والمنظار بالأقمار الثلاثة ، وتماثيل بوذا وحوارييه من خالص الذهب ، وعلى ارتفاع 22 مترا تصبح كل هذه الأشياء لاقيمة لها ، إذا رأيت البحيرة ، ومن بعدها المصحة .

إن البحيرة على اتساع لاتبلغه العين ومن ورائها التـلال المخضرة الساكنة ، وفى وسطها الجزيرة الصغيرة الخضراء ، والبحيرة مع كل هذا الاتساع ليس لها عمق . إن المجداف الصغير فى الزورق يبلغ قاعها فى أى مكان ، وقد تكونت هذه البحيرة من الروافد الصغيرة من ثلاثة آلاف سنة ، ولسحرها عاش بين ربوعها معظم شعراء الصين . إن الزوارق الصغيرة تتهادى فى عرضها ، كما تتهادى الأحلام الذهبية فى رأس الفنان الملهم ، وفى كل زورق فتاة ، وهذه الفتاة هى الملاحة الحسناء ، ترتدى قبعة الخوص الكبيرة ، والبنطلون الأزرق ، وهى تستعمل الدفة كمجداف يتحرك فى حركة استعراضية من الخلف ، كما يتحرك الرقاص فى مؤخرة السفينة فيسير الزورق الحالم فى بحيرة ساكنة كالغدير ، إنها وحدها التى تشق بك صدر الماء فى رفق وأناة .

فإذا كنت تريد مزيدا من السرعة ، أو تريد أن تمرن عضلاتك ، أعطتك الفتاة مجدافا جانبيا صغيرا وجلست تساعدها ، وعيناك على أسنانها اللؤلؤية ، وشعرها الأسود الشديد اللمعان .

إن نســاء هانتشو من أجمل نساء الصين ، والشاعر bai chu yi عاش يتغزل فى غادة نادرة الجمال من هانتشو ، ويصف البحيرة فى مثل جمالها ، حتى تحولت الأشعار إلى أساطير .

مدينة الزوارق من غير عشاق

ولكن غادة الأساطير القديمة ، والزوارق الحالمة ، تتهادى فى البحيرة الآن من غير أحلام ولا عشاق . إن طابع الجد يكسو المدينة ، وقل من يخرج فيها إلى النـزهة ، وفيما عدا الرحلات المدرسية فى صباح الآحاد تموت المدينة الجميلة وتلفظ أنفاسها بعد أن تستيقظ بساعة ، وتصبح البحيرة الراكدة فى وهج الشمس كسراب فى الصحراء ، والزوارق الصغيرة الراسية على الساحل ، كأسراب الحدأة وهى تحط على الأرض كاسرة جناحيها .

إن الفندق الجميل الأنيق الذى أقامته الحكومة على شط البحيرة لم يكن فيه من النـزلاء أكثر من أربعين شخصا ، نصفهم هو الذى يتنـزه فى البحيرة فى ساعات الغروب وتحت ضوء القمر ، والسيارات المخصصة للفندق هى السيارات الوحيدة التى تجول فى المدينة .

إن المدينة كذراعى رجل عملاق مفتوحتين إلى أقصاهما ، ووسط الذراعين ترقد البحيرة كما ترقد الحسناء مسترخية فى أسى ظاهر ، ووراء ظهر الرجل تقوم التلال المكسوة بالعشب ويقوم شجر الخوخ وشجر الكمثرى وشجر التفاح وشجر الشاى والأزهار من كل الألوان وكل الأنواع ، تكسو الأرض وتهزها .

وبين كل هذه الأشجار الكثيفة وهذه الدغل والعرائش لايمكن بأية حال أن تعثر على عاشقين يتناجيان ، وتلتقى شفاهما فى قبلة ، فى ليل أو نهار ، لايمكن أن ترى هذا المنظر أبدا .يمكن أن ترى حبيبين يمشيان متهاديين وسط الأشجار والفتى يمسك براحة الفتاة ، وبينهما فاصل مقدار ذراع كامل .

***

إنك تستيقظ فى الصباح على شقشقة العصافير الصغيرة على الشجر ، فإذا فتحـت عينيك ونظرت من شرفة الفندق إلى البحيرة ، ترى منظرا ساحرا ، البحيرة الساكنة ، ومن ورائها التلال السوداء ، والكناسات فى لباس أزرق وبيدهن المكانس يكنسن الشوارع ، ويجمعن الورق الساقط من الشجر .

إن المدينة نظيفة ولو تركت أسبوعا من غير كنس لما جمع هؤلاء النسوة غير ورق الشجر . إن أحدا لايأكل فى الطريق ، ولايمكن إن يلقى أى شىء على الأرض ،وعلى كثرة الحدائق والبساتين فى المدينة لايمكن أن تعثر على وردة مقطوفة ، أو أى شىء أتلفته الأيدى ، أو سحقته الأرجل تحتها . والممتلكات العامة من المواد الخمس التى تلقن فى المدارس ويتعلمها الشعب كله : حب الوطن .. حب الشعب .. حب العلم .. حب الممتلكات العامة .. حب العمل .

مدينة الحرير

وإذا جلت فى المدينة ستراها ككل مدن الصين ، حوانيتها بسيطة لم تبلغ حد الأناقة ، وشوارعها صغيرة ونظيفة وجميعها مرصوفة ، والأشجار الصغيرة والكبيرة مغروسة على الجانبين ، ولا ترى فى الشارع إلا جندى المرور ، والناس جميعا الرجال والنساء فى لباس شعبى واحد ، البنطلون الأزرق والسترة المضمومة الأزرار إلى العنق .

وهانشو مشهورة بالحرير الطبيعى النادر ، إذا ضممت قبضة من النسيج ودعكتها سمعت أزيز النحل ، ومشهورة بالقبعات العريضة ، والمظلات الجميلة ، والأخفاف الحريرية الناعمة .

والفندق الذى نزلنا فيه كان كل شىء فيه من الحرير : اللحاف من الحرير الطبيعى المطرز ، والوسائد من الحرير المشجر ، وعليها رسومات الباجودا ، وقصر الصيف ، وقصر الامبراطور ، والستاير من الحرير الخالص ، والمفارش على الموائد من الحرير .

الحلة السحرية

وعلى ساحل البحيرة قادنى رفيقى الصينى إلى منـزل من طابق واحد ، وهناك استقبلتنا فتاة فى السادسة عشرة من عمرها بابتسامة مشرقة . إن هذا البيت يعتبر بيتا صينيا ، ولم أشاهد فى الصين سوى بيت الكاتب الصينى المشهور " لوسون " فى بكين وبيت الزعيم السياسى الدكـتور " سن يات صن " فى شنغهاى ، وكنت أود أن أشاهد بيت رجـل عادى من عامة الشعب ، وبيت عامل ، أو فلاح ، ولكننى لم أوفق ، ولعلهم يرون إن هذا البيت لم يبلغ المستوى اللائق فى الوقت الحاضر .

إن البيت الصينى الذى فيه الحلة السحرية ، عبارة عن بيت رجل متوسط الحال فى الريف المصرى ، بيت من بيوتنا ، بيت من طابق واحد ، وفى الطابق أربع حجرات كبيرة ، وبين كل حجرتين فناء ، والحجرتان الخارجيتان لاستقبال الضيوف ، والداخليتان لأهل البيت مع دورة المياه ، وفى البيت الكراسى نفسها المغطاة بالجوت ، والحرير المشجر فى قاعة الجلوس ، السرير الخشبى الكبير نفسه ، والدولاب الكبير فى حجرة النوم ، ولكن الصينى يعتنى بالستائر الحريرية والمفارش على المناضد ، وعلى الوسائد ، ويعتنى بالتماثيل : تمثال بوذا ، ويعتنى بالأوانى الخزفية .

وبعد أن قدمت لنا الفتاة الشاى الصينى ، فى الأكواب الصينية الكبيرة من غير سكر ، وقفت على حلة ممتلئة إلى حافتها بالماء ، وألقت فى هذه الحلة كل ما معها وما فى جيوب الواقفين من قطع فضية ، وبرونزية ، فلم تسقط من الحلة قطرة واحدة على الأرض ، ولم يزد الماء فيها بمقدار ملليمتر واحد .

ثم حركت يديها على أطراف الحلة بحركة سريعة ، فخرج منها نغم موسيقى عذب ، وأصبح الماء يلف كالدوامة ، ثم ضربت على الحلة بيديها ضربا آخر ، فارتفع الماء من الوسط أكثر من ربع متر ، وبقى كما هو فى الجوانب ، ولم يســقط من الماء فى خلال هذه الحركة أى شىء على الأرض .

وعندما انتهى عرض الفتاة السحرى أخرجت إيوانا من جيبى لأعطيه لها كمنحة ، ولكنها ردته ، وصافحت يدى الممتدة اليها بالنقود فى حرارة ، ولما كررت المحاولة ، قال رفيقى الصينى : إن أى الحـاح من جانبى سيقابل بالرفض ، لأن الفتاة ترفض البقشيش على طول الخط .

شجرة الشاى والباجودا :

وخرجنا من عند الفتاة لنجول بين الأحراج ، إن الأرض التى أسير عليها الآن مغطاة كلها بشجر الشاى ، وأنا فلاح .

وعندما أرى الزرع ينتفض قلبى وتهتز كل مشاعرى ، إن شجرة الشاى لاتختلف فى شكلها عن شجرة الطماطم التى نزرعها فى بلادنا ، إنها فقط أكبر قليلا ، وأكثر أوراقا ، وهى تنمو فى كل مكان تحت ماء الأمطار ، والصينى يحب الشاى ، ويشربه مرات عدة فى اليوم ، ويشربه من غير سكر ، ولايغلى أوراقه فى مغلاة ، كما نفعل فى المقاهى عندنا ، بل يضع ورق الشاى فى الأكواب ، ويصب عليه الماء المغلى .

وبعد أن شربنا الشاى قرب معبد من معابد بوذا ، صعدنا إلى الباجودا وكانت من 13 طابقا وبها 226 سلما .

والباجودا عبارة عن بناية تشبه المئذنة عندنا ، ولكنها أوسع والسلم من الداخل دائما ، وهى تبنى وسط الأحراج ، وعلى ساحل الماء ، ولم يعرف أحد ممن سألناهم الغرض الحقيقى من بنائها .

ولما وصلنا إلى الدور الأخير علمنا أنها بنيت منذ 1163 سنة .

ونزلنا من الباجودا وركبنا السيارات إلى مصحة العمال ، وبلغناها بعد ثلث ساعة إنها مصحة على ربوة عالية تطل على البحيرة ، ومن حولها الأشجار والورود ، وأختير الموضع فى مكان هادىء ساكن بعيد عن المرور وعن كل حركة تهز أعصاب المرضى ، ولقد بنيت المصحة فى سنة 1954 وتم بناؤها فى 250 يوما على أحدث ما تبنى المصحات .

إن الصينى يفخر بهذه المصحة ، وفى سجل زيارتها توقيعات كبار الزوار من أشهر أطباء العالم ، إنها تعالج ضغط الدم ، وأمراض الأعصاب والعلاج بالكهرباء والتنويم المغناطيسى ، وبالشمع ، وبالماء البارد ، والبخار .

والبناية مرتفعة 1400 متر من سطح البحر ، والجو صحى جاف فى أشد أيام الشتاء برودة ، وبها مسرح كبير على استعداد كامل ومطعم يعد من أجمل وأفخم ما وقعت عليه العين .

وهى معدة على أن يكون فى كل غرفة ثلاثة من المرضى وبها 60 ممرضة فى جمال الملائكة . والمقرر لإقامة المريض شهران ، وبعدها يقرر الطبيب الحـالة .

ونقابات العمال تتكفل بمصروفات العلاج فى هذه المصحة .

والمريض يدفع 45 سنتا فى اليوم للطعام ( حوالى سبعة قروش ) والحكومة تتكفل بباقى نفقات الأكل .

والعلاج بالشمع وبالماء ، يعد من أحدث ما وصل اليه الطب الحديث فى علاج الأعصاب .

والظاهرة البارزة فى المصحة هى نظافتها المطلقة وأناقتها وفخامتها ، وجمال موقعها ، ثم العناية الزائدة بالمرضى حتى أنهم كانوا يحسون صوت أقدامنا ونحن نجول بينهم .

وأجمل ما فى المصحة أن المرضى هم الذين يعزفون الموسيقى ويقيمون الحفلات الراقصة وهم الذين يؤلفون الروايات المسرحية ويخرجونها ويمثلونها .

***

وبعد أن نزلنا من المصحة بالسيارة واقتربنا من البحيرة ، أبديت رغبتى لمرافقى الصينى فى أن نركب زورقا فى ساعة الغروب ، وحقق لى هذه الرغبة .

ولما حركت الملاحة الزورق وأصبحنا فى وسط الماء طلع القمر ، فنظرت إلى الفتاة ، ولاحظت أنها جميلة جدا ، فقلت لمرافقى بالإنجليزية ليترجم لها :
ـ قل لها إنها أجمل من رأيت من النساء فى الصين ..
فابتسم وقال وهو ينظر اليها ..
ـ أنا لا أستطيع أن أقول لها هذا الكلام ..
ـ لماذا ؟ إن هذا إطراء عادى ..
ـ لا إنه غزل ، وليس من عادتنا إن نتغزل أمام الناس ..

ولاحظت أن الفتاة أخذت تحرك المجداف برفق ، لتحاول أن تفهم ما يدور بيننا لأنها عرفت أن الكلام يدور حولها
وقلت له أخيرا ..
ـ قل لها إنها ماهرة جدا ، وأبرع ملاحة رأيتها ..
ـ هذا أقوله بكل ارتياح ..
وقال لها هذا الكلام بالصينية ، فابتسمت وشكرتنى ،ولما انتهينا من جولتنا ، تركت الفتاة الزورق وقفزت إلى الشاطىء .

ورأيتها تسرع نحو شاب كان فى انتظارها ، فسألت مرافقى :
ـ هل هو صديقها ؟
ـ لا إنه خطيبها ..
ـ وأين يذهب بها ؟
ـ إنهما غالبا يتنـزهان بعد تعب النهار ..
ـ وهل يذهب بها إلى الهضبة بين الأحراج ؟
ـ إذا كانت لها رغبة فى هذه النـزهة ..
ـ وإلى متى تستمر فترة الخطوبة ؟
ـ ستة شهور أو سنة ..
ـ وفى خلال هذه المدة الطويلة ألا يحدث بينهما ما يحدث بين المتحابين : قبلة عناق ؟
ـ إن القبلة معناها الزواج ..
ـ أفرض أنه قبلها ..
ـ إن هذا لايحدث ..
ـ افرض.. أقول فرضا ..
ـ مادام سيتـزوجها فلا مانع ..
ـ وإذا لم يتـزوجها ؟
ـ إن هذا لايحدث أبدا ..
ـ ما الشىء الذى لايحدث ؟
ـ أن يعد شاب فتاة بالزواج ثم يتركها ، هـذا لايحدث ، هـذا لايحدث ..

وكان يقول هذا الكلام بحماس عجيب ونحن نقترب من الفندق ، وعلى الباب صافحنى كعادته وهو يقول مبتسما :
ـ غدا فى الثامنة صباحا سأنتظرك فى البهو ..

وكنت أضبط ساعتى على وقع أقدامه فى الساحة الخارجية ، المغطاة بأحجار صغيرة ملونة كحبات الزمرد ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما عاد محمود البدوى من هذه الرحلة نشر هذا المقال فى مجلة الجيل المصرية تحت عنوان " هانشو مدينة البحيرات " فى 2291958 وأعيد نشرها فى كتاب " مدينة الأحلام " 1963 كما نشر الكاتبان على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى مقتطفات من مقالاته فى مقدمة كتاب " قصص من هونج كونج " لمحمود البدوى الصادر عن مكتبة مصر 2001
=================================



نشرت فى مجلة الجيل المصرية ـ العدد 356 فى 20/10/1958

تانكنج مدينة الأمطار وزهرة اللوتس
ــــــــــــــــــــــــ

كانت تانكنج عاصمة الصين فى زمن الاحتلال اليابانى ، وهى من مدن الصين العريقة .. والجائل فيها يشعر بهذه العراقة ، ويشعر بأنها تستحق أن تكون عاصمة حقا فهى أجمل من بكين وأكثر اشراقا وأناقة ، وهى مثل هانشاو .. تتمتع بالجمال ، والبحيرات ، والزهور ..

إن زهور اللوتس تنمو فى كل مكان وتغطى بحيرة شوان وهو كلها حتى سميت بحيرة اللوتس ، وأصبح منظرها من أجمل المناظر وأبهجها للنفس ، وشوارع المدينة منسقة تنسيقا هندسيا رائعا .. ومن ميدان " سن شياكو " المتناهى فى الاتساع تتفرع شوارع هان شنج رود ، وشنج شان رود ، وشنج كيانج رود ، وهذه الشوارع الرئيسية توصلك إلى كل أنحاء المدينة ..

إن المدينة مقامة على مساحة قدرها 778 كيلو متر مربع ويسكنها مليون وأربعمائة ألف نسمة ، يقيمون فى منازل من ثلاثة وأربعة طوابق ، منازل سقوفها محدودبة وعليها الطابع الصينى الأصيل ..

ونوافذها كلها زجاجية ، ولا يوجد " شيش " من الخشب خارج الزجاج ، وإنما فى النافذة شباكان من الزجاج ، كل واحد وراء الآخر ، ويفتحان ويغلقان من الداخل ، وخلف ذلك يوجد الستار ، ولك أن تنشر الستار أو تطويه إذا شئت أن تتطلع إلى المطر ..

أمطار كأفواه القرب
ـــــــــــــ
إن الأمطار فى تانكنج تتدفق كأفواه القرب ، وتباغتك فى كل لحظة ، فإذا لم تكن معك مظلة ، غرقت تحت سيل من الماء لاتدرى متى ينقطع ، فقد يستمر ساعات ، والمدينة مستعدة لهذه الأمطار ببالوعاتها وشوارعها المرصوفة ، وبالمظلات التى تراها موضوعة فى مدخل الأبواب ..

فتتناول المظلة وتخرج إلى الطريق ، وعندما تعود من عملك تضعها فى مكانها ، وبغير هذه المظلة لاتستطيع أن تتحرك خطوة ..

والأشجار الكثيرة المغروسة على جانبى الطريق لاتقيك المطر ، وكذلك الحدائق وما أكثرها وأنضرها فى المدينة ..

إن الناس فى تانكنج يرتدون زيا شعبيا واحدا ويركبون السيارات العمومية وهى من صنع أيديهم ، وينتجون الصناعات الكيماوية التى تتدفق على كل مدن الصين ، والمصنوعات اليدوية الدقيقة التى تمتاز بالبراعة والدقة ويتميزون بالبشاشة والوداعة ، وخلق الرجل الدءوب الذى يعمل فى صمت وينتج شيئا تفخر به بلاده ..

وأنت لاتشعر فى هذه المدينة بالزحام الذى تراه فى شنغهاى ، ولا بالغبار الذى يثور فى وجهك وأنت تقترب بالسيارة من بكين ، فتانكنج مدينة تمتص حدائقها وأزهارها كل غبار ..

الفلاح الصينى والأرز
ـــــــــــــــ
والمدينة التى يحيط بها سور ضخم ، كأنه السور العظيم ، مركز حيوى للثقافة ..

فيها أوبرا ، تضارع أوبرا بكين ، وبها مكتبة ضخمة وعشرة معاهد عالية وجامعة من أعرق جامعات الصين ، وبها 79 مدرسة متوسطة وثانوية وأكثر من 315 مدرسة ابتدائية ..

ولو خرجت من المدينة إلى ضواحيها ترى الأرض كلها مخضرة ، وترى أشجار النبو كثيرة ، وتعرف أن الزراعة الأساسية فى هذه المنطقة هى الأرز ، والقمح ..

فإذا اقتربت من الفلاحين تراهم يستعملون الطريقة المصرية نفسها ، فى ضم المحصول وفى التذرية ، ومعهم المذراة نفسها .. والأدوات اليدوية نفسها ، إن الفلاح الصينى لايزال يعيش فى عالمه القديم ، والتطور حدث فقط فى المراكز التعاونية ..

ولكن الفلاح الصينى الذى يستعمل يديه تلازمه المرأة كظله ، لاتفارقه أبدا فى حقل أو بيت ..

المرأة والرجل
ــــــــــــ
إن المثل الصينى القديم يقول :
" إن عشرة نجوم لاتعطى ضوء القمر " .. يعنى أن عشرة نسوة لايساوين رجلا واحدا ، والظاهر أن هذا المثل لايزال ساريا إلى الآن ، فى الصين ، برغم كل ما حدث فى حياتها من تطور ..

فالحفلات الرسمية فى تانكنج وفى كل مدن الصين لم يكن يحضرها من النساء إلا ممثلات الأوبرا ، وممثلات السينما ..

ولم تشاهد غير هؤلاء ، والظاهر أن المرأة الصينية لاتدعى إلى الحفلات العامة ، ولاتزال هذه القاهدة سارية قبل الثورة ، وبعد الثورة ..

والمرأة فى الصين القديمة كانت تحمل إلى منزل زوجها فى محفة ، كما تحمل عندنا فى الريف على جمل ، وهناك ترى زوجها لأول مرة ..

وكان الزوج يستطيع أن يتزوج منهن ما يشاء ، حتى مائة ، ويتخذ منهن سرارى كما يحب ، ولقد أعتقت المرأة من كل هذا بعد قانون الزواج الجديد ، وأصبح الرجل لايستطيع أن يتزوج أكثر من واحدة ، وأصبحت المرأة مساوية للرجل فى كل شىء ..
ولكنها لاتزال حتى الآن لاتدعى إلى الحفلات العامة ..

وأشهد أن ممثلة الأوبرا التى جلست تتعشى معنا فى حفلة العشاء فى فندق تانكنج كانت ثقافتها تعدل ثقافة عشرين رجلا ..

وكانت قد مثلت على المسرح فى الليلة الماضية دور غلام عاشق ، فلما رأيتها أمامى هذه الليلة ذهلت من براعة المكياج الذى وصل إلى الحنجرة ..
فقد كان صوتها العادى أخشن من صوتها على المسرح ..

ولما حدثتها عن عجبى ضحكت وسألتنى :
ـ أهذه أول مرة تزور فيها الصين ..؟
ـ نعم هذه أول مرة ..
ـ لابد أن تزورنا مرات ، لتعرفنا ..

وسألتها بعد أن حدثتنى عن زوجها :
ـ أعندك أطفال ..؟
فضمت ذراعيها على صدرها وضغطت ..

وقد فهمت من هذه الحركة حنان الأمومة الدافق ، الذى يفوق كل ما يعبر عنه اللسان ..

وسألتنى :
ـ ما الذى زرته فى المدينة ..؟
ـ فير منج ، والمكتبة ، والجامعة ، وبيت الشباب ، وقصر العمال الثقافى ، وسور تانكنج وبحيرة شوان .. و .. و ..
ـ ورأيت زهور اللوتس ..؟
ـ إنها أجمل الأشياء طرا ..
ـ وقبر صن يات صن ..؟
ـ لم أره بعد ..
ـ لابد أن تراه ، لأنك سترى أعظم قبر فى العالم ..

***

قبر صن يات صن
ـــــــــــــ
وكان كلامها صدقا ، إنه أعظم قبر فى العالم ، إن الرجل الذى أنشأ الصين الحديثة ، جعلوا له أعظم لحد لايمكن أن يصممه عقل بشرى .. إن قبور العظماء كثيرة فى العالم ، والأضرحة لاعداد لها وقد تكون من الرخام أو المرمر ، أو الجرانيت أو من الذهب المطعم بالأحجار الكريمة قد تكون من هذا ومثله ..

ولكن قبر صن يات صن شىء غير هذا كله وليست فخامته لأنه من المرمر أو الذهب ، وإنما فخامته فى موقعه وفى اختيار المكان ..

إنك تمر بالقبور ، ولاتحس بوجودها ولا تراها .. ولكن هذا القبر يجعلك تحس به وتراه ..

إنه مقام على ربوة عالية ، وسط مناظر طبيعية خلابة .. مناظر عديمة النظير .. وأن شجر النبو المتناهى فى الجمال يزهو على الجانبين ..

ولكى تصل إلى الضريح تصعد 392 سلما ..
وعرض السلم مائة متر ..
والقبر مقام على ارتفاع قدره 158 مترا فوق مستوى الماء ..
ولكى تصل إليه تصعد منحدرا من السلالم الرخامية طوله 356 مترا ..
وبناية الضريح غاية البساطة ، وتجد فى الداخل تمثالا من الرخام بحجم صن يات صن الطبيعى ..
وقد بدىء فى بناء القبر سنة 1926 وتم البناء فى 1929 وفيه يرقد الرجل ، الذى نادى بالمساواة والعدل للجميع ..
والذى كان يقول كل الأرض التى تحت الشمس للشعب ..

النظام فى الفندق
ـــــــــــــــ
لماذا تقدمت الصين ونهضت ، وتخلصت من الأفيون ، ومن الدعارة ، ومن البلهارسيا ، ومن الذباب ، ومن القذارة ، ومن الغبار ، الذى يتطاير ، فى وجوه الركاب فى مركبات السكك الحديدية ..؟

ولماذا تتطور بسرعة ..؟ والزائر فى سنة 1958 يرى فيها شيئا جديدا غير ما شاهده فى سنة 1957 وسنة 1956 إنها قضت على هذه الأشياء كلها بالعلم والحزم والنظام ..

إن المقيم فى فنادق الصين يعجب للنظام الذى لاشبيه له برغم كثرة النزلاء وكثرة الوفود من مختلف أنحاء العالم احتفالا بثورة أول اكتوبر ..

فإن آلاف الحقائب تنقل من بكين إلى شنغهاى ، وإلى كانتون ، وإلى تانكنج دون أن يحدث خطأ واحد ، ودون أن يكون للمسافر أى جهد يبذله فى نقل حقائبه من مدينة إلى مدينة ومن فندق إلى فندق ..

يكفى أن يعرفوا أنك مسافر صباحا بالقطار ، أو بالطائرة ، وهم يتولون عنك كل شىء فى دقة عديمة النظير ..

وفندق تانكنج يتمتع بالهدوء والجمال الساحر ، وبفتيات مكتب السياحة اللواتى يتميزن بالجمال والرقة والثقافة العالمية ..

وكانت مرافقتى معيدة فى الجامعة ، وقد تطوعت لهذا العمل الجليل كمترجمة عندما كثرت الوفود على المدينة ، وأصبح عدد الذين يعرفون الإنجليزية لايكفى الزوار .. إنها أنيقة متأنقة فى العشرين من عمرها ، وهى تمثل فتاة الصين الحديثة ، بكل ما فيها من صحة وجمال وثقافة ..

إنك تترك تانكنج ، وأنت تشعر بالأسف ، لأن المدينة جميلة وساحرة حقا ، ولا يشبع من حسنها زائر .. وفى ليلة السفر تضع حقائبك كلها على باب غرفتك من الخارج ، وتبقى معك فقط الحقيبة الصغيرة التى تضع فيها دفتر مذكراتك وأدوات الحلاقة ..

وإذا فتحت الباب فى الصباح ونظرت إلى مكان الحقائب تجده خاليا ، ولاترى لها أثرا فى بهو الفندق أو فى السيارة التى توصلك إلى المطار ..

وعندما تصل كاسكاو وتجلس فى بهو الفندق الخارجى تعطى بطاقة صغيرة عليها رقم الغرفة التى حجزت لك ..

وعندما تصعد إليها تجد حقائبك كلها موضوعة بعناية فى داخل " الدولاب " المخصص للحقائب ..

ولا يأخذك العجب من هذا النظام الدقيق ، لأنك ألفته فى الصين ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل المصرية ـ العدد 356 فى 20/10/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " ـ الدار القومية للطباعة والنشر ط 1963
=================================

نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 371 فى 2/2/1959
هنكاو أجمل مدينة على النهر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

هنكاو مدينة جميلة على نهر يانجسى أطول أنهار الصين ، وعندما تدخلها تحس بأنك تقترب من الريف ، ومن الأرض العذراء فى وادى العمالقة ..

إن أهلها بسطاء كرماء يتجمعون حول السيارة التى تدخل مدينتهم ، كما يتجمع أبناء الريف عندنا حول أية عربة تدخل القرية وهم فى لباس شبه موحد ، ومن كل الأعمار ، ومن الجنسين . وقد شاهدوا عشرات السيارات من قبل ، ولكنهم مع هذا كله ينظرون إليك فى فضول لاتعرف سببه ، وعلى وجوههم الابتسام والوداعة ..

وإذا دخلت المتجر انتظروك على الباب حتى تخرج إليهم ، إنهم فى رداء أزرق ملون من السترة والبنطلون ، الرجال والنساء ، ولكن النساء منهن لسن فى أناقة سكان شنغهاى ..

إن مدينة هنكاو تضم ثلاث مدن صغيرة جميلة :هانكاو ، أوشان ، يوهانو
وتتمتع بموقع يجل عن الوصف ، إنها تقع على النهر ، وعلى البحيرة الشرقية وعلى تلال من الزمرد ، ويصلها كوبرى يانجسى ، وهو أعظم تصميم هندسى فى الصين الحديثة ..

والمدينة طرازها أوربى خالص ، لاتفرقها عن أية مدينة فى وسط أوربا أو فى شرقها ، والمنازل من أربعة وخمسة طوابق ، وسقوفها محدودبة ، وتطل منها المداخن ..

ولأول مرة ترى الشرفات الخارجة فى مدن الصين ، الشرفات المكشوفة لأن جو المدينة ليس باردا ، وفى خلال شهر نوفمبر تستطيع أن تنام ونوافذ الحجرة مفتوحة .

إن الجو فى الخريف لايختلف عن جو القاهرة فى نوفمبر ، فقد يتساقط المطر رذاذا متصلا ثم ينقطع ، والسماء الصافية فى الصباح ما تلبث أن تتلبد بالغيوم ، وتظل مغشاة بمثل البرقع على وجه الحسناء الضاحكة ، وتتساقط بالطل فى هذا الجو الشعرى المنعش ثم ينقشع ..

ولكن المطر لا تأثير له البته على عمل الناس ، وحركة البيع فى المتاجر فإنها تبلغ أشدها فى الساعات الأخيرة من النهار عندما يفرغ العمال من عملهم اليومى ..

وهانكو ، وما يجاورها من مدن يشقها نهر يانجسى وهو أطول أنهار الصين طوله 500 ,5 كيلو متر ، وعرضه أكثر من 1760 مترا يشقها فى رفق ، وتتهادى مراكبه الكبيرة على الضفتين ..

والمدينة تطل على البحيرة الشرقية وتحف بها التلال الخضراء والهضاب المكسوة بالعشب ، وشجر الكمثرى والورد ، فأينما نظرت وجدت الجمال ، فتسيح فيه وتتأمل ، كما يتأمل الشعراء والفنانون ..

ومن خلال هذه الوقفة الحالمة تعرف أنك فى مدينة بها أجمل كلية للفنون ..

كلية الفنون
ــــــــــــــــــــــ
فى هذه الكلية عدد 70 طالبا فقط فى الأقسام العالية ، دخلوها بعد إتمام الدراسة المتوسطة ، ويتلقون العلم على عدد 74 أستاذا وأستاذة ، وبالكلية 180 طالبا فى الأقسام المتوسطة ، ويدخل الطالب هذه الكلية بعد تدقيق واختبار ، لأن الدولة ترغب فى اخراج فنانين حقا ، وتختار رغبة الطالب أولا ، ثم رغبة الدولة ..
ومدة الدراسة بالكلية خمس سنوات ..
ويقبل التلاميذ من سن 17 إلى 23 سنة ..
ويجب أن يتعلم الطلبة أنهم يعملون للشعب ، ويجب الاحتفاظ بالتقاليد الصينية القديمة ، ثم الاستفادة من فن الغرب ..

والدراسة 5 ساعات فى اليوم ، والمدرس يعطى 20 ساعة فى الأسبوع ..

وهؤلاء الطلبة جميعا داخلية ، يتلقون العلم فى المدرسة ، ويخرجون إلى الطبيعة وقد حبت الطبيعة مدينتهم بأجمل المناظر الطبيعية على الاطلاق ..

وقد ظهر هذا واضحا على فنهم ومفروشاتهم ، وهم يتميزون بالوضوح وبروز الشخصية ، وعمق التعبير .. وتراهم يرسمون على البحيرة ، وعلى النهر ، وإذا عبرت النهر ترى كوبرى يوهان ..

كوبرى يوهان
ـــــــــــــــــــــــــــ
إن كوبرى يوهان هو أعظم بناية حديثة فى الصين قاطبة ، إنه كوبرى على ارتفاع عمارة من عشرين طابقا ، وتصور هذا الجلال وطوله 1760 مترا ، وارتفاعه عن قاع الماء 80 مترا ، وهو قائم على ثمانية بغال كبيرة ، وعرض الكوبرى من جانبه 18 مترا ، وهو مبنى من طابقين ، الطابق العلوى للعربات والسيارات والمشاة ، والسفلى للقطارات المحملة بالبضائع ، ويحتمل قطارين فى وقت واحد ذاهب ، وراجع ، بكل ما فيهما من حمولة ..

ويمر على الكوبرى يوميا من 80 ألف إلى مائة ألف شخص ، ولارتفاعة الشاهق تمر من تحته السفن بسهولة دون أن يكون فى حاجة لأن يفتح ويغلق ، والقطر تمر عليه بعدل كل 20 دقيقة قطار ..

وقد بدىء فى بناء الكوبرى فى سبتمبر سنة 1955 ، وتم فى سبتمبر 1957 .. وفتح فى 15 من سبتمبر سنة 1957 للمرور ..

وتم البناء قبل الميعاد المقرر بسنة كاملة ، وهم فى زهو لهذا النصر ..

وقد تكلف الكوبرى 000, 400، 138 ايوان " والايوان يساوى 14 قرشا " واشتغل فى البناء 12000 عامل ، وقد عاونهم الخبراء الروس فى التصميم والبناء معاونة صادقة ..

وفى الكوبرى 4 مساكن كبيرة بالمصاعد : اثنان فى كل جانب ..

وهذا العمل العظيم محوط بكل رعاية ، وصيانة الكوبرى ونظافته تفوق كل حد ..

وهناك مهندس مقيم فى بنايتة ، بصفة دائمة يقدم لك الشاى فى قاعة فسيحة مؤثثة بأجمل الرياش ، ويشرح لك فى إسهاب بالغ وتفصيل دقيق كل الأشياء الفنية التى تحب أن تعرفها ..

عمل عظيم
ــــــــــــــــــــــ
وهذا الكوبرى يعرف موقعه الآن وتاريخه كل فرد فى الصين ، كما يعرف المصريون موقع الهرم ..

وعندما وزع مهندس الكوبرى علينا الشارة التى تحمل رسمه ، ووضعتها على صدرى ، كان كل من يراها من الصينيين فى أية مدينة أخرى يعرفها على الفور ويقول فرحا :
ـ آه كوبرى يوهان ..

وفى مدينة هونج كونج ـ المدينة التى لا يزال يحتلها الإنجليز ـ كان الصينيون فى المحال يقولون لى بمجرد أن أدخل :
ـ أوه .. أنت قادم من يوهان ، ورأيت الكوبرى ..
ـ وإذا اخترت شيئا ، وسألت عن ثمنه ، قالوا لى :
إنه بعشرين دولارا ، ولكن لأنك قادم من يوهان ، ومن أمنا الصين سنجعله بسبعة عشر فقط ..

مبنى جمعية الصداقة الصينية الروسية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفى هانكاو بناء فخم ، إنه مبنى جمعية الصداقة الصينية الروسية وقد بلغ الحد فى الروعة ، ومن أعظم البنايات الحديثة جمالا وفخامة ، وبه قاعة فسيحة للرقص تسع أكثر من ثلاثة آلاف راقص ـ زوجين اثنين ـ .

وفى قاعة المسرح بالمبنى شاهدنا رقصا شعبيا ، وفرقة أكروبات وألعابا بهلوانية رائعة من فرق صينية ..

وكانوا يحتفلون بمرور 40 عاما على ثورة روسيا الصديقة ، ويحيون هذه الثورة بالأغانى والأناشيد الصينية ، ووقف أكثر من عشرين رجلا وامرأة من الروس على خشبة المسرح يردون على هذه التحية ، بنشيد مماثل ..

وعاد الروس إلى مكانهم فى الصالة ، وكانوا يجلسوننا معهم فى الصف الأول ..

ولاحظت أن الروسيات لايتأنقن فى الزى ، ولا يعنين بتجميل الوجه ، ومع أنهن سائحات وفى رحلة إلى بلد أجنبى ومن بينهن راقصات من أشهر فرق الباليه فى سيبيريا ، فكن يرتدين فساتين من كل الألوان ومنها المشجر ..

وإذا جلست بجوارك واحدة منهن فإنك تحس بالرغبة فى محادثتها كما تحس بهذه الرغبة وأنت جالس بجوار الصينية ..

قاعة الرقص الكبرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعد التمثيل دخلنا قاعة الرقص الكبرى ، ورأيت الفتيات الصينيات الشابات فى أجسام متقاربة ويخيل إليك أنهن جميعا فى سن واحدة ، وعلى وجوههن الصحة والنضارة يرقصن كأرشق ما ترقص النساء وهن يرتدين الزى الشعبى أو لابسات البنطلون الأزرق والبلوزة السمراء والسنجابية ، كن يراقصن الشبان الرقص الأوربى ، على أنغام الموسيقى الخفيفة الحالمة ..

ولاحظت أنهن جميعا يرقصن هذه الرقصات الأوربية الحديثة فى براعة .. ويرقصن بقلوبهن ، ويرقصن عن شغف ورغبة ..

وتخرج من السهرة شاعرا بالنشوة فإذا مررت على الكوبرى فى الليل رأيت السحر بعينه ..

إن المدينة تتراقص أنوارها على صفحة الماء ، وتنعكس حبات الدر من كل الألوان ، فتتيه فى هذا الجمال ..

والكوبرى نفسه يعكس نورا قويا حالما كأنه القمر تحيط به كل النجوم التى فى السماء ..

فإذا بلغت الفندق رأيت الجنة على الأرض ..

الفندق الجميل :
ــــــــــــــــــــــــــ
إن الفندق فى يوهان تملكه الحكومة ، وأقامته على شط البحيرة الشرقية كأعظم متعة للمسافر ..

إنه من طابق واحد دائرى وصاعد على الربوة ، وشرفاته على الماء مباشرة ، وأنواره تعكس حبات الياقوت والمرجان ، على صفحة البحيرة الساكنة الغدير ..

وفى الحجرة الواسعة المجهزة بفاخر الرياش حمام خاص " لوكس " وباب زجاجى وراءه باب آخر من السلك المضفر ، يفضى بك إلى شرفة طويلة ، تجلس فيها لتتأمل بدائع ما صنع الله ، أو تنزل منها درجات إلى الماء ، لتركب الزورق إلى الشاعر شى ين ، وشى ين مات من 2300 سنة ..

ولكن تمثاله قائم هناك على البحيرة مباشرة وفى فضاء ، على اتساع سبعة كيلو مترات كاملة ، فتأمل أى موقع بين المروج والأزهار والماء ، والبلد الذى يحب الشعر ويخلد الشعراء ، أقام قاعة تخليدا لهذا الشاعر ، فى هذا المكان الفريد ..
وفى هذه القاعة مخطوطاته ، ومؤلفاته ، وتمثاله ..

جامعة يوهان :
ـــــــــــــــــــــــــ
ومن شرفات الفندق الجميلة ترى ربوة تشرق مع شمس الصباح من خلال الضباب الخفيف ، وعلى هذه الربوة العالية تقع الجامعة ..

إن جامعة يوهان جامعة قديمة ، أقيمت على هذه الربوة فى أجمل بقعة فى المدينة ..

وعندما تدخلها تشعر أن الطلبة منصرفون إلى العلم حقا ، ومتفرغون بكليتهم له ..

وفى الجامعة ثلاثة فروع رئيسية للعلوم ، والفنون ، والقانون ، وأحد عشر قسما ..

وبها 530 مدرسا ..
و 3400 طالبا ..
والدراسة بها خمس سنوات ..

والدراسة عملية قبل أن تكون نظرية ، فالطلبة يلحقون بالعمل فى المعامل كما أنهم يذهبون إلى الريف ، واسترعى نظرنا الأماكن المخصصة لاستذكار الطلبة ، فى جمالها ونظامها وإعدادها بكل سبل الراحة ..

ثم ملعب الجامعة الكبير تحفه الأشجار العالية ..

والمكتبة بها أكثر من مليونى كتاب ، وهى بناية مستقلة فخمة ..

وعندما تركنا الجامعة ، وأخذنا نهبط المنحدر بين المروج والأزهار ، تمنيت لو أبقى هناك ساعة أخرى جالسا على العشب الندى بين الأشجار ، وبيدى " فرشاة " أرسم بها بعض هذا الجمال ..
====================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 371 فى 2/2/1959
وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " سنة 1963
====================================





ليست هناك تعليقات: